من شوبنهاور الى "بنات الرياض "!
الخميس 24 فبراير ,2022 الساعة: 03:02 مساءً

ما الذي يدور في هذا العالم الثقافي الفني .. ما الذي آلت إليه مقولات الفلسفة؟ 

نقرأ عن هيجل وشوبنهاور ونيتشه دون ان يكون لهذا علاقة ببحثنا عن إجابات ملحة لما يحدث لنا الآن.
ما الذي آل إليه أمر الفلسفة الوجودية .. ولم نسمع مؤخراً اسماً متداولاً تحت مصنف فيلسوف ...
إذ لا يمكن بحال اعتبار فوكوياما فيلسوفاً .. أو حتى هنتجتون. 

لقد ولى زمن دريدا وجارودي ولم يحدث زمن فلسفي لاحق. وكانت بعض محاولات التثاقف الصحفي قد فشلت كلية في الحصول على فعل فلسفي حديث .. كمقولة وكاسم، وانحصر الأمر في مجادلات حالة ما بعد الحداثة. 

الى أين انتهى أمر السيريالية والدادائية؟ ومن يرسم الآن لوحات يمكن بيعها في ما بعد بعشرات ملايين الدولارات ؟ 

يبدو أن العالم كله يجتر ما يشبه تمجيد براعة ذهن الماضي وموهبته الفنية ..
كانت إغراءات إنجاز صحافة ثقافية تستبعد مثقافات الأسماء العالمية الشهيرة المتداولة في الفلسفة والرسم والموسيقى والبحث عن أداءات تحدث الآن في باريس أو برلين وفي نيويورك, مجرد حماسة صحفية تعيد إنتاج أخبار الفكر والفن المقتضبة والمنشورة في كبريات صحف العالم ودورياته المتخصصة . 

خلاصة الأمر أن الحدث الفني والفلسفي الكبير لم يعد يحدث تلك الجلبة وحالة الانبهار والإلهام. 

الفائزون بنوبل مؤخراً لم يحصلوا على ذلك الانبهار العالمي بروايات من نوع "مائة عام من العزلة" أو بروايات ديستوفسكي الماضوي للغاية... ولم يصل أي من الحاصلين على نوبل خلال العقد الماضي كله إلى مستوى وجود نوبل الستينيات والسبعينيات مثلاً.
لم يرفض أحدهم الجائزة, ولم تشغل رواياته عالم الوله بالسرد وسبر أغوار الإنسان. 

باستثناء جونتر غراس الذي قام العالم بتداول رواياته بشغف قريب نوعاً ما من ذلك الشغف الذي قوبلت به روايات إيزابيل الليندي . 

هل يصادف أحدكم اسم نجيب محفوظ في دوريات العالم الأدبي؟ ومجدداً ما الذي يحدث في عالم الفن والعبقرية؟. 

يبقى أمر إنجاز صحافة مدهشة عن رسام يتعمد الإساءة لسمعته ليبقى وحيدا كما كان يفعل أدجار ديجاه .. يبقى الإنجاز متعذراً .. ذلك أن المعتوهين المدهشين لم يعودوا يتجولون في السان جرمان وبين صالات العرض. 

وأصبح من المتعذر إقناع القارئ بقصة لوحة تم عرضها في ذات المكان الذي سرقت منه لوحة لماتيس أثناء ما كان هذا الفنان يعاني تداعيات فضيحة جنسية، وأن الذي قام بشراء لوحته هو واحد من الذين تبقوا من زمن بارونات اقتناء اللوحات .. على أن تنتهي القصة باستضافة هذا البارون لأحد  فلاسفة جامعة جورج تاون من قبيل المباهاة. 

لا يكاد يحدث في هذا العالم ما يمكن اعتباره ولعاً بالعبقرية والموهبة، ولا يبدو ان بقية عاطفة في دنيا اليوم لا تزال تكن تقديرا عميقاً لعته العبقرية وجاذبيتها.
يقتات العالم الثقافي المنشور غرائبيات وجاذبية أيام ماضية، وأسماء قديمة باستثناء دان براون المتداول بشدة من خلال رواياته الأقرب إلى روايات بوليسية على غرار "شيفرة دافنشي". 

