الأحد 31 يوليو ,2022 الساعة: 11:09 صباحاً
يُؤكد البعض أنَّ استعدادات الإماميين لإسقاط صنعاء كانت قد بدأت حين اكتفى المصريون بحماية مثلث صنعاء - تعز - الحديدة، بخطة عسكرية أخذت اسم (النفس الطويل) مارس 1966م، صحيح أنَّ القوات المصرية بدأت حينها بالاعتماد على بعض الوحدات العسكرية اليمنية، إلا أنَّها - أي الخطة - أعطت بيت حميد الدين ومرتزقتهم فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم بين صفوف القبائل.
تكفل بِوضع خُطة الهجوم الإمامي التي أسميت بـ (الجنادل) - أي السيل المُتدفق - عدد من كبار القادة العسكريين الأجانب، كان يُطلق عليهم (المُغامرون في حرب اليمن)، وعلى رأسهم مُستشار البدر الجنرال الأمريكي بروس كندي، أطلق الإماميون عليه اسم (عبدالرحمن)، وأعطوه رتبة لواء، وكان معه في تلك المهمة الخبير البريطاني ديفيد سمايلي، ونيل بيلي ماكلين، والميجر بنكلي، وبينارد ميلز، والإيراني محمود، والفرنسي بوب دينار، والأخير صاحب شعار: (وكانت هنا جمهورية).
ولبوب دينار هذا تصريح صحفي اعترف فيه أنَّ إسرائيل دعمت القوات الملكية بأسلحة نوعية، أنزلت لهم عبر المظلات، صحيفة (سلاح الجو الإسرائيلي) أكدت ذلك أيضًا نقلًا عن طيارين إسرائيليين شاركوا في تلك العملية التي أعطيت اسم (صلصة)، ونشرت وثائق سرية عنها، وصورًا لبعض الطيارين الإسرائيليين، وبعض من أسمتهم (مُوالين للبدر)، وبحوزتهم ذاك السلاح.
الدعم الإسرائيلي للإماميين يعود في الأصل إلى ما قبل حصار صنعاء بخمس سنوات، وهي حقيقة أكدها محمد حسنين هيكل في كتابه (سنوات الغليان)، حيث قال أنَّ الدولة العبرية شَاركت فعليًا في حرب اليمن، وتولت إسقاط أسلحة وذخائر لجيوب الملكيين المُحاصرين في الجبال، بعملية عسكرية أخذت اسم (مانغو)، وأنَّها - أي إسرائيل - كانت تُمارس ذلك النشاط من قاعدة جيبوتي الواقعة حينها تحت الاحتلال الفرنسي.
سبق ذلك قيام عضو مجلس العموم البريطاني ذو الأصول اليهودية جوليان اميري بإنشاء مكتب في لندن للاتصال والدفاع عن الامامة، وذلك بعد قيام الثورة السبتمبرية بأسابيع معدودة، وتلقى من الرياض ونيويورك اعتمادات مالية ضخمة، وبدأ اتصالاته ببعض الضباط المحترفين، كان الميجور جون كوبر أبرزهم، توجه الأخير الى نجران، ومنها تسلل برفقة قوة خاصة إلى الجوف، وأنشأ في الأخيرة قاعدة لاستقبال المرتزقة.
وفي أواخر عام 1963م قامت إحدى دوريات الهليوكبتر المصرية بإلقاء القبض على شخص كان يسير مُتخفيًا في جبال بيحان، وتم العثور بحوزته على رسائل مُرسلة الى عدد من المرتزقة، كان من المفترض أنْ يُوصلها أولًا إلى مخبأ الأمير عبدالله بن الحسن في خولان، ولم يمض من الوقت الكثير حتى تم الإعلان عن وصول 12 مرتزق بقيادة الضابط الامريكي الرائد بروسكند، فيما استمرت عملية التجنيد في لندن، وتل أبيب، وعدن، وباريس، ومن الأخيرة وصل المرتزقة ميشيل المجنون، وشرام، وبوب دينار، وفولكس، وقد وصل أجر الجندي الواحد من 400 إلى 500 جنيه إسترليني في الشهر.
