هكذا لعب الدين دورا في نهضة اليابان الحديثة
الثلاثاء 25 أبريل ,2023 الساعة: 08:51 مساءً
الحرف28 - متابعات

في 9 أغسطس/آب 1945، أصدرت وزارة الحرب (الدفاع) الأميركية فيلما وثائقيا عن الحرب في المحيط الهادئ موجَّها ضد اليابان بعنوان "اعرف عدوَّك: اليابان (Know Your Enemy: Japan)"، حيث خرج الفيلم في صورة استعراض تاريخي لليابان وثقافة الشعب الياباني، والملامح الشخصية والنفسية للجندي الياباني التي جعلته بتلك الوحشية "البربرية"، حسب صُنَّاع الفيلم؛ ما جعل الرئيس الأميركي آنذاك "هاري ترومان" يصف اليابانيين بأنهم "وحشيون يكرهون المسيحية والديموقراطية". 

بدأ الفيلم بالحديث عن "غموض اليابانيين وعدم فهم الأميركيين لخصوصيتهم"، مستعرضا في نصفه الأول الملامح الثقافية لليابان بكثير من التعميم والقولبة والتمييز؛ بهدف تبرير النصف الثاني من الفيلم المُنصَب حول "بروباغاندا" الحرب ومبرِّراتها وضرورتها لكبح جماح هذه الأمة "المتوحشة". ورغم أن الفيلم لم يُعرض إلا عام 1977 بسبب خلافات بين هوليود والإدارة الأميركية، فإن ذلك لا ينتقص من دلالات الفيلم الذي بُني على تقرير للاستخبارات قبل غزو اليابان خلال الحرب العالمية الثانية بعنوان "سيكولوجية الجندي الياباني (Japan’s Soldier Psychology)"، وهو تقرير يفصل صفات وسمات الشخصية اليابانية "العاطفية والبربرية" المتجسدة في الجندي الياباني، الذي يعد "أخطر ما أنتجته اليابان"، حسب الفيلم. 

تلك هي النظرة نفسها التي ظلت ترسم "شخصية اليابان" في المخيال الغربي، حتى بعد تدمير البلاد بقنبلتين نوويتين واحتلالها وإعادة بنائها تحت أعين القواعد العسكرية الأميركية. أما ما لم يعرضه الفيلم فهو سياق نهضة الأمة اليابانية الذي يُختزل غالبا في مفاهيم تقنية مثل الإتقان أو الجدية، ويتجاهل الحمولة الدينية والأيديولوجية لهذه النهضة المختلفة في جذورها وجوهرها عن حركة النهضة الأوروبية وحركات التغريب في شتى أنحاء العالم، بخلاف أن الفيلم لم يعرض السياق التاريخي الذي أورث اليابان عقدة الانتقام والثأر التي دفعتها دفعا نحو مسار الحرب يوما ما، ولو ثبت في النهاية أنه مسار خاطئ وكارثي. 

تنوير اليابان بالقوة 

في أواخر العام 1995، اعتدى ثلاثة جنود أميركيين على فتاة يابانية في الثانية عشرة من عمرها خارج قاعدتهم العسكرية في "أوكيناوا"، إحدى محافظات جنوب اليابان، وقد اعترف اثنان منهم باختطافها، واعترف الثالث باغتصابها، ومن ثَم قضت محكمة يابانية بسجنهم سبع سنوات. بيد أن بشاعة الجريمة أثارت إعصارا من الاحتجاجات عصفت بالعلاقات اليابانية-الأميركية، وأعادت إلى الأذهان ذكريات التظاهرات التي نشبت ضد "معاهدة الأمن والدفاع المشترك" المعروفة اختصارا بـ(Anpo) بعد احتلال الأميركيين لليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وسرعان ما سُلِّط الضوء على قضية الوجود العسكري الأميركي برمته، وطُرح السؤال من جديد: "ماذا يفعل كل هؤلاء الأميركيين في اليابان منذ خمسة وثلاثين عاما؟!". 

