الإثنين 10 يونيو ,2024 الساعة: 02:54 مساءً
تقطيع أوصال البلاد كان جزءاً من إستراتيجية الحوثي الحربية، طيلة سنوات القتال. في كل منطقة واجهت فيها المليشيا مقاومة شعبية، كانت تعمد إلى فرض حصار عليها وضرب كل ما يتحرّك.
قتلت الأطفال والنساء قنصاً، وقضت على عائلات كاملة قصفاً إلى المنازل، ومنعت عن السكان الماء والدواء والطعام.
عندما سيطرت المقاومة الشعبية، بقيادة الشهيد علي ناصر هادي في عدن، على منطقة التواهي، أطبقت المليشيا الحصار على المنطقة مسنودة بمعسكرات الحرس التابع لصالح وقتها.
إمعاناً في التوحش منعوا دخول أو خروج أي كائن، صاحب ذلك قصف عنيف ووحشي على المدينة.
كانت مئات العائلات تستغيث، وعندما كان يحاول عديدون الفرار من القصف، لاحقهم القتل إلى آخر نقطة يصلون إليها.
في 6 مايو 2015، أي بعد أقل من شهرين على اندلاع الحرب بمشاركة دول التحالف، ارتكبت هذه المليشيات وحلفاؤها مجزرة رهيبة، عندما استهدفت قوارب مواطنين حاولوا الهرب من القصف العشوائي عبر البحر، وسقط المئات بين قتيل وجريح.
كانت هذه المذبحة تأكيداً على عزم المليشيا استخدام مختلف مصادر القوة، وارتكاب أبشع الجرائم لإرهاب الناس وإخضاعهم.
شكّل التوحش ركيزة العقيدة العسكرية للحوثي، ونشط طوال سنوات الحرب بلا كلل، أو مراعاة للأعراف أو التقاليد أو قواعد وقوانين الحرب الأرضية والسماوية، لتحويل البلد إلى مدن مقطعة، وركام ومتارس وفخاخ ألغام، وكأنه يخوض حرباً في دولة أخرى.
ضمن هذه الإستراتيجية كانت تعز هي ميدان الحوثي المفضل لممارسة أشكال جرائم الحرب التي اقترفها، وما يزال.
فعل ذلك وهو يدرك أن هناك من أباح له تعز، وقرر أن تكون منطقة الحرب الكبرى والخسارات البشرية الأكبر، ومنطقة استنزاف للجميع، كما كانت نهم ثم مأرب.
خلف هذه الرغبة كانت تقف حسابات إقليمية ودولية ارتبطت بنهج ورؤية شاملة استهدفت ضرب كل حواضر ثورات الربيع العربي في الدول التي انزلقت إلى الحرب.
جرى التنكيل بتعز في ظل تحالف عسكري عريض تقوده دولتان من أكثر الممالك العربية تسلحاً وثروة، وأكثرها مناهضة للانتفاضات الشعبية السلمية في 2011.
أظهر هذا التحالف عجزاً مقصوداً في دعم استكمال تحرير تعز من قبضة الحوثيين، بينما سلط آلة دعايته لقول كل شيء في تعز، باستثناء الإشارة إليه كسبب رئيس يتحكم بقرار الشرعية حرباً وسلماً.
لتأكيد ذلك، وضمن حسابات تدخل في إسترايتجية الحليفان للسيطرة على السواحل، شن حرباً خاطفة لطرد الحوثيين من الشريط الساحلي للمحافظة ومينائها التاريخي، ثم عمد لتسليمها لحلفائه في النظام السابق الذي شارك الحوثيين حربهم على المحافظة!
في الواقع، وُضعت تعز بصورة متعمّدة تحت رحمة كماشة طرفين لهما مواقف متفاوتة العداء للمحافظة التي يمتلك فيها حزب الإصلاح نفوذاً وثقلاً أكبر: الحوثي وفظاعاته وحقده الطائفي من جهة، وتربص أذرع التحالف ذات الولاءات المتعددة من جهة أخرى.
فاقم هذا العداء فشل التحالف في إنشاء تشكيلات موالية له في تعز، وطرد الجيش والمقاومة لتلك التشكيلات المتطرفة من المدينة بعد تورطها في سلسلة جرائم اغتيالات لضباط وأفراد الجيش.
