حرب الأسابيع السبعة (2-1)
الأحد 12 ديسمبر ,2021 الساعة: 02:22 مساءً

أدرك حاكم صبيا (عسير تهامة) محمد بن علي الإدريسي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أنَّ الإنجليز استنفذوا مصالحهم معه، وأنّهم سيتخلون عنه بِمُجرد اتفاقهم مع الإمام يحيى حميد الدين، وأنَّه لا يستطيع لوحده مُواجهة الأخطار المُتربصة بإمارته، ذات الجغرافيا السهلة، والمُحاطة بجيران أقويا؛ فما كان منه إلا أنْ يَمم أنظاره صوب حاكم نجد عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود، أرسل إلى الأخير وفدًا لطلب المُساعدة، لتُعقد في الـ 21 أغسطس 1920م اتفاقية أخوة وصداقة ودفاع مُشترك بين الجانبين.
     
أرسل حاكم صبيا بعد ذلك برسالة لحاكم نجد طلب منه رعاية أولاده وعائلته بعد وفاته، جاء فيها: «أني جلت النظر في أنحاء الجزيرة فلم أجد أهلًا للثقة ورعاية عهود الإخاء سواكم، واعلموا أنَّ ابن آدم رهن المنون، فإذا توفاني الله فأنتم المُقلدين بالوصاية على عائلتي وأهل بيتي»، ولكسب وده أكثر أطلق على ابنه الذي ولد آنذاك اسم (عبدالعزيز)! وتبنى رغم تصوفه الدعوة الوهابية، وأمر بهدم ضريح جده أحمد الإدريسي، والقباب المبنية عليه، وهدم جميع الأضرحة والمزارات في كافة مناطق إمارته، وحين حانت منيته أوصى أولاده بِالمُحافظة على تلك العلاقة.

بتولي علي بن محمد الإدريسي الحكم بعد وفاة أبيه 21 مارس 1923م، بدأ الضعف يدب في أوصال الإمارة الإدريسية، لتتمكن قوات الإمام يحيى بعد مرور عامين من الهدوء الحذر من التوسع على حسابها، في البدء سيطرت على بلاد حجور، وبني نشر، وجبال عبال، والحجيلة، وبني سعد، وجبل برُع، وأتبعت ذلك بالسيطرة على السهل التهامي الممتد من شمال بيت الفقيه حتى ميدي، لتتجاوز مع حلول العام 1926م الأخيرة وصولًا إلى حرض، ثم سامطة.

توقفت القوات الإمامية - كما أفاد المُؤرخ التهامي عبدالودود مقشر - عند تلك النقطة، بعد ضغوط مُورست على الإمام يحيى من قبل بريطانيا وإيطاليا. تخلت الأخيرتان عن حليفتهما القديمة (الإمارة الإدريسية)، وتركتها تواجه مصيرها، وتوافقت مصالحهما - كما أفاد ذات المُؤرخ - ومصالح باقي الدول الكبرى في تشكيل وضع جديد أكثر استقرارًا وتعاطيًا مع الواقع.

صحيح أنَّ القوات الإدريسية استماتت في منطقة سامطة بالدفاع والمُقاومة، إلا أنَّ عددًا من أمراء تلك الأسرة راموا - بسبب الهزائم المُتتالية - عزل الأمير علي، وتعيين عمه الحسن بدلًا عنه، وقد تأتى لهم ذلك بعد حصار قصير، ومُواجهات محدودة، أجبروا فيها الأمير الصغير على التنازل عن العرش، ومُغادرة البلاد إلى الرياض.

توقفت المُواجهات حينها مُؤقتًا بين الجانبين، وحصلت مُراسلات بين الحاكمين، وتوافد الوسطاء لإصلاح ذات البين، ولم يكد ينجز الأخيرين مُهمتهم، حتى اشتعلت المُواجهات من جديد، وفي جبال صعدة هذه المرة، حيث قامت قوات إمامية مُتمركزة في جبل منبه بالهجوم على قوات إدريسية مُتمركزة في جبل شدا، وكانت حصيلة تلك المُواجهات عشرات القتلى، كان أكثرهم من الجانب الإمامي.

هناك من يقول - وهو قول غير أكيد - أنَّ القوات الإمامية واصلت تقدمها شمالًا، وأنَّها حاصرت صبيا وجيزان، وأنَّ الحسن الإدريسي عرض على الإمام يحيى أنْ يحتفظ بسيادته الداخلية على ما تبقى من إمارته تحت الحماية الإمامية، وأنَّ إمام صنعاء رفض ذلك.

