فضيحة "الموساد" المدوية ... قصة محاولة اسرائيل الفاشلة لاغتيال "الأمير الأحمر"
الأربعاء 29 مارس ,2023 الساعة: 01:41 صباحاً
الحرف28 - متابعات

مساء 21 يوليو/ تموز 1973 ببلدة ليلهامر النرويجية الهادئة، لم يكد الشاب المغربي أحمد بوشيخي يترجل من الحافلة باتجاه المنزل مع زوجته النرويجية الحامل، حتى اخترقت جسده فجأة 13 رصاصة من كواتم صوت. كان عملاء في جهاز الموساد الإسرائيلي بانتظاره لفترة طويلة داخل سيارة مازدا بيضاء قرب محطة الحافلات لاغتياله. 

لم يكن المغدور سوى نادل مغربي، يقيم ويعمل في هذه البلدة النرويجية الصغيرة التي لا يميزها شيء، ولم تكن جريرته، سوى أنه كان عربي الملامح، طويلا ووسيما، ويشبه إلى حد ما المسؤول الفلسطيني علي حسن سلامة (1941-1979)، المطلوب الأول للموساد، والمسجل على رأس لائحة فرقة "كيدون" للاغتيالات في ذلك الوقت. 

باتت تلك الحادثة التي عرفت بـ"قضية ليلهامر"، فضيحة مدوية لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، في وقت كانت السرديات الإسرائيلية والغربية تكرسه أسطورة لا تقهر، وسجلت كواحدة من أكثر عمليات الموساد المعلنة فشلا. قضى الشاب المغربي جراء تشابه قاتل وسقطة كبرى من الاستخبارات الإسرائيلية، وجن جنون رجال الموساد لهذا الفشل، وتتالت المحاولات المحمومة لاغتيال "الأمير الأحمر"، أبو حسن سلامة، وقيادات فلسطينية أخرى. 

حرب الأشباح
تشكلت فرقة "كيدون" (الرمح) للاغتيالات هذه، بأمر مباشر من رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك غولدا مائير (1969-1974) لتنفيذ سلسلة عمليات استخباراتية أطلق عليها اسم "غضب الرب"، وجاءت كرد فعل على مقتل 11 رياضيا إسرائيليا خلال عملية ميونخ يومي 5 و6 سبتمبر/ أيلول 1972 التي نفذتها منظمة "أيلول الأسود" الفلسطينية خلال الأولمبياد. وكان علي حسن سلامة الذي أطلقت عليه مائير نفسها لقب "الأمير الأحمر"، هو المطلوب الأول. 

ضمت "اللائحة إكس" أيضا 12 مطلوبا فلسطينيا وعربيا للتصفية، بينهم وديع حداد، ومحمود الهمشري ومحمد بودية، وسعيد حمامي وغيرهم. كانت "حرب الأشباح" بين المنظمات الفلسطينية التي انتهجت أسلوب العمليات الفدائية والعنف الثوري في مواجهة إسرائيل في ساحات مختلفة من العالم على أشدها، وتمكن الموساد من اغتيال 6 ممن ضمتهم اللائحة في الفترة بين 1972 و1973، وتمت العمليات كلها تحت إشراف ومتابعة من غولدا مائير. 

لم تكن الاغتيالات بالنسبة لإسرائيل مجرد رد فعل على عملية ميونخ أو مقتصرة على هذه اللائحة، بل عقيدة أمنية أساسية، ففي الثامن من يوليو/ تموز 1972 -أي قبل شهرين من عملية ميونخ- اغتال الموساد عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الروائي والصحفي غسان كنفاني وابنة أخته لميس (17 عاما) في بيروت بزرع عبوة ناسفة تحت مقعد سيارته. 

نجحت فرقة "كيدون" في 28 يونيو/ حزيران 1973، باغتيال أحد أبرز المطلوبين، الجزائري محمد بودية، بمشاركة فعالة من جهات أمنية فرنسية بتفجير سيارته في باريس. اشتهر بودية كعقل مدبر للعديد من العمليات الخلاقة التي نفذتها منظمة "أيلول الأسود" في أوروبا، وقد حير الموساد لسنوات وبات من أشد المطلوبين لعدة أجهزة استخبارات أوروبية أيضا. 