وسيرة حياة  دان براون إلى الآن غير ملهمة البتة, وغير جذابة. إنه دؤوب وشهير للغاية ... محظوظ، وطبع على رواياته رقم من نوع (20 مليون نسخة)، لكنه لم يدفع أحداً في هذا العالم للادعاء أن براون قد غير حياته.
يتواجد الآن باولو كويلهو كمحاولة للتمسك بأيام مجد الرواية، غير أن كويلهو لم يتمكن إلى الآن من إنجاز ذلك الوجود الموحي الغامض الغرائبي, والحصول على قراء يدعون أنهم أدركوا ما الذي يعنيه مأزق الوجود الإنساني من خلال رواياته، كما هو الحال مع أسماء لا تزال على قيد الحياة، مثل كونديرا، الموجود الآن كشاهد على ماضي تشيكسلوفاكيا أكثر من أي شيئ آخر.
ربما يعرف مثقفو العالم أسماء مهمة تنجز كتباً وروايات بمقولات فلسفية جديدة، لكن أين هي هذه الأسماء؟ وما الحدث الموسيقي المهم في عام 2010 الميلادي!؟
يبدو أن الأمر ليس في توقف العالم عن إنجاز عباقرة مدهشين وكتب ملهمة, بقدر ما توقفنا نحن عند همنجواي وديستوفيسكي، وتطورنا إلى قراء لميلان كونديرا، عارفين باسم أورهان باموك دون أن نتمكن من ترجمة علاقتنا بكل الذي آل إليه أمر مدارس الفن والأدب والفلسفة. 

آخر عروض البرودواي لم تشغل أحداً، والأغروف لم يعد يعرض "بحيرة البجع". وكأن المثقف الذي يتمتم حديثه بـ "هكذا تكلم زرادشت" أصبح مدعاة للسخرية..
أما الفنان الهالك الجذاب الذي يحتسي البيرة الرخيصة في إحدى حانات لندن القديمة، ويشتم العالم ويعود في آخر الليل بحثاً عن عاهرة ماضية، ليفضي إليها برغبته في الانتحار، فهو فنان افتراضي لا أحد يظنه موجوداً الآن. 

ولم تتداول الصحافة الفنية قصة من هذا النوع، ربما لأنه لم يعد من الجاذبية بمكان قيام موهوب بأكثر انفعالاته رومانسية بين يدي عاهرة. 

كانت عاهرات الماضي حالة من الإلهام, من كونهن حالة ذروة العالم الفني العالق في الحقل الأخلاقي, لم يعدن حالة التباس ضاجة بالرغبة والإذلال، بقدر ما أصبحن تمثيلاً لحالة استهلاك واقعي، لا يثير فضول أحد. 

لكأن العالم توقف عن الاشمئزاز والحيرة بشأن الحكم الأخلاقي، وتوقف بذلك المثقف الباحث دوماً عن قصة تملؤه .. توقف في زمن كونديرا ولم يتمكن من إنجاز علاقة ممكنة مع كويلهو، او دان براون. 

يقول لك أحدهم: نشروا مؤخراً مقابلة مع كومبروفيتش أو سيوران .. الله كم أن هذا الرجل متماجن وحقير. إنه يعيش على تمجيد فوضاه ودناءاته، ويخبرك أن هذا نشر في صحيفة اسمها جذاب هو الآخر. وتستمر حياة التثاقف الملهم. 

لكن لا أحد يخبرك عن مقابلة لعينة مع باولو كويلهو أو دان براون. 

يندهش المثقف المفترض أن يكون هدفاً للصحافة الثقافية من الرقم 20 مليون على روايات دان براون، دون أن يحاول ولو لمرة واحدة استدعاء مقولة لدان براون بصوت أجش أثناء ممارسته عاداته الأثيرة في رثاء الذات والعالم. 

ليس الزهد بدان براون، فذلك طبيعي، ولكن الزهد بباولو كويلهو؛ الذي يتردد الآن على هيئة أرقام هو الآخر
عدد اللغات التي ترجمت إليها رواياته أظنها جميع لغات العالم، وعدد النسخ وعدد دور النشر ..غير أن مقالة نقدية لكاتب شهير لم تنشر عن حالة انفعال عاطفي شخصي تجاه واحدة من روايات كويلهو.
كأن يغادر هذا الناقد المفترض مكتبته صارخاً: أيها الكذاب!. 