كان هذا السؤال هو نفسه الذي سأله اليابانيون لأنفسهم قبل ثلاثة قرون على الأقل، حينما امتلأت الجزر اليابانية بالمُبشِّرين والتجار الأوروبيين؛ ما أشعر اليابانيين بالخطر والتهديد، ليس فقط على ديانتهم، بل على نظامهم الاجتماعي كله، وعلى موازين القوى التي بدأت تتغير بواسطة السلاح الناري الذي دخل مع التجار الأوروبيين، خاصة البرتغاليين، وعُرف باسم "القربينة (Arquebus)"، وكذلك بواسطة حملات التنصير التي قام بها المبشِّرون والرهبان، وزاد معها عدد المسيحيين اليابانيين عن 300 ألف، من بينهم بعض قادة "الساموراي" و"الدايميو" (حُكام المقاطعات) في مطلع القرن السابع عشر. 

حُكِمَت اليابان آنذاك بواسطة "الشوغون"، وهو أشبه بحاكم عسكري عيَّنه الإمبراطور وتبعه جيش من "الساموراي"، ولم يدِن الشوغون بالولاء إلا للإمبراطور من فوقه، ولطبقة "كوغِه" الأرستقراطية الأقرب لحاشية الإمبراطور في القصر. أما دون الشوغون فكانت طبقة "الدايميو"، وهُم حُكَّام المقاطعات الأقوياء، وأشهرهم "هيديوشي"، الذي كان ساموراي في الوقت نفسه، وخدم تحت إمرة الدايميو القوي والشهير أيضا "نوبوناغا"، صاحب أول محاولة لتوحيد مقاطعات اليابان تحت حكم واحد قوي بهدف القضاء على التشتُّت الإداري والعسكري في البلاد، والذي نجح في فرض كلمته على الشوغون ليصبح حاكما فعليا لليابان بين عامي 1568 و1582. 

نوبوناغا 

استقرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية في عهد نوبوناغا وخلفه هيديوشي، وازدهرت اتجاهات اجتماعية دينية تحض على التمسك بقيم العدالة والتضامن الاجتماعي التي نشرتها فرقتان دينيتان، هما: "جودو-شو (Jodo-shu)" و"نيتشيرِن (Nichiren)"، اللتان مزجتا منذ القرنين الثاني عشر والثالث عشر بين تعاليم الديانتين البوذية والشنتوية. وتعزَّزت حينئذ الثقافة الدينية لطبقة الساموراي، الذين ندبوا أنفسهم للدفاع حتى الموت عن قدسية أرض اليابان التي لا يجوز أن تطأها أقدام الغزاة. 

بيد أن هيديوشي تبنَّى سياسة مخالفة لسياسة سلفه "نوبوناغا" في التسامح مع الإرساليات التبشيرية المسيحية، إذ لم يتخذ تدابير صارمة لمنعها، وتشير بعض الوثائق إلى وجود مستشارين مسيحيين داخل البلاط، وأن أحد أبناء هيديوشي اعتنق المسيحية، وأن عدد المسيحيين في أواسط عهده ارتفع ارتفاعا ملحوظا. وقد استمر تدفق الإرساليات الأجنبية إلى اليابان في المرحلة الأولى من حكمه، سواء إرساليات "الجزويت" البرتغالية أو إرساليات "الفرنسيسكان" الإسبانية التي جاءت من الفلبين عام 1592. هذا وشرع الشوغون في ذاك الوقت في تدبير حملة عسكرية نحو الخارج لاستكشاف العالم بدءا من كوريا والصين دامت أكثر من خمس سنوات تمتَّع خلالها المبشرون الأجانب بحرية شبه تامة. 

هيديوشي 

أحد أبرز هؤلاء المبشرين هو الأب "مارتينيز"، أحد الآباء اليسوعيِّين الكبار، الذي اتخذ من "كيوتو" (العاصمة حينئذ) مركزا لنشاطه التبشيري عام 1596، وهو العام نفسه الذي احتُجِزت فيه باخرة تبشيرية إسبانية جنحت عند سواحل اليابان وتبيَّن من التحقيق أنها حملت كمية كبيرة من الليرات الذهبية لاستخدامها في الإعداد لغزو اليابان عسكريا، وقد صادفت تلك الحادثة عودة هيديوشي من حملته الفاشلة لاحتلال الصين، فأمر بصلب 26 من المبشِّرين الأجانب وأتباعهم من اليابانيين في فبراير/شباط 1597. 