قبل ذلك، شاركت الفرقة بقيادة العميل المخضرم مايكل هراري يوم العاشر من أبريل/ نيسان 1973 في اغتيال 3 من كبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهم كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في بيروت، ضمن ما عرفت بعملية الفردان، كان المطلوب في هذه العملية كذلك رأس علي حسن سلامة، الذي نجا هذه المرة أيضا، وشارك في عملية الفردان إيهود باراك، الذي بات لاحقا رئيسا للوزراء. 

في كتابه "انهض واقتل أولا.. التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية"، يروي الصحفي الإسرائيلي رونين بيرغمان أن الراحل كمال عدوان قتل لأنه تردد خلال العملية في إطلاق الرصاص على امرأة كانت أمامه -على اعتبار أن قيمه وأخلاقه لا تسمح له بإطلاق النار على امرأة- ولم تكن تلك المرأة سوى إيهود باراك نفسه متنكرا بزي نسائي. 

مثلت تلك العملية واحدة من عمليات الموساد الدموية، ونفذت الفصائل الفلسطينية بدورها عمليات سرية أوجعت إسرائيل وجهاز الموساد نفسه، واغتالت عددا من ضباط الجهاز وعملائه في عدد من الدول، واستهدفت المصالح الإسرائيلية في عدة مناطق. 

فوبيا "الأمير الأحمر"
كان علي حسن سلامة ضابطا مقتدرا، متعدد المواهب، شديد الوسامة والذكاء والحركية، تلقى أواخر الستينيات تدريبات ودورات تكوينية في كل من مصر وموسكو، وأصبح منذ يوليو/ تموز 1968مرافقا لياسر عرفات ومسؤولا عن أمنه، كما قاد جهاز الرصد الثوري لحركة فتح، وهو فرع المخابرات التابع للحركة في الأردن. 

وتولى "أبو حسن" أيضا قيادة العمليات الخاصة ضد المخابرات الإسرائيلية في العالم انطلاقا من لبنان عام 1970، وقاد "الفرقة 17" التي ضمت عدة وحدات أمنية وعسكرية تابعة لحركة فتح، وربطته علاقات ثقة مع مختلف الفصائل والأطراف السياسية والعسكرية في لبنان، وأسندت له مهمة التفاوض مع الأطراف المسيحية ببيروت الشرقية بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) لعلاقته الجيدة بهم. 

يصفه رئيس حزب الكتائب الأسبق كريم بقرادوني قائلا: "صورة أبو حسن بذهني ليس لرجل عادي بسيط، وإنما بمستوى أمير في حركته، وبنيته الجسدية مع ابتسامة دائمة". 

كان أشد ما كان يقلق إسرائيل في شخصية علي حسن سلامة، بالإضافة إلى قدراته الأمنية والعسكرية، علاقاته المتميزة مع الجميع ومرونة حركته في مختلف المجالات والعلاقات التي ربطها مع قوى وأطراف سياسية واستخباراتية أوروبية وأميركية، بما كان سيؤثر على السرديات الإسرائيلية المغلوطة التي كانت تروج عند الأميركيين والغرب. 

سقطة الهواة
قبل تنفيذ عملية ليلهامر، تأكد 7 من عملاء الموساد أن بوشيخي هو نفسه علي حسن سلامة، المشتبه بمسؤوليته -وفق الرواية الإسرائيلية- عن عملية ميونخ، وجاءت الأوامر بالتنفيذ من تل أبيب، وأيدها مايكل هراري قائد مجموعة "كيدون"، وكان هراري واحدا من رجال الموساد الضليعين في التخطيط والاغتيالات والعمل الاستخباراتي. وأطلق عليه لقب "جيمس بوند الصهيوني"، نظرا لخبرته الطويلة في العمل السري. 

