هيئة تحرير الشام.. من العولمة الجهادية إلى المحلية السياسية (قراءة في تحولات القيادة والتجربة)
الجمعة 27 ديسمبر ,2024 الساعة: 04:02 مساءً
توفيق الحميدي

في العقدين الأخيرين، شهدت الحركات الإسلامية تحولًا استراتيجيًا بارزًا من العولمة الجهادية إلى الفكر المحلي. كانت هيئة تحرير الشام، بقيادة "أبو محمد الجولاني"، أحد أبرز الأمثلة على هذا التحول. فمن تنظيم جهادي يهدف إلى تطبيق "الخلافة الإسلامية" في سياق عالمي، إلى حركة سياسية محلية تسعى لتحقيق استقرار داخلي وحل قضايا الشعب السوري. هذا المقال يستعرض التحولات الكبرى في فكر الهيئة واستراتيجياتها منذ تأسيسها حتى اليوم.

من العولمة الجهادية إلى المحلية: تحول أساسي في الفكر الاستراتيجي قبل أن تنفصل هيئة تحرير الشام عن تنظيم "القاعدة" في 2016، كانت تعتبر جزءًا من مشروع "الجهاد العالمي"، حيث كان هدفها إقامة دولة إسلامية شاملة عبر الجهاد المسلح. كانت الهيئة، تحت مسمى "جبهة النصرة"، تهدف إلى تنفيذ الأيديولوجية الجهادية التي تبنتها القاعدة، وهو ما وضعها في صراع مستمر مع الأنظمة المحلية والقوى الإقليمية والدولية. كان هذا التوجه يستند إلى فكرة إقامة "الخلافة الإسلامية" التي تنطلق من سوريا لتغطي مناطق واسعة على مستوى العالم.

لكن بعد انفصال الهيئة عن القاعدة، بدأ الجولاني في توجيه الهيئة نحو التركيز على القضايا المحلية السورية. وأصبح الهدف الأساسي ليس "إقامة دولة إسلامية عالمية"، بل العمل على استقرار المناطق المحررة وتحسين الأوضاع الإنسانية. هذا التحول يعكس إدراك الهيئة أن إصرارها على نشر الفكر الجهادي العالمي يمكن أن يعرقل استقرار سوريا، مما دفعها للتركيز على القضايا الوطنية السورية بعيدًا عن النزاعات الإقليمية والدولية. بالتالي، بدأت الهيئة في تحسين صورتها كقوة محلية تهتم بتحقيق مصالح الشعب السوري دون فرض أيديولوجيات خارجية.


من الهوية الطوباوية إلى الوطنية السورية

في بداية تأسيسها، كانت هيئة تحرير الشام تتبنى فكرة إقامة "الخلافة الإسلامية" ضمن إطار جهادي عالمي، حيث كان يُنظر إليها كمشروع طوباوي يسعى لتحويل سوريا إلى نقطة انطلاق لإقامة دولة إسلامية شاملة. كان هذا التصور ينطوي على مخاطر كبيرة، حيث عرض الهيئة لصراعات دموية مع النظام السوري والقوى الإقليمية التي كانت ترفض مثل هذه الأيديولوجية.

ومع مرور الوقت، شهدت الهيئة تحولًا جوهريًا في خطابها، خاصة بعد انفصالها عن القاعدة. أصبح الجولاني يروج لفكرة "سوريا أولًا"، وهي فكرة تركز على وحدة الشعب السوري وتنبذ الانقسامات المذهبية والطائفية. كما أن الهيئة بدأت في تقديم خدمات أساسية للسكان المحليين مثل الصحة والتعليم، دون تمييز طائفي أو ديني، مما ساعد في تحسين صورتها كمجموعة محلية تهتم بمصالح الشعب السوري دون فرض أيديولوجيات خارجية. هذا التوجه يعكس تحولًا حقيقيًا من الفكر الطوباوي إلى القبول بالواقع السوري، والاعتراف بالخصوصية المحلية.

القيادة الشابة: مرونة أكبر في التعامل مع التحديات السياسية 

قبل التحول، كانت هيئة تحرير الشام تحت قيادة الجولاني تسير وفقًا لفكر جهادي تقليدي يعتمد على الهجمات العسكرية المستمرة. وكان التركيز الأساسي في القيادة يتمحور حول النضال المسلح والإطاحة بالنظام السوري، دون الانتباه إلى احتياجات المدنيين أو بناء الهياكل السياسية والإدارية اللازمة لحياة مستقرة.

لكن تحت قيادة الجولاني، ومع التحولات الإقليمية والدولية، تحولت الهيئة إلى نموذج سياسي أكثر مرونة. بدأت الهيئة في تشكيل حكومة محلية صغيرة تهدف إلى إدارة مناطقها وتوفير الخدمات الأساسية.

