كلام في السياسة "اليونان أهل فضل "
الثلاثاء 31 يوليو ,2018 الساعة: 09:08 مساءً

يخبرنا تاريخ ما قبل الميلاد أن شعب اليونان كان أول شعب فطن السياسة ومارس المشاركة السياسية بهذا المفهوم الذي نريد الحديث عنه هنا، كان لهذا التطور في مضمار السياسة أسبابه الموضوعية التي مثلت قابلية وروافع لهذا التطور السياسي ، حيث كانت في مقدمة هذه الأسباب تلك التحولات الإجتماعية التي عاشتها هذه الجماعة الإنسانية بكونها عرفت  في ذلك الزمن المبكر من فجر التاريخ الإنساني  مفهوم الشعب ومارست شيء من قيم المواطنة السياسية التي تجعل الشعب مصدر السياسة والسلطة معاً، كما أن هذا الشعب من زواية أخرى كان قد تجاوز عصبية القبيلة المؤثر في حركة الفرد داخل الجماعة.

وحتى لا يختلط الفهم لدى القارئ فإني لا أقصد الحديث عن الفلسفة اليونانية أو حكمة الغرب كما يسميها الفيلسوف برترند رسل في كتابة المعنون بهذا الاسم، فالفلسفة اليونانية كإنتاج نظري ومعرفي وعقلاني منذو سقراط العظيم الذي نقل الفلسفة من الحديث في الطبيعيات والماديات التي كانت تشكل موضوعات الإشتغال الفلسفي للحكماء السبعة الى الحديث عن الإنسان وجوهره ، وحتى مروراً على تلميذه  أفلاطون ووصولاً الى تلميذ تلميذه ارسطو المنطقي كانت " أي الفلسفة " لها موقف سلبي من التجربة السياسية ومخرجاتها عند شعب اليونان، فالفلسفة في عصر المعقول اليوناني  كانت تدين النسق السياسي العام في اليونان على مستوى التجربة السياسية للجماعة وعلى مستوى مخرجات النظام الديمقراطي الذي يجعل من العوام مصدر المشروعية في اختيار الحاكم ، مع ان الفلسفة نفسها كانت تعرف الانسان بطبعه على إعتباره حيوان سياسي  .

لم نقرأ في التاريخ ان هناك شعب اخر مارس السياسة كعلم يتعلق بالشأن العام في الماضي السحيق قبل هذا الشعب وبالمفهوم الذي يجعل المجتمع بما هو تجمع بشري انساني مصدراً للسياسة وللسلطة العامة بغض النظر عن المعتقد الديني ، وقد أدت تلك الممارسات السياسية المتعلقة بالشأن العام الى تأسيس أول مجال سياسي طبيعي في تاريخ البشرية غير محتكر من قبل رجال الدين او السلطان، وما يؤكد ذلك ممارسة هذا الشعب للانتخابات الدورية في اختيار حكامه وكذلك وجود دستور ديمقراطي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ناهيك عن وجود ثقافة سياسية وقيم مدنية ساهمت الى حد كبير في تشكيل عقل جمعي يفكر في شكل السلطة العليا وفق مرجعية قانونية ودستورية تشرعها مبادى الأغلبية ، وأكثر من ذلك كان هذا العقل الجمعي يحترم رجال السياسة والمشتغلين بها، فقد كان ينظر لمن يهتم بقضايا الشأن العام على حساب متطلباته الشخصية ويحضر الاجتماعات العامة المخصصة لمناقشة القضايا ويجيد الخطابة في السياسة بكونه رجل فاضل، عكس نظرتهم لمن لا يحضر هذه الاجتماعات ولا يجيد الخطابة ومنهمك فقط في أموره الخاصة ، ولهذا فإن اليونان هم أول من عرف الإنسان بكونه حيوان سياسي، وأنتجوا على هذا المنوال نظريات وعلم سياسي قبل غيرهم وبشكل استثنائي لاسيما في مقياس ذلك الزمن أو حتى بمقياس حركة التاريخ نفسه كصيرورة ،

ليس في ذلك انتقاص من الحضارات الأخرى فالمؤكد أن هناك حضارات سبقت الحضارة اليونانية في الوجود بل واستفادت منها الحضارة اليونانية مثل الحضارة الشرقية، لكني أتحدث هنا عن ما هو متعلق بالسياسة وممارستها بشكل عقلاني واعي وفق قواعد معلومة وأدوات مفتوحة تؤسس لبناء مجال سياسي عام مستقل عن سيطرة الدين والسلطان، وترفض أن تجعل منهما مصدراً للممارسة السياسية، أي أن السياسة لم تكن محتاجة الى وساطة من خارجها تبرر نجاعتها العملية في إدارة الشأن العام غير حاجة الجماعة البشرية نفسها للمفهوم السياسي في إدارة شأنها العام .


Create Account



Log In Your Account