في ذلك الوقت، كان المسؤول الفلسطيني الشاب علي حسن سلامة في بيروت، وكانت جاسوسة إسرائيلية أخرى تسمى "أمينة المفتي" أو "آني موشيه بيراد" قد اقتربت إلى حد كبير من معرفته وتحديد مكانه، حتى أنها بدت شديدة الاستغراب والارتباك حين علمت بفضيحة محاولة الاغتيال الفاشلة في النرويج لرجل كانت تعرف أنه في بيروت. 

بعد اغتيال بوشيخي، اعتقلت أجهزة الأمن النرويجية مباشرة 5 عملاء للموساد، وهم "ماريان غلادينكوف" ذات الأصول السويدية، والإسرائيلي "أبراهام جيهمر"، والدانماركي الأصل "دان أربيل"، والبرازيلي المولد "زفي ستاينبرغ"، وسيلفيا رافائيل عميلة الموساد الخبيرة، التي تنحدر من جنوب أفريقيا. وأدين الجميع وسجنوا في النرويج بتهمة القتل، لكن صدر عفو عنهم بعد أقل من عامين. 

وفي المقابل فر 9 آخرون من فرقة "كيدون" بعيد تنفيذ العملية، بمن فيهم القائد مايكل هراري، وتشير وثائق إسرائيلية إلى أنه قدم استقالته إلى غولدا مائير، لكنها رفضتها قائلة: "لا يزال أمامك الكثير من العمل للقيام به"، في إشارة إلى تتبع واغتيال "الأمير الأحمر" وبقية القيادات الفلسطينية التي كانت على اللائحة. 

أحدثت عملية الاغتيال الفاشلة أزمة في العلاقات بين إسرائيل والنرويج، نفت إسرائيل دائما ورسميا تورط عملائها، مدعية أن القتلة ربما تصرفوا من تلقاء أنفسهم كأفراد. لكن في عام 1996، اعترفت وزيرة التعليم الإسرائيلية آنذاك شولاميت ألوني لأول مرة في صحيفة "أربيدربلاديت" (Arbeiderbladet) النرويجية بأن الموساد كان وراء جريمة الاغتيال. 

وكانت تلك المرة الأولى التي تعترف فيها إسرائيل بمسؤوليتها المباشرة عن مصرع بوشيحي، واضطرت تل أبيب لدفع تعويضات لابنه الذي ولد بعد مقتله اختلفت التقديرات بشأنها. 

الملف الأسود للموساد
في عام 1990، أعادت النرويج فتح قضية مقتل بوشيخي، وتولت لجنة وطنية التحقيق لمدة عامين. وفي عام 1998، أصدرت مذكرة جلب عالمية بحق مايكل هراري، لكن سلطات أوسلو أغلقت قضيته في العام التالي، مشيرة إلى أنه سيكون من المستحيل الحصول على إدانة بحقه. 

خلص التقرير الذي صدر بعد انتهاء التحقيق في الأول من مارس/ آذارعام 2000 إلى أن عملية ليلهامر "كانت انتهاكا لسيادة النرويج، وقضية خاصة بكل ما تحمله الكلمة من معنى". 

وقال التقرير المكون من 179 صفحة: "من الواضح أن السلطات النرويجية كانت تتعرض لضغوط ولم تفعل الكثير للقبض على المشتبه بهم في أوائل السبعينيات، لكن اللجنة خلصت إلى أن الفريق الإسرائيلي تصرف دون مساعدة نرويجية في عملية الاغتيال الفاشلة". 

في يناير/ كانون الثاني 1996، دفعت إسرائيل تعويضات لم يُكشف عنها لأسرة بوشيخي لكنها لم تعترف رسميا وبمسؤوليتها المباشرة عن القتل. وقالت توريل لارسن بوشيخي أرملة المغربي المغدور إن "لا أحد يدفع تعويضات ما لم يكن مذنبا"، وفق ما أوردته الصحافة النرويجية. 