وتأكيدًا لما سبق، ذكرت إحدى التقارير أنَّ نيل بيلي ماكلين توجه لذات الغرض إلى تل أبيب، والتقى موشي ديان، ورئيس جهاز الموساد أميت مائير، وقد شمل الإنزال الإسرائيلي الأول الذي حضره الميجور جون كوبر (قائد معسكر المرتزقة) حوالي 180 بندقية، و34,000 طلقة موزر، و72 قَذيفة مضادة للدبابات، و68 كيلو من المُتفجرات البلاستيكية.
وذكر اورين كيسلر - وهو كاتب ومُؤرخ أمريكي - في مَقالٍ له أنَّ الدعم الإسرائيلي تم بالتنسيق مع المُخابرات البريطانية، وأنَّ الدولة العبرية قامت وعلى مدى عامين بـ 14 عملية نقل جوي، عبر أكبر طائرة نقل خاصة بها Boeing C-97، وأفاد أنَّ إحدى عمليات الإنزال تمت ليلًا، والإمام محمد البدر مُجتمع ببعض المشايخ 26 مايو 1964م، وحين رأى الأخيرون ذلك، خاطبوا بعضهم: «انظروا.. حتى الله يُساعد الإمام!!»، وأضاف كيسلر: «واستكملت عمليات النقل الجوي بنشر عملاء مخابرات الموساد الذين تم القبض على أحدهم من قبل اليمنيين، وتم تسليمه إلى مصر..».
كانت السعودية على علم بالدعم الإسرائيلي مُنذ لحظاته الأولى، وهي حقيقة أكدها اللواء عبدالله علي الحيمي في كتابه (ثورة في جزيرة العرب)، وفيه تحدث عن لقاء حدث بين عدنان خاشقجي ومساعد وزير الدفاع الاسرائيلي شمعون بيريس في باريس 1963م، وأنَّ الأخير أكد للموفد السعودي أنَّ الدولة العبرية شاركت فعليًا في حرب اليمن، وتولت اسقاط اسلحة وذخائر لجيوب الملكيين، وقامت بإنزال مظلي لحوالي 400 إسرائيلي من أصل يمني، وأنَّ مهمة هؤلاء تمثلت في القيام ببعض العمليات الخاصة في المجهود الحربي، ومن ثم التسلل والذوبان وسط الجماهير.
من جهته أفاد الشيخ أحمد إسماعيل أبو حورية في مُذكراته أنَّه رأى بأم عينيه أحد اليهود يُقاتل في صف القوات الإمامية بالقرب من صرواح، وأضاف: «وكان هناك شخص لم أعرف وقتها أنَّه يهودي يمني (وكان على رأسه شال شديد السواد، وله بشرة شديدة الحُمرة) إلا بعد أنْ قرأت كتابًا للأستاذ محمد حسنين هيكل يصف فيه اليهود اليمنيين الذي جاؤوا من إسرائيل، ويقومون بالإرشاد كخبراء للتعامل مع الدبابات والألغام، ويُشاركون في الحرب بتقديم المعلومات والإرشادات للطرف الملكي».
وعلى ذكر منطقة صرواح، قال ناصر السعيد في كتابه (تاريخ آل سعود) أنَّ السعودية وافقت بعد قيام الثورة السبتمبرية على عودة عدد من يهود نجران للمشاركة في حربها ضد الجمهورية الوليدة، وأضاف: «وكانت الثورة اليمنية قد اعتقلت بعضهم عام 1962م، في معركة صرواح، واعترفوا أنَّهم يعملون لصالح السعودية».