غير أن الباخرة المُحمَّلة بالذهب لم تكن السبب الوحيد لقرار الحكومة اليابانية بحظر الديانة المسيحية عام 1637، وخوض حرب تصفية دموية ضد اليابانيين المتنصرين، ثم غلق الموانئ البحرية اليابانية أمام التجار الأوروبيين لأكثر من قرنين من الزمان. فقد أثرت الأفكار المسيحية الجديدة على نظام القيم الصارم السائد في صفوف الساموراي، وهو نظام عُرِف باسم "بوشيدو (Bushido)"، حوى الركائز السبع لقيم المقاتلين، وهي: العدالة والشجاعة والخير والاحترام والصدق والشرف والولاء. وعلى الصعيد الاجتماعي، باتت ديانة الشنتو موضع نقد من قبل أنصار القيم التبشيرية الجديدة، أما الأخطر بالنسبة إلى اليابانيين فهو ما حدث عام 1637، حين تجمَّع الدايميو المتنصرون بمقاطعة "كيوشو"، وشنُّوا تمرُّدا مصحوبا بانتفاضة شعبية أخذت طابعا دمويا ضد السلطة المركزية، ومن ثَم ردَّت العاصمة بحملة قمع شديدة أدت إلى مقتل عدد كبير من اليابانيين المتنصرين وهروب من نجا منهم عبر البحر. وتلا ذلك صدور قرار الحكومة التاريخي بتصفية الركائز المحلية التي بناها الغرب في اليابان طيلة قرن تقريبا، والدخول في عزلة طوعية لحماية اليابان من مخاطر الغزو الخارجي الثقافي والعسكري على السواء. 

أثرت الأفكار المسيحية الجديدة على نظام القيم الصارم السائد في صفوف الساموراي، وهو نظام عُرِف باسم "بوشيدو (Bushido)"، حوى الركائز السبع لقيم المقاتلين. 

كان قرار العزلة الياباني نهائيا وقاطعا، فقد نصت تعليمات الشوغون على حصر الملاحة الخارجية في سفن الدولة دون غيرها، وفرض عقوبة الموت على المهاجرين الذين يغادرون اليابان، ومنع "البوشي" أو التجار اليابانيين من الاتجار مباشرة مع الأجانب أو تخزين شيء من بضائعهم في مخازن يابانية. كما نصت التعليمات على منع الإرساليات الأجنبية من العمل في اليابان، ومنع تصدير الأسلحة اليابانية إلى الخارج. وقد كانت مرحلة العزلة الطوعية التي دخلتها اليابان سببا في بناء مجتمع ياباني قوي ذي ملامح ثابتة وتراتبية اجتماعية صُلبة شكَّلت قاعدتها القوى الفلاحية التي وصلت نسبتها إلى 90% من السكان، وكانت شديدة التمسُّك بعاداتها وتقاليدها، إضافة إلى طبقة الحرفيين والتجار الذين انتقلوا إلى المدن التي بدأت في النمو والتوسُّع، وأخيرا طبقة الساموراي العسكرية. بيد أن أوروبا والقوى الغربية لم تغفر قط ما جرى لرهبانها في اليابان، ولم تفتأ تخطط لاختراق جزرها البركانية ثقافيا وتجاريا، وعسكريا إذا لزم الأمر. 

عودة السفن السوداء.. وتشكُّل عقيدة "الكُكوتاي" 

"أنتم تعرفون كل شيء عن قوة اليابان الاقتصادية، وتعرفون كل شيء عن مراسم حفلات الشاي، ولكن هذه كلها ليست سوى صور وأقنعة للتواضع الياباني والقدرات التكنولوجية اليابانية. ما زلنا حتى الآن بعد مئة وخمسة وعشرين عاما من التحديث مبهمين في عيون الأوروبيين والأميركيين، الذين لا يزالون غير راغبين بما فيه الكفاية بفهم هؤلاء الناس الذين يصنعون كل هذا العدد من سيارات الهوندا". 