كانت الصحافة الثقافية تقدم اختصارات مدهشة، تساند مدمني التجليات الوجودية المتجاوزة التي يقوم بها مرضى العته الموهوب، أو تلك اللحظات الاستثنائية التي تقدمها نتاجاتهم الفنية. وأن يذهب هذا القارئ إلى حفلة في ضاحية مدينته العدوانية ليصرخ في وجوه الحاضرين: أيها الكريهون. محاولاً محاكاة سارتر في تصرف مشابه قام بسرده في "الكلمات" مذكراته الشهيرة. 

أظن الصحافة الثقافية قد نشرت تفاصيل قصة هذا الاستياء الملهم، وحصلت على ذلك النوع من التثاقف الصحفي المدهش، الذي يلبي ربما طائفة موزعة في بقاع العالم تقتات انفعالات الوجودية الموهوبة. تقتات مآلاتها واعترافاتها وضعفها بالغ الجاذبية. حيث تصبح الحياة المنفعلة ممكنة ومتداولة على الصفحات, وبوسعها إحداث ذلك التقارب المغوي بين الإنسان وذاته المتناقضة المهددة. 

تنفرد دنيا النشر مؤخراً بغرائبية فن وشخوص العرض السينمائي ومخرجيه المدهشين ... المتوافر حالياً يدور بين استوديوهات هوليود وبين هذا النهم المتجول في العالم بحثاً عن أي وميض ملهم. 

الباقي مجرد انجازات واقعية، ولم يعد العالم ليلتفت, كما كان في الماضي, للمتوحدين في الضواحي المنهمكة في انجاز رؤى تخص المصير الإنساني. 

والمتبقي الأكثر حضوراً هو حالة من الاستعلاء الواقعي ضد حالة ادعاء معرفة أعماق الإنسان التي احتفى بها العالم سابقاً
أسماء مهمة أو قراءات مهمة لجيل من المتعالين، على غرار سوزان سونتاج، يقولون كل ما من شأنه التقليل من شأن العباقرة كليي القدرة. 

كانت الأيام الماضية تتسع لجاذبية مجازفة عبلة الرويني بحياتها في رفقة حياة الشاعر أمل دنقل الضائعة, النوم معه على أسطح العمارات المهجورة , النوم بلا عشاء ولا ضمانات مقابل رفقة جاذبية الفوضى الحاذقة والجارحة التي كان يمثلها أمل في قاهرة الأيام الماضية التي كانت لا تزال تعتقد أن ثمة جاذبية في فكرة المتوحش النبيل. 

قصة من قبيل تخلي عبلة الرويني عن كل شيء لأجل أمل دنقل, إذا ما نشرت مؤخراً لن تحظى بذلك المستوى من الشغف. 

يتحول العالم إلى الخبرة أكثر مع مرور الوقت.
وكانت الصحافة الثقافية والأدبية في الماضي لا تزال تقوم بواجبها في تغطية حياة الفن الذي كان بريئاً وبلا خبرة. ذلك أن الخبرة تقضي على البراءة وتقضي على الشغف أيضاً. 

وبالتالي يكون الحدث في القاهرة رواية "عمارة يعقوبيان" الواقعية للغاية، التي كتبها رجل لا يتأخر عن مواعيد عمله. 

وفي السعودية الحدث هو رواية "بنات الرياض" التي ترصد واقع فئة عمرية مراهقة في مجتمع محافظ.
هذان المثالان تم تقديمهما من واقعية قرب جغرافي، يمكن من خلاله التقاط النماذج على فقر هذه البيئة في تداول إلهام عوامل الموهبه , منذ بدأ العالم يكتب وينشر مختصرات عن أعمال جديرة بالوله. 

أعمال تتسع للادعاء الإنساني باقتفاء أثر المطبوعات وفرزها، والحصول على حالة الإشباع, ولو في حدوده الدنيا. 

الإشباع الوجودي فور الانتها من قراءة كيف أمضى أدجار ديجاه أيامه الأخيرة، محاولاً عزل نفسه عن الآخرين من خلال تعمد إطلاق إشاعات تسيئ لسمعته.
فور أن يفرغ العالم الثقافي من قراءة مبحث بيكاسو عن منحوتات جياكوميتي وهو يكتب: "تشعر أن منحوتات جياكوميتي قد وجدت ملاذها آخر المطاف في ذلك الوهن السري الذي يمدها بالعزلة".



Create Account



Log In Your Account