وكان الغرض من تلك المُشاركة تَوريط مصر في حرب اليمن، وإنهاكها اقتصاديًا وعسكريًا، وقد اعترف - فيما بعد - رئيس جِهاز المُخابرات الإسرائيلية (الموساد) بذلك، وأكد لصحيفة (هارتس) الإسرائيلية الصادرة في 21 فبراير 2000م أنَّه أصدر أوامره لضباط الموساد بمُعاونة الإمام محمد البدر، وأرسل عسكريين إسرائيليين لتدريب القوات الملكية، وللتعرف على القوات المصرية عن قُرب.
وبالعودة إلى خطة حصار صنعاء (الجنادل)، فقد تلخص هدفها في السيطرة على العاصمة من خلال حرب سريعة وخاطفة لا تتعدى الأيام الأربعة، تُمهد بقطع طرق الإمداد والتموين، والانقضاض السريع على المواقع العسكرية، والضرب الشديد بالمدفعية الثقيلة، ومن ثم الهجوم من أربعة محاور: محور جنوبي غربي بقيادة الأمير محمد بن الحسين، ومحور غربي بقيادة الفريق قاسم مُنصر، ومحور شمالي بقيادة الأمير علي بن إبراهيم، والأمير محمد بن إسماعيل، ومحور جنوبي بقيادة الشيخ علي بن ناجي الغادر، والشيخ قاسم سقل، ومحور شرقي بقيادة الأمير محمد بن عبدالمحسن، ومع كل محور عدد من الخبراء الأجانب للتعامل مع الأسلحة المُعقدة التي لا يعرف الإماميون استخدامها، فيما كانت جميع هذه المحاور تحت قيادة وإشراف الأمير محمد بن الحسين.
تم حشد حوالي 70,000 من رجال القبائل، و10,000 جندي نظامي، وقيل أقل من ذلك، إلى جانب 2,000 جندي مرتزق، و300 ضابط مرتزق، وقيل أقل من ذلك، تم تجميعهم من بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وأمريكا، وإيران، والهند الصينية، وإسرائيل، والكونغو، وجنوب أفريقيا، وأشرف على قدومهم الفرنسي روجر فالك، والبريطاني جيم جونسون، وذلك بعد أنْ قام الأخير بفتح مكتب في لندن، وقام الأول بفتح مكتب في باريس لذات الغرض.
ديفيد سمايلي تعمق أكثر في نقل تفاصيل ذلك، وقال أنَّ وزير خارجية الإماميين أحمد الشامي شارك روجر فالك في تجنيد عدد من المُرتزقة المُحترفين، الذين سبق أنْ خدموا في الهند الصينية، والجزائر، والكونغو، فيما قام جيم جونسون في تجنيد ضباط وصف ضباط سابقين في الجيش البريطاني، أغلبهم من قوات الجو الخاصة، وكان يتم نقلهم بمساعدة توني بويل إلى عدن، ثم بيحان، وكان حاكم الأخيرة حسين الهبيلي من كبار الموالين للإماميين، هيأ للقادمين الأجانب دارًا آمنة، وسهل نقلهم إلى المناطق الشمالية المُشتعلة بالمواجهات.
سمايلي تحدث أيضًا عن رفاقه الضابط الأجانب القادمين إلى جبال اليمن، فهذا صديقه الانجليزي جاك ميلر صارت معنوياته هابطة، وخيبة أمله في الإماميين مُتزايدة، ومع مرور الوقت طال ذات الشعور جميع أقرانه من المرتزقة البريطانيين، وعلى عكسه وعكسهم كان الفرنسيان بوب دينار، ومساعده جي موريه، فهما ودودان، ومتعاونان، ويعملان من أجل المال، فقد غرست فيهما المعارك والخيانات في الهند الصينية والجزائر تشاؤمًا راسخًا، واحتقارًا للمبادئ والشعارات، وقد وجد سمايلي تبعًا لذلك التعامل معهما أسهل من غيرهما.