تشير تفاصيل العملية إلى أخطاء جوهرية في تخطيط وتنفيذ عملية ليلهامر، بدءا من عملية التعقب وتحديد الهدف بدقة، إلى تكليف 14 عنصرا بتصفية شخص واحد، إلى إطلاق 13 رصاصة على هدف سهل، وضعف طريقة التخفي أو الساتر، وفشل تغطية عملية الانسحاب حيث عاد عناصر التنفيد بأرجلهم إلى وكالة تأجير السيارات حيث كانت تنتظرهم الشرطة. 

تشير التفاصيل التي نشرتها الصحافة النرويجية إلى أن أحد عناصر الفريق وهو الدانماركي "دان أربيل" قبض عليه وهو في الطريق إلى المطار، وقد كان يحتفظ بفواتير وإيصالات بها ليطالب الموساد باسترجاع المبالغ التي صرفها خلال تنفيذ العملية. 

وفي مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية نشرت في الرابع من أبريل/ نيسان 2014 اعترف مايكل هراري نفسه بالعملية، ووصف الأحداث التي أدت إلى مقتل بوشيخي بأنها سلسلة أخطاء، بدأت بعدم التأكد من هوية المستهدف بشكل كاف. 

وأشار أيضا إلى خطأ في الانسحاب، فعدد من عناصر الفريق أعادوا السيارات التي استأجروها إلى المكاتب بدل تركها والتخلص من المفاتيح، فكانت الشرطة في انتظارهم في تلك المكاتب وقبضت عليهم. لاحظ السكان أيضا أن السيارات لا تنتمي إلى الحي الذي يسكنه بوشيخي، وتظل متوقفة لساعات وبداخلها شخص، كما أن الوجوه بدت غريبة. 

وصف هراري في المقابلة عملية الانسحاب بأنها أكبر خطأ مهني له، مشيرا إلى أنه اختار طاقم التنفيذ من المتدربين، فقط لأنهم يفهمون اللغة النرويجية. بينما تظهر في العمليات السابقة أن الأسماء نفسها كانت حاضرة، وخصوصا العميلة سيلفيا رافائيل التي شاركت في عمليات اغتيال سابقة، بينها اغتيال محمد بودية في باريس. 

عادة ما يتلقى عناصر الموساد دعما لوجستيا واستخباراتيا من سلطات الدول التي يعملون فيها أو عناصر نافذة في أجهزتها، وهو ما يسهل نجاحهم، بينما لم يحصلوا على ذلك في حالة عملية ليلهامر، أو لاحقا في "العملية سايروس"، عند محاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (آنذاك) في عمّان يوم 25 سبتمبر/ أيلول 1997، حين تم اعتقال عميلي الموساد. 

تجسد ذلك أيضا -مع اختلاف الظروف والزمن- في عملية اغتيال محمود المبحوح القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 19 يناير/ كانون الثاني 2010، في دبي، حيث تمكن المحققون بسرعة من كشف تفاصيل العملية والضالعين فيها بدقة، انطلاقا من الأخطاء التي ارتكبها فريق الاغتيال، من بينها استخدام جوازات حقيقية لأشخاص يعيشون في إسرائيل، واستعمال بطاقات الائتمان في تحركاتهم وعدم تعطيل الكاميرات في الأوقات المناسبة، وقد جند هذه المرة أيضا 30 عميلا من أجل تصفية شخص واحد. 

استمرت "حرب الأشباح" هذه في عدة جولات، نجا علي حسن سلامة من عدة محاولات اغتيال، كانت تجربته ومؤهلاته الأمنية وذكاؤه تمكنه من الإفلات من العديد من الفخاخ الاستخباراتية، وكشف عدة مخططات لاغتياله، لكن الموساد كان بدوره يزرع عشرات الجواسيس والعملاء في كل مكان بحثا عن معلومة أو ثغرة ينفذون منها إلى "الأمير الأحمر"، واغتالوه في 22 يناير/ كانون الثاني 1979. 

المصدر : الجزيرة نت



Create Account



Log In Your Account