هابيل في أرض النفاق
الثلاثاء 04 مارس ,2025 الساعة: 11:44 مساءً


هي ارض وطأتها فلم تقبلها نفسي،  تربتها الخيانة واشجارها الرياء والخداع وماؤها الكذب،  ارض فيها القول غير الفعل،  لا تأمن فيها على نفسك ولا عرضك ولا مالك، ارض جدباء لا زرع ولا ماء، هي سراب يحسبه الضمآن ماء، فلا يجد الا الرمال المدببة التي كلما مشيت فوقها جرحتك، سالت دماؤك فيها بلا قيمة، اشكالها جميلة واثرها جارح للقلب وللجسد، ارض النفاق لا صدق ولا وفاء لا امان ولا كرامة، يسكنها المنافقون والافاقون وشهود الزور والمحتالين المكارين على البسطاء والمساكين،  ارض تشعر فيها بالغربة،  انك لست من اهلها،  تشمئز من سكانها ومن اشكالهم التي تتحول بين صورة واخرى،  ارض النفاق يتجمل اهلها يتوزعون بين صاحب مال وصاحب لسان ومدعي معروف،  لكن يتحولون سريعاً من لون الى آخر وكلما سقط قناع لبسوا قناع آخر يتناسب مع اهدافهم الخبيثة في اضلال الناس وخداعهم وسلب حقوقهم، هم في دنيا الناس وجاهاتٌ وقامات ظاهراً، وفي نفوس الناس ليسوا سوى عاهات تسكن ارض النفاق .. الشر يتملكهم والشيطان يغرهم ..ويجذبهم لنهاياتهم التعيسة .. كما نهايات الظالمين والماكرين ومن تشبعت نفوسهم وحياتهم بالمكر والخيانة لمن حولهم.
وتتعدد قصص وحكايا الصراعات والخلافات البينية بين الانسان واخيه الانسان،  وتعود جذور هذا الصراع الى وجود الخير والشر في داخل النفس البشرية،  تقول القصص ان اول خلاف بين بني البشر كان بين ابني آدم،  وان احدهما يحمل قيم الطيبة والمحبة والتسامح والكرم،  بينما الآخر يحمل في نفسه الحسد والبغض والغيرة والحقد،  القرآن ذكر قصة هذا الخلاف بين ابني آدم هابيل وقابيل،  وكيف ان هابيل كان مثالاً للعبد الصالح المطيع لربه والزاهد عن الدنيا وكيف انه حتى تسامح مع اخيه عندما هدده بالقتل بعد ان تقبل الله القربان من اخيه هابيل ولم يتقبل منه،  يقول قابيل لاخيه هابيل : لاقتلنك .... فيرد هابيل بكل لطف واريحيه وبساطه واطمئنان : لإن بسطت اليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط اليك يدي لأقتلك .. اني اخاف الله رب العالمين .. انها قيم السلام والخوف من الله .
في هذا الزمان هل يمكن لهابيل تجاهل تهديدات قابيل وهل يجب ان يترك مصيره لعنجهية وكراهية وحقد قابيل؟ .. تغير الزمان وتطورت وسائل مواجهة الشر ومستلبي حقوق الآخرين وعزتهم وكرامتهم،  صحيح ان هابيل ومن يحملون طيبته وتسامحه لازال موجوداً في نفوس بعض من البشر،  لكن التسليم المطلق لاولئك الذين لديهم نزوع للشر والجريمة وسلب حقوق الآخرين لم يعد موجوداً عند الغالبية من الناس ، وان حاولوا كتمان هذا الرفض للظلم وللعنجهية، ذلك ان النفس البشرية قد اخذت الكثير من الدروس الربانية في كيفية مواجهة الظلم ومن يحملون قيم فاسدة يحاولون بها تدمير حياة الآخرين من حولهم،  اولئك الذين يستعلون على الآخر الذي يختلفون معه او الذي يفوقونه قوة في المال او النفوذ او حتى تفكيراً،  حيث ان تفوقهم يسخرونه في اذية الآخر ومحاولة استعباده،  لقد جاءت الشرائع الربانية لتنهي مفاسد هؤلاء فوضعت حداً لهم، يقول سبحانه وتعالى عن المفسدين في الارض ( انما جزاء الذين يفسدون في الارض ان تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف ) .. وتتنوع المفاسد ومن حجم المفسدة يكون حكم الشريعة في انهائها او معاقبة مرتكبها،  هابيل هذا الزمان متغير عن جده ابن آدم عليه السلام،  هنا لا يستسلم ولا يقبل الاهانة ولا يتقبل الظلم ليس عليه فقط وانما حتى على الآخرين،  هابيل اصبح في هذا الزمن حذراً بشكل كبير،  لان المكر والخديعة اصبحت تجارة رائجة .. ومربحة للكثيرين .. وهذا يذكرني بمقطع فيلم عربي قديم من بطولة الفنان الراحل فؤاد المهندس اسمه ارض النفاق ومنه استلهمت العنوان، حيث يدخل محل يبيع فيه صاحبه قيم واخلاق .. كان طلبه انه عاوز يشتري نفاق وكذب الا ان البائع يرد عليه انها كملت والطلب عليها زيادة .. وان هناك قيم الصدق والصبر والصراحة والشجاعة والمروءة موجودة وبضاعة بائرة .. في عصرنا او ايامنا اصبحت هذه الاخلاق متسيدة نفوس غالبية الناس وما حالنا هذا الذي نراه الا نتيجة من نتائج ايمان الناس بقيم فاسدة، فلا الطبيب يتقي الله في مرضاه ولا المعلم في مدرسته ولا المحامي في دفاعه عن قضية حق .. ارض النفاق يشخص حالة مجتمعنا الان، حيث كثرت الاخلاق الفاسدة .. واضمحلت اخلاق الرجال التي ترفعهم الى مصاف العظماء.
وما ذلك الا لان ارض النفاق اصبحت تتوسع يوماً عن يوم .. وسكانها يتكاثرون بسرعة هائلة .. ولعلنا نفهم سبب ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار .. ذلك انهم الاخطر على المجتمعات، اذ يسعون في خرابها وتدميرها حتى تخضع لهم، والله غالبٌ على أمره ..


Create Account



Log In Your Account