الإثنين 08 أُغسطس ,2022 الساعة: 03:20 مساءً
لم تكن السعودية رَاغبة أصلًا في إعادة أسرة بيت حميد الدين إلى سُدة الحُكم، وتَمثل هَدفها الأول والأبرز في إنهاك النظام الجمهوري، وداعِميه، وخَلق أجواء دائمة من حالة أللا استقرار. ساندت الأمير محمد بن الحسين على حساب ابن عمه الإمام محمد البدر، وتَخلت عنه بمُجرد أنْ خرج عن أهدافها المُتمثلة في إعادة إحياء ميثاق مُؤتمر الطائف، وبدأ يعمل على إعادة بعث النظام الإمامي.
ولم تكتفِ - أي السعودية - بذلك؛ بل قطعت مساعدتها بصورة شبه نهائية عن الإماميين، وسَارعت بفتح خُطوط تَواصل مع عدد من مَشايخ المناطق الشمالية الجمهوريين، الذين بدورهم سارعوا للالتقاء بأقرانهم المشايخ الإماميين في مدينة عبس 24 يوليو 1968م، وهو التَواصل الذي كان له ما بعده.
تم في مُؤتمر عبس الاتفاق على تَصفية القوات الجمهورية ذات الميول اليسارية، والرافضة للمصالحة مع الإماميين، وتشكيل قوات قبلية بديلة، وهي من عُرفت بـ (قوات العاصفة)، ولم يكد يمضي شهر على انعقاد ذلك المُؤتمر، حتى شهدت العاصمة صنعاء مَعارك دامية بين الجمهوريين (أحداث أغسطس)، أسفرت عن إخراج الفريق الأكثر ثورية إلى الهامش.
وما يجدر ذكره أنَّ الدعم السعودي للإماميين كان قد شابه قبل حصار صنعاء بعض الفتور، ونقل ديفيد سمايلي في كتابه (مهمة في الجزيرة العربية) تذمر بعض القادة الإماميين من ذلك، وأضاف: «وخلال الفترة التي قضيتها في اليمن بكاملها تعرضت لمثل هذا الجدل من الطرفين. كان المحليون - أي الإماميين - يشكون بلا انقطاع من أنَّ السعوديين لا يمنحونهم تأييدًا كافيًا، ويتمسك السعوديون بأنَّهم سبق أنْ صرفوا لهم كميات هائلة من الأسلحة والنقود، بدون أنْ تظهر أي نتيجة».
وخلص سمايلي إلى القول: «وتقديري الشخصي هو أنَّ السعوديين لأسباب خاصة بهم كانوا يمنحون الملكيين مساعدة تكفي فقط لإطالة الحرب، ولكنها لا تكفي لكسبها»، ثم عاد فاستدرك: «كما أنَّ السعوديين يرتابون، وكان ذلك مُبررًا في أنَّ بعض التموينات التي يرسلونها تختلس».
كان هناك في المُقابل إلحاح سعودي مشروط للإماميين بالهجوم على القوات المصرية المُنسحبة، ونقل سمايلي تفاصيل اجتماع حضره في مدينة جده أغسطس 1967م، حيث قال: «وجدت القادة الملكيين الكبار مجتمعين في مؤتمر مع السعوديين لوضع خطط عمليات للمُستقبل، ونادرًا ما كان سير العمل يتسم بالانسجام، وانتهى - أي الاجتماع - بتهديد سعودي صريح بأنَّهم سيقطعون مساعداتهم ما لم يندفع الملكيون وخصوصًا محمد بن الحسين في الهجوم بعزيمة أقوى ضد المصريين المُنسحبين».
من جهته قال عمر الجاوي في كتابه (حصار صنعاء) أنَّ السعودية استطاعت أنْ تتخلص من وحدة أمراء بيت حميد الدين، وذلك بزرع الخلاف بينهم؛ تَمهيدًا لعملية المُصالحة مع الذين يُمسكون بِزمام الحكم في صنعاء، وأضاف: «جُمد البدر أكثر من مرة، وقادة الجبهات أولاد الحسن والحسين من ناحية، والقادة العسكريين من المشايخ الأقوياء من ناحية أخرى، واستطاعت السعودية أنْ تُهدد البدر بأولاد عمه، وتُهدد الأسرة المالكة بقاسم مُنصر، والغادر، وغيرهم».
وهكذا، وبانقطاع الدعم السعودي عن الجانب الإمامي؛ تَخلى المُرتزقة الأجانب عن هذا المعسكر، وقام الفريق قاسم مُنصر أحد أبرز القادة الميدانيين بالانضمام للجانب الآخر 5 نوفمبر 1968م؛ بعد أنْ تعهد له الجمهوريون بتحسين وضعه ووضع قواته التي كانت تمثل حينها 35% من إجمالي القوات الإمامية، وقد شبه الرئيس عبد الرحمن الإرياني انضمامه ذاك بإسلام خالد بن الوليد، في حين شبهه جار الله عُمر بإسلام أبي سفيان بن حرب، والطلقاء من بعده، والتوصيف الأخير هو الأقرب للحقيقة.
كان الفريق قاسم مُنصر مُقاتلًا شرسًا، مَارس في حق من يشك بانضمامهم للجانب الجمهوري من أبناء قبيلته (بني حشيش) جرائم حرب شنيعة، وصلت إلى حد إعدامهم بدون محاكمة، وتفجير منازلهم بالألغام، واحتمال كبير أنَّ انضمامه للجانب الجمهوري كان بإيعاز ورضى سُعودي، خاصة وأنَّ تواصلاته كانت مع بعض أمراء المملكة دون وسيط، وعن هذه الجزئية قال عمر الجاوي: «ولقد شق قاسم منصر طريقه إلى الحكم في الرياض في مَرحلة الخلافات بين سيوف الإسلام من آل حميد الدين، واستطاع أنْ يَتعامل دون وساطة المخلوع البدر أو غيره مع الأمراء السعوديين، ويُشكل جبهة عسكرية في بني حشيش بالاستعانة بمشايخها الأصليين».
وعلى خِلاف الفريق قاسم منصر مضى الشيخ ناجي بن علي الغادر في غَيه، وقام وهو في ذروة تذمره باتهام النظام السعودي - الذي قطع عنه وعن أقرانه الدعم - بالجُبن، وقال - كما جاء في مُذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر - أنَّهم - أي الإماميين - كانوا يُقاتلون دفاعًا عنه، وأنَّ جمال عبدالناصر كان يُريد السعودية لا اليمن؛ الأمر الذي أثار غضب الأمير سلطان بن عبدالعزيز (مسئول الملف اليمني)؛ فقام بِطرده من الاجتماع، ثم من البلد.
وكما كانت نهاية الفريق مُنصر قتيلًا على يد عدد من أبناء قبيلته أواخر عام 1969م، لقي الشيخ الغادر مصرعه في بيحان على يد عدد من العساكر الجنوبيين بداية عام 1972م، وذلك بعد أنْ استدرجته القيادة الجنوبية ومعه عدد من المشايخ لفخ الارتزاق الجديد. وهو كما عاش خلال السنوات العشر الماضية غادرًا بالجمهورية، مَات في تلك اللحظة الفارقة التي أشعلت فتيل الحرب الشطرية الأولى مَغدورًا به.