الروائي الياباني كِنزابورو 

كتب هذه الكلمات الروائي الياباني "كِنزابورو أوئيه" الحائز على جائزة نوبل للآداب، والذي تعجُّ رواياته بحكايات معبِّرة عن الاضطرابات العميقة في الشخصية اليابانية، بين الواقع الجديد والموروثات الاجتماعية والدينية، إذ يراوغ الياباني بين هذا وذاك ساعيا في الأخير نحو التخفِّي، تماما كما هي عادته على مدار تاريخه الطويل. لقد قررت اليابان في القرن السابع عشر أن تدفن نفسها في الخفاء، وبينما ماج العالم بالحروب، وبحثت الجيوش والأساطيل الحديثة التكوين عن أمم لتغزوها، بحثت الأمة اليابانية في داخلها، ومن ثَم انتشرت حمى التعليم في كل طبقات الساموراي، الذين شاركوا بعد ذلك بأنفسهم في تعليم اليابانيين، فانتشرت المدارس الدينية الملحقة بالمعابد، إلى جانب مدارس المقاطعات للتعليم الثانوي أو العالي "هانكو"، حتى بلغت نسبة المتعلمين في اليابان 30% من السكان عام 1868، وهي نسبة مقاربة لبعض دول غرب أوروبا في ذلك الوقت. 

غير أن تلك الفترة التي ساد فيها السلم الأهلي وتراجعت الحروب الداخلية، قلَّصت الحاجة إلى دور الساموراي، وهو ما أدى بدوره إلى تحوُّلات اجتماعية جديدة، فقد بات على الساموراي أن يجدوا مصدرا آخر للرزق، فاتجه بعضهم إلى الزراعة، وانتقل البعض الآخر إلى جوار السلطة المركزية بالعاصمة أو القلاع بالمدن الكبرى مثل "أوساكا" و"كيوتو" أو حتى إلى القلاع الصغرى للعمل إداريين ومعلمين في خدمة الدايميو، ومنهم من اتجه نحو امتهان التجارة والصناعة بالمدن. 

في ذلك الوقت، وتحديدا في مطلع القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا قد نجحت إلى حد كبير في إبعاد هولندا عن منطقة الشرق الأقصى وأخذ مكانها، وبعد أن أكملت بريطانيا وفرنسا تمركزهما في غالبية دول جنوب وشرق آسيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وجد الأميركيون أن الرقعة الدولية أمام تجارتهم تضيق باستمرار. ونتيجة لذلك، أمر الرئيس الأميركي "ميلارد فيلمور" قائد أسطوله الكومودور "ماثيو بيري" المرابط قبالة سواحل اليابان بالاقتراب من خليج طوكيو وتوجيه إنذار إلى الحكومة اليابانية في يوليو 1853، ملوِّحا بضرورة فتح الأبواب أمام التجارة الدولية، وحُدِّدَت مهلة الإنذار بعشرة أشهر للرد على النقاط الواردة فيه. 

بيد أن "إييوشي"، الشوغون الحاكم وقتها، عانى من المرض، وسرعان ما تُوفي بعد أسابيع قليلة من الإنذار، تاركا شؤون الحكم لابنه الضعيف "إيسادا"، ومن ثم وقع القرار على عاتق حكومة الشوغون الجديد للرد على الإنذار الأميركي ضمن المهلة المحددة. وبعد خلاف بين رجالات الحكومة وبلاط الإمبراطور، صدر القرار النهائي بأن يتولى بعض القادة اليابانيين مسألة التفاوض مع الأميركيين، وانتهت المفاوضات باتفاقية "كاناغاوا" في 8 مارس 1854، التي نصت على فتح مينائَي "شيمودا" و"هاكوداتِه" أمام التجارة الأميركية، وسمحت للأميركيين بفتح مقرات قنصلية في البلاد، وألزمت اليابانيين بتقديم المساعدات للسفن التي تتعرض للغرق قرب سواحلهم. 