ولم تكتف بريطانيا بتجنيد المرتزقة وتسهيل مرورهم إلى جبال اليمن، فقد قامت بتسليح حوالي 20,000 من أبناء القبائل، وأذاع راديو لندن بعد مرور شهر من الحصار أنَّ الملكيين زودوا بأكبر صفقة سلاح قدرت قيمتها بـ 400 مليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى المئات من سيارات الوانيتات السريعة الأمريكية الصنع.
وما يجدر ذكره، أنَّ الإمام المخلوع محمد البدر كان قد نفذ بعد قيام الثورة السبتمبرية بجلده صوب السعودية، وأعلن من حدودها وبمؤتمر صحفي أنَّه زاحف بمساعدة الأشقاء لاستعادة مُلكه المسلوب، لتعلن المملكة بعد قيام تلك الثورة بِشهر وسبعة أيام عن قيادتها لتحالفٍ داعم للإماميين، ولولا ذلك التدخل السافر ما استمر مخاض الجمهورية الوليدة لأكثر من سبع سنوات.
والأكثر سلبية، أنَّه وبرغم مُغادرة القوات المصرية اليمن بمُوجب اتفاقيتي جدة والخرطوم، إلا أنَّ السعودية لم تلتزم بهما، استمرت بدعم الإماميين، وحفزتهم على اسقاط صنعاء والجمهورية، وتكفلت بدفع 300 مليون دولار لذات الغرض، وذكر حسن مكي - وزير الخارجية حينها - أنَّ المبلغ المذكور كان للحملة الإعلامية وتجنيد المُرتزقة الأجانب.
وكانت إيران قد انضمت مٌبكرًا للتحالف السعودي البريطاني الإسرائيلي الأردني المُساند للإماميين، وما يزال دعمها للأخيرين قائمًا حتى اللحظة، قدمت حينها مساعـدات مالية وعسكرية مَهُـولة، وشارك بعض جنودها في المعارك، وتم أسر عدد منهم في منطقة حرض الحدودية، وأعلن عن ذلك في حينه، كما تم تدريب بعض عنـاصر الجيش الإمامي في أراضيها.
في نقله لتفاصيل رحلته الرابعة إلى اليمن 1965م، والتي عمل بعدها كمستشار عسكري للأمير محمد بن الحسين، تحدث ديفيد سمايلي عن لقائه بضباط إيرانيين في أكثر من موضع، وأثناء حديثه عن مقر عمليات المُرتزقة في برط العنان، قال أيضًا: «كان هناك أربعة إيرانيين تحت إمرتي.. وكانوا ضباطًا في الجيش النظامي أرسلهم الشاه - يقصد الشاه محمد رضا بهلوي - بسبب تعاطفه الطبيعي مع الملكيين من ناحية، ولخشيته من ناصر وسياسته من ناحية أخرى».
اللافت في الأمر أنَّ الإماميين أرسلوا بمبعوث من قبلهم إلى طهران بدون علم الرياض يوليو 1967م، لم ينقل سمايلي رد فعل الأخيرة على ذلك، واكتفى بالقول: «لم يكن السعوديون من جانبهم غير راغبين بالتخلي عن الملكيين، مع شعور أنَّ هؤلاء قد خذلوهم بفتور عملياتهم بميدان القتال، ولذلك تحول الملكيون لطلب العون من الشاه».
كانت العلاقة بين الرياض وطهران حينها جيدة، واستمر وصول الدعم الإيراني إلى مطار جدة، وحضر اسم قادة إيرانيين مشاركين في بعض العمليات العسكرية، كالميجر محمود الذي شارك ديفيد سمايلي إحدى رحلاته الاستطلاعية الممهدة لحصار صنعاء، وقد كان من أهداف تلك الرحلة البحث عن أرض صالحة لهبوط طائرات النقل: وعلق سمايلي على ذلك: «ولاح لي أنَّ الشاه ربما سيرسل إمداداته إلى اليمن مُباشرة».