وما هو مُؤكد أنَّ الحسن الإدريسي سارع بطلب النجدة من عبدالعزيز آل سعود فبراير 1926م، عارضًا عليه قبول الحماية السعودية إنْ هو تدخل وأنقذه، التزم عبدالعزيز المشغول حينها بحربه مع الشريف حسين بن علي الحياد، ليغير بعد تسعة أشهر رأيه، وذلك بعد أنْ أتم سيطرته على الحجاز، وقع في مكة المكرمة معاهدة حماية الإمارة الإدريسية 21 أكتوبر 1926م، وأصبح بذلك هو والإمام يحيى وجهًا لوجه.

كانت رؤية حاكم نجد وإمام صنعاء تبعًا لتلك التطورات المُتسارعة مُتباينة، وتوزعت بين الإرث التاريخي الفارض حضورة، والرغبة الجامحة في الهيمنة والاستحواذ.

وما يجدر ذكره أنَّ قوات عبدالعزيز آل سعود سبق لها أنْ قَدِمت إلى تلك الناحية قبل خمس سنوات (1921م)، وذلك لمُساندة محمد الإدريسي (حاكم عسير تهامة) في حَربه مع آل عايض، حُكام عسير السراة منذ عُقود، والمسنودين من قبل ملك الحجاز الشريف حسين، وهي الحرب التي انتهت بِهزيمة الأخيرين، وسيطرة الوهابيين على منطقتهم، وقيامهم بنهب وتدمير عاصمتهم (مدينة أبها)، والتنكيل بأنصارهم، وقتل أكثر من 3,000 حاج يمني في وادي تنومة المُجاور.

وذكر المؤرخان محمد يحيى الحداد ويوسف الهاجري أنَّ الأدارسة تنازلوا حينها لعبدالعزيز آل سعود عن عسير الجبال، ونجران اللتين ليس لهم من أمرهما شيئًا، وعن منطقتي سحار وبني جماعة في لواء صعدة اللتين كانتا تحت الإدارة المباشرة للإمام يحيى، وهي - أي هذه المعلومة - لم أجد لها ذكرًا في كُتب المُؤرخين اليمنيين الذين عاصروا تلك الأحداث.

وهكذا، وكما استفاد عبدالعزيز آل سعود من صراع آل عايض مع الأدارسة، استفاد أيضًا من صراع الأخيرين مع الإمام يحيى، أرسل للأخير نص مُحادثة الحماية، وطالبه بعدم الاعتداء على الأراضي الإدريسية، وأتبع ذلك بإرساله مَندوبين من قبله إلى صنعاء 2 يونيو 1927م، لتبدأ بذلك فصولًا من المُحادثات غير المُجدية، والرسائل المُتبادلة المُعتقة بِمُفردات الأخوة الإسلامية، والمصير المُشترك.

مَكث ذلك الوفد في ضيافة الإمام يحيى لشهرين إلا عدة أيام، وعقد 17 اجتماعًا، وقد تَركزت مَطالبه الأولية حول خروج القوات الإمامية من المناطق التهامية حتى المخا؛ لأنَّها حد قول مُرسلهم كانت تابعة للإدريسي، وصارت تحت حمايتهم! فيما أصر مُستضيفهم على تبعية تلك المناطق ومعها نجران، وعسير السراة، وعسير تهامة للبلاد اليمانية، مُستدلًا بحقائق تاريخية وجغرافية دامغة، عمل أعضاء الوفد بدهاء على تفنيدها، وهي الاستدلالات والتفنيدات التي ظلت حاضرة طيلة الجولات التفاوضية الخمس التالي والآتي ذكرها.

وبحلول العام التالي توجه وفد سعودي ثانٍ إلى صنعاء، ولم يتوصل هو الآخر خلال فترة بقائه التي تجاوزت الشهر لحل حاسم، فما كان من الإمام يحيى إلا أن أرسل معه بثلاثة من مُعاونيه، وفي مكة المُكرمة تجددت المُحادثات، واستمرت لأكثر من أربعة أشهر، ولم تكن هي الأخرى مُجدية، وكانت مُحصلة هذه الجولة إقرار الوضع الراهن، وبقاء الأمر على ما هو عليه. 

لم يبقَ الأمر على ما هو عليه؛ بل أخذ كل طرف يقوي جانبه، وبالأخص في كسب ولاء القبائل، لتشتعل بعد ثلاث سنوات من الهدوء الحذر المُواجهات في حدود عسير، حيث سيطرت قوات إمامية بقيادة أمير حجة السيف أحمد على جبل العرو أغسطس 1931م؛ بذريعة أنَّ القوات السعودية هي من بدأت بالاعتداء، لتنتهي تلك الجولة بتنازل عبدالعزيز آل سعود عن ذلك الجبل، وعقده مُعاهدة صداقة مع الإمام يحيى 15 ديسمبر 1931م.

