السلفية بين  ضعف الكفاءة التفاعلية والإحتمائية الثقافية
الأحد 19 أُغسطس ,2018 الساعة: 05:50 مساءً

معركة الصراع مع المصطلحات الوافدة في الثقافة الإسلامية ليست وليدة اليوم، فقد ظهرت بوادر الصراع من القرن الهجري اﻷول، و تبلورت تحت هاجس الخوف من فقدان المادة الخام اﻷصلية لتفسير الإسلام، مع بداية عصر الإنفتاح المعرفي على الثقافات المختلفة وتعدد التأويلات وظهور الفرق الكلامية.

في هذا السياق تبلور الحذر السلفي في التعاطي مع مصطلحات كثيرة ومفاهيم وافدة، استجابت لها بعض الفرق و استفاضت في ترجمة وقراءة علوم المنطق والفلسفة اليونانية والفلسفات الشرقية المختلفة، و في سياق المناظرات الكلامية تبلورت مفاهيم ومصطلحات تعاملت معها المدرسة السلفية بمنهجيات مختلفة فذهب البعض الى استيعاب جانب كبير من علم المنطق في المبحث اﻷصولي مع الرفض المطلق للتعاطي مع التصورات الفلسفية في عالم الميتافيزيقا " ابن حزم والغزالي نموذجاً"، واتخذ البعض موقف الرفض الشديد لإعادة تأويل بعض النصوص الظاهرية لتتوافق مع قواعد منطقية وجدلية في الحقل الفلسفي، والرفض المطلق ﻷي نوع من أنواع التعاطي مع الوافد المعرفي" ابن حنبل نموذجاً"، وطور هذا التيار بعض المفاهيم الإحتمائية كالتبديع والتضليل ونحوها و تضخمت هذه المفاهيم بصورة أثرت سلبياً على دورها الوظيفي المفترض في حماية الهوية المرجعية النصية، لا سيما مع غياب الكفاءة التفاعلية النقدية في التعاطي مع التحديات المعرفية باستثناءات محدودة- ونذكر في سياق الاستثناء، ابن تيمية وجهوده الكبيرة في نقد علم المنطق بكفاءة تفاعلية نادرة.
و مع تعاظم تأثير المعرفة المترجمة من الفلسفة والمنطق اليوناني، و تحدي ظاهرة الزندقة والتفسيرات الباطنية الصوفية للخطاب الديني؛ تشكلت البذرة اﻷولى للثقافة السلفية ومدرسة النص، مدرسة التمسك ب"النسخة الأولية من الفهم الأول، والتطبيق الأول للجيل الأول" تحت ضغط الهاجس الذي أشرنا إليه سلفاً، هاجس الخوف من فقدان المادة الخام لتفسير اﻹسلام.
وليس من السهل كما يظن البعض إدانة هذه المنهجية الإحتمائية في سياق تجلياتها الطبيعية، كما أن نقد هذه المنهجية لا يعني الصوابية المطلقة لمعظم التيارات الفكرية التي تماهت مع المسلمات المعرفية للثقافات الوافدة في إعادة فهم الدين، ووصلت إلى مأزق تاريخي بفعل سيرورة التطور المعرفي، ولهذا تجاوزها التاريخ أو تجاوز الكثير منها.
فالواقع يؤكد أن مدرسة المرجعية السلفية نالت ثقة العامة حتى صار خصومها يطلقون عليها على سبيل التحقير مدرسة العامة أو العوام وهذا اعتراف ضمني أنها شكلت التيار العام لفهم الإسلام الذي حافظ على المادة الخام لفهم الدين رافضاً الإستسلام لتأويلات معرفية زمنية خاضعة لقوانين التطور والتغير، ومن هنا تأتي الأهمية المعرفية للدور السلفي في الحفاظ على قدسية ونقاء المرجعية النصية مع تحرير العقل من تقديس أي تأويلات معرفية بشرية مؤقتة في الموروث الفقهي والكلامي، وتتضح أهمية ذلك في فتحه لآفاق معرفية مرنة واسعة لحركة الإجتهاد العقلي، الذي يتعامل مع النص على ضوء عملية المحايثة الثابتة و عملية التحقق الواقعي للنص عبر سيرورة السياقات المختلفة، باعتبار "المعنى المحايث هو الأساس الخام الذي على أساسه يمكن بناء القصدية الدلالية" كما يقول علماء اللسانيات.

وكانت ومازالت مشكلة المدرسة السلفية هي ضعف الكفاءة التفاعلية في التعاطي مع الوافد المعرفي، وفي تقديري أنه في مقدور هذه المدرسة أن تتجاوز هذا الضعف، على طريق بناء سلفية إصلاحية تتعامل بكفاءة تفاعلية مع التطورات المعرفية مع الحفاظ على الهوية الخاصة والمادة الخام الأولية، وتستصحب المرجعية المقاصدية بالتجاور مع المرجعية النصية و الحفاظ في نفس الوقت على المعنى المحايث الأصلي، كمرجعية معيارية لتصويب أي قصور أو تجاوز..
وسيظل من حق هذه المدرسة رفض التعاطي من أي مصطلح وافد للتحديث، والإصرار على حقها في تحديث خطابها بالعودة إلى معجمها الثقافي، وسيظل هذا التيار له حضوره وقوته وفاعليته وأعتقد أن الرهان عليه واستيعاب مخاوفه ومحاولة تحديثه ، بدون تجاوزه، من أهم الواجبات المعرفية الراهنة .


Create Account



Log In Your Account