الأحد 20 يوليو ,2025 الساعة: 07:25 مساءً
توطئة
في الفيزياء الكلاسيكية، تُعرَّف الكتلة بأنها مقاومة الجسم للتغيير في حالته؛ إذ يظل ساكنًا أو مستمرًا في حركته ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تُحدث هذا التغيير. ووفقًا لهذا المنظور الفيزيائي، يمكن مقاربة القول إن "الإمامة الزيدية"، وسواها من النظم السياسية في التاريخ اليمني، تشبه الكتلة الفيزيائية؛ فهي تستمر في حالة من الجمود أو الثبات ما لم تتدخل قوة خارجية قادرة على كسر هذا السكون ودفعها نحو مسار مختلف.
العقدة اليزنية: القوى الخمس ومأساة التاريخ اليمني
على المستوى اليمني، وفي ظل ما يُعرف بـ "العقدة اليزنية"، نجد الكاتب بلال الطيب، يذهب إلى القول:
"على مدى الألفي سنة الماضية، والآخرون يتحكمون فينا: من الحبشة، إلى فارس، إلى الحجاز ونجد، إلى مصر وتركيا."
في هذا التصور، تُرسم خمس قوى خارجية وكأنها تمثل "محصّلة فيزيائية" لتأثيرات متراكبة أسهمت في تشكيل الواقع اليمني عبر تاريخه، وأثّرت في مساره السياسي والاجتماعي والثقافي. ويفضي هذا التحليل إلى ما يمكن تسميته بـ "المحصّلة التراجيدية"، حيث ظلّت قوى الداخل خاضعة لنداءات الخارج، عاجزة عن توليد طاقة ذاتية فاعلة للتغيير أو المقاومة.
غير أن هذا الطرح، رغم وجاهته التاريخية، يُغفل السياق الداخلي للمجتمع اليمني، ويردّ أسباب الجمود والانسداد السياسي إلى التدخلات الخارجية أو الصراعات البينية، دون مساءلة البنية الاجتماعية والدينية والثقافية التي سمحت باستدامة هذا النمط من التبعية أو القابلية للاختراق.
وهكذا، وكمحصّلة لتأثير القوى الخمس التي أشار إليها الكاتب، لا تزال آثارها حاضرة، شاهدة على الحال والمآل؛ إذ تستمر في تكريس تركيبتها المذهبية والاجتماعية والثقافية، بما يخدم مصالح حلفائها في الداخل، ما يخلق دورة مغلقة من التأثير المتبادل بين الداخل والخارج، تُبقي اليمن في حالة استعصاء سياسي وتاريخي مستمر.
الإمامة وثقوبها السوداء
في منتهى مقدّمة المتاهة، يلخّص لنا الكاتب مشهد "الثقوب السوداء" في التاريخ اليمني، المتجسّدة في مفهوم الاصطفاء والحق السياسي المقدس.
فيزياء الفصل الاول:
تتشكّل فيزياء الفصل الاول، من المتاهة في دوامةٍ دائرية، تدور حول الصراع الإمامي البيني، والضعف المرحلي، والانحسار السياسي، والفراغ الذي يشتهي الامتلاء، والدوران حول مركزية مطلقة تعيد الإمامة بوصفها وعدًا أزليًا، لا يمكن الفرار من جاذبيته، حتى كأنه سديمٌ فكري مغلق.
الأنظمة الديناميكية المغلقة
تقودنا المقاربة الفيزيائية للفصل الأول من المتاهة إلى توصيف نظام الإمامة كنظام ديناميكي معزول حراريًا؛ لا يتبادل الطاقة أو التأثير مع محيطه، مما يؤدي إلى تزايد الإنتروبيا (الفوضى) بمرور الزمن، فينهار النظام تدريجيًا وصولًا إلى "الموت الحراري"، وهي نهاية مشابهة لزيادة الفوضى الاجتماعية والفكرية في نظامٍ مغلق على ذاته.