لم يتم التطرق في تلك المُعاهدة لمُشكلة الحدود القائمة، وهي المُشكلة التي ظلت كامنة تحت الرماد، لتأتي ثورة الحسن الإدريسي في أواخر العام التالي وتُمهد لإشعالها، والأخير - كما سبق أن ذكرنا - طلب قبل ست سنوات حماية آل سعود، وحين استبد الأخيرون بالأمر، ضاق ذرعًا، وأعلنها بدعم من قبائل عسير وملك الأردن عبدالله بن الحسين ثورة 4 نوفمبر 1932م، وانتهى به المطاف بعد ثلاثة أشهر هاربًا إلى ميدي، مُلتزمًا بِعدم القيام بأي اعتداء، فيما ظلت الثورة في جبال عسير مُستعرة، وحَظي ثوارها بدعم سري محدود من قبل إمام صنعاء.

أما نجران المُجاورة فقد كانت مُستقلة بذاتها، رفضت طيلة السنوات القليلة الماضية الخضوع لهذا الطرف أو ذاك، وحين تمردت - كما أفاد المُؤرخ الجرافي - قبيلة وائلة البكيلية على دولة الإمامة المتوكلية مارس 1933م، طلبت النُصرة من قبيلة يام الحاشدية، والأخيرة أشهر القبائل النجرانية، وأغلب أفرادها من معتنقي المذهب الإسماعيلي.

وردًا على تلك التحركات الطارئة، قام السيف أحمد المُرابط حينها في حرف سفيان بإرسال قوات كثيرة إلى تلك الناحية، وتمكن بعد مرور شهرين (مايو 1933م)، وبعد معارك محدودة من السيطرة على مدينة نجران ونهبها، وأخذ رهائن الطاعة من كُبرائها، تاركًا لشقيقه الحسن تطبيع الأوضاع فيها، وقد شيد الأخير في الجبل المُطل على سوقها قلعة حصينة سُميت باسمه (القلعة الحسنية).

أما الشاعر محمد بن عبدالرحمن شرف الدين فقد قال في مدح السيف أحمد قصيدة طويلة، نقتطف مها:
ناصر الدين لا برحت لنصر
الله سبحانه عظيم الوداد
وهنيئًا للدين فتحك نجران
وتطهيره من الإفساد
طالما كانت الشريعة فيه
تشتكي الضياع في كل ناد 

كرد فعل على ذلك، وبعد إخماده لثورة قبائل عسير، وبعد مُرور تسعة أشهر من إعلانه قيام المملكة العربية السعودية، ضم عبدالعزيز آل سعود إقليم عسير رسميًا إلى مملكته 23 يونيو 1933م، جاعلًا تركي السديري أميرًا على عسير السراة، ومقره أبها، وحمد الشوير أميرًا على عسير تهامة، ومقره جيزان، لتطغى بعد ذلك تسمية (جازان) على الإمارة الأخيرة. 

وكان الملك السعودي قد أرسل قبل تلك الحادثة بشهر بوفده الثالث إلى صنعاء، وهو الوفد الذي مَكث لأقل من ثلاثة أشهر، وتركزت مطالبه حول تسليم الحسن الإدريسي، واستقلال نجران، وبقاء الوضع في عسير على ما هو عليه، على اعتبار أنَّ اتفاقية العرو اتفاقية حاسمة لقضية الحدود، مع ادخال بعض التعديلات الطفيفة، وهي المَطالب القديمة الجديدة التي كررها الملك عبدالعزيز في رسائله أيضًا، والتي لم يتجاوب الإمام يحيى معها بتاتًا. 

لم تعد لغة المُراسلات بعد ذلك مُعتقة بمفردات الأخوة الإسلامية؛ بل صارت قاسية، وحافلة بعبارات التهديد المُبطن، خاصة من الجانب السعودي، حيث جاء في أحد بيانات هذا الطرف بأنَّ الإمام يحيى حاسد وطامع بالأملاك السعودية! وقال الملك عبدالعزيز في إحدى خطاباته بأنَّه يكره الحرب، وأنَّه مُضطر للدفاع عن الدين والشرف! 

والحق يُقال أنَّ كلا الطرفين كانا قد استعدا مُبكرًا للحرب، وإنْ ادعيا كراهيتهما لها، وألقيا باللائمة على بعضهما، مع فارق أنَّ الطرف الأقوى كان يُحبذ القضم السريع، والطرف الضعيف كان يحبذ القضم التدريجي.

         .. يتبع


Create Account



Log In Your Account