بموجب الاتفاقية نفسها، سمحت الحكومة اليابانية للأميركيين بالتمركز في "إدو" و"أوساكا"، إلا أن الأمر لم ينته هنا، حيث كانت تلك مجرد بداية لسلسلة من الاتفاقيات سارعت الدول الكبرى إلى انتزاعها من اليابان، حيث وقَّعت البلاد اتفاقية مشابهة مع هولندا وروسيا وبريطانيا وفرنسا عام 1858، ومع البرتغال عام 1860، ومع بروسيا عام 1861، ومع سويسرا عام 1864؛ وأقامت تلك الدول تباعا مراكز ثابتة لبعثاتها الدبلوماسية في اليابان من طرف واحد، إذ لم تفتح اليابان أي مراكز دبلوماسية في تلك الدول بدورها. 

نتيجة لهذه الاتفاقيات، باتت الجزر المقدسة التي حمتها سيوف الساموراي، وأنقذتها حكومة الشوغون من الغزو الغربي قبل قرنين، مرتعا للغربيين بشتى انتماءاتهم وعقائدهم، وزاد الطين بلة أن تأكَّد اليابانيون من أن هؤلاء التجار الأجانب يشترون الذهب من اليابانيين بسعر منخفض ليبيعوه بأسعار مرتفعة تحقق لهم ربحا مباشرا لا يقل عن 50%. وقد بدأ الاقتصاد الياباني يعاني مزاحمة كبيرة من السلع الأجنبية، وارتفعت الأسعار بنسب تتراوح بين 300-400% في الفترة بين عامي 1830 و1865، واستفادت الشركات الأجنبية بالأساس من تلك الأزمات بالإضافة إلى بعض تجار الجملة اليابانيين. وفاقم الأزمة انتشار مرض الكوليرا على نطاق واسع بسبب سوء التغذية وسوء الأوضاع الصحية، حتى جاء توقيع حكومة الشوغون على بروتوكول لندن للتجارة الدولية عام 1862، واتفاقية الرسوم التجارية المعروفة باتفاقية "إدو" عام 1866، ليكونا القشة التي قصمت ظهر البعير وأشعلت نيران النقمة الشعبية في اليابان. 

جاء الاستياء الشعبي في صورة موجة واسعة من الاغتيالات طالت الرعايا الأميركيين والروس والإنجليز والألمان وغيرهم، وقام بهذه الاغتيالات أفراد ومجموعات مؤيدة لحُكم الإمبراطور، منهم مقاتلو ساموراي، وقد برَّروا أفعالهم برفض الخضوع لسلطة الأجانب ومعاهداتهم المجحفة، ورفض سياسة الشوغون من أسرة "توكوغاوا" ومجلس حكومتهم، وبلغ الأمر ذروته عندما فتح قادة الساموراي في مقاطعة "تشوشو" نيران مدفعيتهم على السفن الحربية الأوروبية التي كانت تجتاز مضيق "شيمونوسِكي" في يونيو/حزيران 1862. 

لم يأت الرد الأوروبي فوريا، ولكن بعد أكثر من عام، أمر الأميرال الفرنسي "غوريس" بقصف "شيمونوسِكي" في يونيو عام 1863، مستهدفا المواقع المُحصَّنة التي تمركز وراءها عدد كبير من الدايميو المناوئين للشوغون، تلا ذلك قصف آخر في أغسطس من العام نفسه طال مدينة "كاغوشيما"، معقل أهم القوى المناصرة للإمبراطور. غير أن المجابهة ازدادت صلابة وشراسة، حيث قاد حاكم منطقة "تشوشو" موجة من الصراع العنيف مع القوى الغربية وحكومة الشوغون، حتى تعرَّض جيشه لإبادة وتصفية دموية في سبتمبر/أيلول 1863. 

لم تكتفِ القوى الأجنبية بذلك، بل إنها أرسلت حملة تأديبية من ثلاث سفن فرنسية، وأربع سفن هولندية، وتسع سفن إنجليزية؛ للقضاء تماما على بقايا القوى المناوئة للشوغون، وبدأت الحملة بقصف مدينة "هيروشيما" ثم احتلالها؛ ما دفع الساموراي للموافقة على عقد هدنة سرعان ما نُقِضَت بعودة الحرب الأهلية بين المقاتلين الرافضين لحكم الشوغون والحكومة المتحالفة مع القوى الأجنبية. 