هذه السياسة الجديدة ركزت على استعادة الاستقرار الداخلي بعيدًا عن الهجمات العسكرية المستمرة. وقد ساعد هذا التوجه الهيئة في تقديم نفسها كحكومة فاعلة قادرة على إدارة الحياة اليومية في المناطق المحررة. بالإضافة إلى ذلك، تمت إعادة ترتيب الأولويات في القيادة، لتشمل الاهتمام بالاحتياجات الإنسانية بشكل أكبر، بما في ذلك تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتقديم الدعم الطبي والتعليمي في المناطق التي تسيطر عليها.

من الثورة المسلحة إلى بناء الدولة: تحول استراتيجي في الأهداف

قبل التحول، كانت هيئة تحرير الشام تتبنى فكر الثورة المسلحة، مع التركيز على إسقاط النظام السوري من خلال الصراع العسكري. هذا التوجه جعلها تظل جزءًا من الحرب الأهلية السورية التي كانت تهدف إلى تغيير النظام بالقوة العسكرية، وهو ما يضعها في مواجهة مستمرة مع القوى الدولية والإقليمية.

ومع مرور الوقت، ومع ازدياد التحديات الأمنية والسياسية، بدأت الهيئة في التحول إلى نهج أكثر استراتيجية. أصبحت الهيئة تركز على بناء نموذج سياسي مستدام، يتجاوز مجرد إسقاط النظام. وبدلاً من التركيز على الحرب فقط، بدأت الهيئة تبني أهدافًا سياسية تهدف إلى توفير الاستقرار لمناطقها وإدارتها بشكل محلي. فبدلاً من تطبيق أفكار جهادية عالمية، أصبحت الهيئة تهتم بتطبيق حلول سياسية محلية تلبي احتياجات الشعب السوري. من خلال هذا التحول، بدأت الهيئة في اتخاذ خطوات ملموسة نحو تحويل نفسها إلى سلطة محلية تسعى لبناء دولة سورية مستدامة تتجاوز الحرب.


التعامل مع القوى الإقليمية والدولية: سياسة براغماتية للتوازن

في البداية، كانت هيئة تحرير الشام تنتهج سياسة معادية للقوى الإقليمية والدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة والدول الغربية، وكان هذا أحد العوامل التي عزلتها عن المجتمع الدولي. لكن مع مرور الوقت، وتحت قيادة الجولاني، بدأت الهيئة تتبنى سياسة براغماتية تهدف إلى الحفاظ على استقلالها السياسي والتفاعل مع القوى الإقليمية بطريقة أكثر هدوءًا ومرونة.

على سبيل المثال، بدأت الهيئة تبني علاقات مع تركيا، مما ساعدها على الحفاظ على قوتها في المعادلة السورية. كما حاولت الهيئة تجنب المواجهات المباشرة مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل، مما يعكس مرونتها في التعامل مع المتغيرات السياسية. وقد ساعد هذا التوجه في تقليل الضغوط العسكرية والاقتصادية على الهيئة، بينما استمرت في تركيز جهودها على إدارة المناطق التي تسيطر عليها.

التحديات المستقبلية: اختبار التحول والتوازن

رغم النجاحات التي حققتها هيئة تحرير الشام في التحولات التي قامت بها، إلا أن الطريق أمامها ما زال محفوفًا بالتحديات. على المستوى المحلي، تواجه الهيئة صعوبات في الحفاظ على التوازن بين قوتها العسكرية وفعاليتها في الإدارة المدنية. كما أن تحولات الهيئة السياسية قد تواجه تحديات من قوى إقليمية ودولية قد تحاول التدخل في شؤونها ، إضافة الي قدرتها علي جمع التناقضات السورية ، وتمثيل الجميع في مشروع سياسي وطني جامع ، مواجه ارث النظام السياسي والفكري والمصلحي الذي قد يكون قادر علي لعب أدوار تخريبه لصالح قوي خارجية.

على المستوى الإقليمي والدولي، يمكن أن تواجه الهيئة ضغوطًا سياسية في ظل التغيرات المستمرة في المعادلات الإقليمية. تتطلب هذه المرحلة الجديدة من الهيئة أن تحافظ على توازن دقيق بين القيم الوطنية السورية وبين التفاعلات مع القوى الإقليمية والدولية، ما يجعل المستقبل مليئًا بالتحديات والفرص على حد سواء ، إضافة الي مواجه الدول التي فقدت مصالحها في سوريا وتسعي الي لعب دور اكثر فاعلية بما يعيد لها جزء مما فقدته.

في النهاية، تظل هيئة تحرير الشام في مرحلة اختبار حاسمة. قد تمثل هذه التجربة نقلة نوعية في تاريخ مسار الحركات الإسلامية بشقيها العنيف والمدني ،  لكنها أيضًا عرضة لتحديات جديدة قد تقوض استمراريتها إذا لم تستطع التكيف مع التحولات الإقليمية والدولية.


Create Account



Log In Your Account