في هذا السياق، يبدو الزمن داخل المتاهة الإمامية وكأنه متجمِّدٌ تاريخيًا، بينما في الفيزياء النسبية، الزمن نسبي، يتمدد وينكمش وفقًا لسرعة الجسيم. أما الزمن الإمامي، فلا يزال جامدًا في أُطره الأيديولوجية، مقيَّدًا بثقوبه السوداء التي تبتلع كل احتمالات التقدّم أو التغيير.
الكتلة السياسية والممانعة للتغيير
يعيد الكاتب تصوير ممانعة الإمامة للتغيير، واصفًا إياها بأنها "كتلة متضخّمة" بموقعها الاصطفائي وسكونيتها الأيديولوجية، تتطلّب قوى خارجية – شعبية أو ثورية – لكسر سكونها وتحريكها نحو التغيير. وهي كتلة سياسية تنزع نحو الحفاظ على ذاتها، تمامًا كما تفعل الأجسام في الفيزياء الكلاسيكية حين ترفض تغيير حالتها دون تدخل قوة مؤثرة.
الازدواجية الإمامية ومبدأ الكم:
في ميكانيكا الكم، تُعد الازدواجية الموجية–الجسيمية أحد الأسس الجوهرية؛ فالجسم المادي يُمكن أن يُظهر صفات الموجة والجسيم في آنٍ واحد. هكذا تبدو الإمامة في المتاهة، موجية في خطابها الروحي المترفّع، وجسيمية في سلطتها القمعية والعملية. إنها ازدواجية كامنة في كل خطاب شمولي.
الحتمية والقدر الإمامي
في الفيزياء الكلاسيكية، ترتبط الحتمية باليقين: إذا عرفنا الشروط الابتدائية لحركة جسيم، نستطيع حساب موقعه وسرعته بدقة في أي وقت. لكن في ميكانيكا الكم، تنقلب الحتمية إلى احتمالية؛ فلا يمكن تحديد الموقع والسرعة معًا بدقة، طبقًا لمبدأ عدم اليقين.
الإمامة، كما يصوّرها كتاب المتاهة، تتّخذ من الحتمية الكلاسيكية منهجًا وقدرًا مقدّسًا: القدر الإلهي سبب أزلي لبقائها، لا مجال فيه للمصادفة أو الإرادة الشعبية. إنها نظام حتميٌّ في منطقه، مغلق في رؤيته، رافض لفكرة الاحتمال والاختيار.
الفصول الباقية من الكتاب
تنحو بقية فصول كتاب المتاهة ذات المنحى في مقارباتنا الفيزيائية، حيث تصبح "العقيدة الامامية" شبيهة بقوانين الحفظ في الفيزياء (كقانون حفظ الطاقة مثلًا)، وتغدو "الثورة" بمثابة تلك القوى الخارجية التي تغيّر من حالات النظام، بينما تصبح انهيارات الأنظمة وسقوطها معادلةً للتحولات الطورية في الفيزياء، حين يتغير شكل المادة جذريًا تحت ظروف معينة، دون أن تتغير بنيتها الأساسية.
خاتمة:
تقف هذه المقاربة عند حدود كتاب المتاهة، ولا تتجاوز مضمونه إلى مقاربات فيزيائية شاملة للأنظمة السياسية الأخرى، كالنظام الجمهوري في شمال اليمن بعد ثورة 26 سبتمبر، أو نظام الحزب الاشتراكي في الجنوب، أو نظام الوحدة الذي مثّل اندماجًا بين نظامين غير متجانسين في بنيتهما وتكوينه الاجتماعي–السياسي.
كما أنها لا تمثّل مقاربة فيزيائية موازية للأنظمة العربية على المستوى الإقليمي، بل تظل قراءةً موضوعية، تستند إلى مفاهيم مستمدة من الفيزياء الكلاسيكية والحديثة، دون أن تتجاوز نطاق هذا الإطار التحليلي.
تعز، 20 يوليو 2025م