بعد وفاة الشوغون "إييموشي" عام 1866، انتهج خلفه "يوشينوبو" سياسة المساومة وتقديم التنازلات لحل الصراعات بين اليابانيين، بيد أن موازين القوى سرعان ما انقلبت رأسا على عقب، إذ تُوفي الإمبراطور وجاء ابنه "موتسوهيتو" الذي عقد إجراءات المصالحة الوطنية الشاملة، وأعلن نهاية حكم أسرة "توكوغاوا" ونظام الشوغون، ثم انفرد بالحكم وأطلق على نفسه الإمبراطور "مَيجي"، أي المتنور أو العادل. منذ تلك اللحظة أمسى اليابانيون يرددون بأعلى صوتٍ الشعارَ الذي أطلقه الساموراي باسم الإمبراطور منذ دخول السفن السوداء "الملعونة" إلى موانئ اليابان. 

نهوض "الخلافة" اليابانية وسقطوها 

"تقدم السُّحُب الثماني.. 

سياج إيزومو ذو الطيات الثماني.. 

لكي يستريح الرجال والنساء ويهجعوا.. 

يا لهذا السياج ذي الطيات الثماني.." 

تدور هذه الأبيات المقتبسة من واحدة من أولى القصائد الشعرية التي عرفتها اليابان حول تاريخها الديني الوثيق الصلة بتاريخها الاجتماعي والسياسي، حيث نُظِر إلى اليابان بوصفها سُحُبا ثماني وأسوارا ثمانية؛ لأنها في التاريخ القديم تكوَّنت من ثماني جزر، ولا يزال الزائر اليوم يجد ما يشير إلى السور الأثري الثمين في "إيزومو" (مدينة ساحلية في جنوب غرب اليابان)، حيث يقال إن إلها قديما هبط هناك من السماء. وعلى هذا المعتقد تأسست عقيدة الشنتو، الديانة الأساسية في جزر اليابان، إذ تجلى هذا الإله في كل مظاهر الطبيعة باسم الإله "كامي"، فهناك كامي البركان وكامي البحر وكامي الزراعة وكامي الرياح (كامي كازي الذي سيُسمَّى باسمه الطيارون الانتحاريون المشهورون للقوات الجوية اليابانية) وكامي لكل شيء تقريبا؛ وتنضم أرواح اليابانيين بعد الموت لهذا الإله، ويصبحون جنودا لقوته. 

أحد تجليات هذا "الكامي" هو كامي الشمس، وهو أحد أقدس تجليات الكامي، ومن كامي الشمس تنحدر سلالة الإمبراطور، الذي يعتقد اليابانيون أنه سليل الإله. بيد أن الديانة الشنتوية امتزجت بالبوذية والكونفوشيوسية، وتعدَّدت المعابد التي مثَّلت الديانة رسميا حتى تأسس معبد القصر العريق عام 1485 بهدف توحيد جميع المعابد الدينية اليابانية، وكان مهندس هذه الوحدة هو المفكر الشنتوي "يوشيدا كانِتومو" الذي أسس "الشنتوية الوحدوية". وقد ميَّز يوشيدا بين نوعين من الشنتوية: الأولى أسماها بالشنتوية الأصلية المؤسِّسة، أما الثانية فتشمل كل أنواع الشنتوية المتأثرة بالبوذية والكونفوشيوسية. وقد أعاد الساموراي استدعاء تلك الأفكار في نهاية القرن التاسع عشر، وأسسوا عليها عقيدة "الكُكوتاي" التي تنطلق من الشنتوية المؤسِّسة لتنتهي بقدسية الأرض اليابانية التي لا يجب أن تدنسها أقدام الغزاة. 

بدأت النهضة اليابانية وعمليات التحديث أثناء عصر "المَيجي"، لكنها لم تمثل انقطاعا تاما عن عصر "توكوغاوا"، بل امتدادا لبعض إصلاحاته. وقد قاد عمليات الإصلاح طبقة الساموراي المدينية، الذين اشتغلوا بالتجارة والثقافة والتعليم، وبدأت قرارات الإصلاح عادة بالتأكيد على خصوصية اليابان الفريدة لأنها "تضم شعبا متجانسا يقيم على أرضٍ مقدسة ترعاها الآلهة"، وعلى أن الإمبراطور سليل الآلهة وأب لجميع اليابانيين الذين يشكلون عائلة واحدة لها دولة واحدة تعتبرهم أبناء متساوين في الحقوق والواجبات. 

سرعان ما بدأ الإمبراطور في تكوين جيشه العصري القوي الذي حاصر أي محاولة تمرد أو انفصال بقسوة بالغة، والتف حوله صغار الساموراي الذين افتقدوا امتيازاتهم الاجتماعية لسنوات طويلة، فوجدوا في الدولة الجديدة سبيلا للترقي الاجتماعي. وقد صار الملمح الديني السياسي شديد الوضوح في عصر المَيجي، إذ نشرت الحكومة كتاب "المبادئ الأساسية للوحدة الوطنية" (كُكوتاي نو هُنجي-Kokutai No Hongi) سنة 1937، ووُزِّع على كل مدارس اليابان بوصفه أيديولوجيا مضادة للفكر الغربي. 

ثقافيّا واجتماعيّا، تشكَّلت الحياة في اليابان من سلسلة أخلاقيات صارمة تعرِّف ما هو مُباح وما هو مُحرَّم، غير أن الثقافة اليابانية الجديدة لم تنقطع تماما عن العالم، ولم ترفض التحديث بشكل كامل، لكن هذا التحديث لم يكن إلا وسيلة لتحقيق غاية الصمود في وجه الأجانب والتخلص من الاتفاقيات المذلة التي فرضتها القوى الأجنبية وأساطيلها السوداء في مطلع القرن التاسع عشر. 

توضِّح الباحثة اليابانية "موتوكو كاتاكورا" تلك العلاقة المعقدة بين التراث والتحديث في اليابان، مؤكدة أن الأمر لا ينحصر في ثنائية قبول العلوم الغربية أو رفضها، فلا يمكن للحداثة والتكنولوجيا العصرية أن تحقق أهدافها في أي بلد إلا بمقدار ملاءمتها للمجتمعات المنقولة إليها وحفاظها على تراثها الثقافي. ثم تستطرد قائلة: "نجحت اليابان لأنها لم تتخلَّ عن تراثها الثقافي التقليدي، ولم تتبنَّ أيّا من المبادئ الغربية لتجعلها قواعد ثابتة في الحياة اليابانية. فاستفادت اليابان من مقولات فلسفية ونظم غربية متنوعة، لكنها لم تتبنها كما هي، بل اختارت منها فقط ما يلائم مكونات مجتمعها، ونتج عن ذلك أن حافظت على استمرارية المبادئ الروحية إبَّان عملية التحديث وبناء الركائز المادية للمجتمع الياباني على قاعدة الاستفادة الدائمة من العلوم العصرية". 

كانت اليابان إبَّان الحرب العالمية الثانية واحدة من القوى العظمى في العالم، إلا أن المسلك السياسي الخاطئ الذي سلكته بسبب تاريخها المضطرب مع القوى الغربية انتهى بها إلى صدام دموي مع الولايات المتحدة الأميركية، التي رفضت النموذج التحديثي الياباني، ورأت فيه خطورة بالغة على هيمنتها، فقذفتها بقنبلتين نوويتين فوق هيروشيما وناغازاكي، ومنذ تلك اللحظة حدث انقلاب جوهري في بنية عملية التحديث داخل اليابان، لم تُحدِثه السفن السوداء أو الإرساليات التبشيرية، وبات التحديث غاية والتقاليد الموروثة محض وسائل، وتعقَّدت سمات الحداثة اليابانية حتى يومنا هذا، مبتعدة عن نموذجها النهضوي السابق للحرب العالمية الثانية وأخطائها. 


المصدر : الجزيرة نت


Create Account



Log In Your Account