هذا الموقف من تعز عبّر ضمنياً عن الحسابات المعقّدة لدى الطرفين (الحوثيين والتحالف)، وعن احتفاظهما بموقف خاص له علاقة بالأهمية السياسية والجغرافية للمحافظة.
يريد الحوثي فصل تأثير تعز العسكري والبشري عن المحافظات الشمالية؛ باعتبارها مصدر قلق تاريخي، وفي حقبة قريبة كانت مورد المدد الثوري في مواجهة الإمامة، وفك حصار السبعين بعد ثورة سبتمبر 1962م.
أما التحالف فقد أراد التضييق على المحافظة؛ بإبقائها رهينة الحصار وتنكيل الحرب، كشكل من "التأديب" لدورها في انتفاضة 2011.
كما أراد عزلها عن محيطها الجغرافي والوطني في الجنوب؛ باعتبارها حلقة الوصل الأهم جغرافيا ووجدانياً بين الشمال والجنوب، في ظل مشاريع التقسيم وتمزيق الجنوب والشمال مسنودة بإمكانات هائلة.
حصيلة ذلك كان ما يشبه اتفاقا ضمنيا لتنفيذ أكبر حصار في التاريخ لمدينة امتد لأكثر من 9 سنوات، ظلت فيه عرضة لفظاعات وتوحش غير مسبوق.
لم يتوقف استهداف المليشيا للأطفال والنساء قنصاً حتى الآن، ولسنوات كانت وحدات القناصة التابعة للمليشيا تضع بؤرة مناظيرها على رؤوسهم وهي تعرف تماماً أنها بصدد قتل طفل أو إمرأة، وأسقطت المئات.
يمكننا ان نتحدث عن كل أشكال الحصار دون توقف: من منع المياه والتبول عليها في الخزانات إلى منع الأكسجين عن مستشفيات المدينة لإنقاذ الجرحى، بينما كانت مساعدات الأمم المتحدة الطبية تُرسل إلى الحوثيين وصالح!
مازلتُ عند رأيي، فقد كتبتُ قبل 3 سنوات مقالاً عن قصة الحصار والحرب في تعز، خلاصته أن ما يفعله الحوثي بتعز هو ما كان يريده التحالف.
بعد قرابة عشر سنوات تخللتها اتفاقات وهدن، ما يزال الأمر كما بدأ: مرر التحالف كل ما يريده لنفسه، وتخلى عن كل ما يتعلق بتعز والدولة اليمنية بصورة كاملة!
تصلح الاتفاقات، التي أبرمها التحالف أو أجبر الحكومة على توقيعها كاتفاق ستوكهولم 2018 الخاص بالحديدة، واتفاقية الهدنة 2022، للاستشهاد على غلبة أجندة التحالف على أي مصالح يمنية.
كان رفع الحصار عن تعز بنداً عابراً في كلا الاتفاقين، وقد مُنح الحوثي المكافآت الواحدة تلو الأخرى دون النظر إلى ما تم تنفيذه فعلياً في كل اتفاق: من تدفق المشتقات النفطية إلى إتاحة الوصول المفتوح إلى ميناء الحديدة، والتجارة المباشرة مع إيران، وكانوا يوشكون على منحه الجائزة الكبرى بخريطة طريق يكون له الكلمة الأولى فيها، أوقفتها أمريكا لأسباب تخصها.
اليوم، على وقع ضغوط شعبية واقتصادية، وشعور حوثي بما يشبه العُزلة، بعد قرارات البنك المركزي في عدن، رضخت سلطة المليشيا لبعض المطالب القديمة المتعلقة بفتح الطرق في مأرب وتعز.
هذه المليشيا تحاول الالتفاف على المطالب بطريقتها المعتادة لتحقيق نصر إعلامي، لكن تجاوب السلطات الشرعية كان من موقع قوة، ووضعها في مأزق.
يبدو أن الحوثي لا يملك ترف التراجع، على الأقل حالياً، بفعل الضغط الشعبي والظروف الناجمة عن قرارات مركزي عدن.
ربما يكون الحوثي أكثر استعداداً للحرب، لكن ذلك لا يمنع الآخرين من الاستعداد أيضاً، ولقد أخبرتنا التجربة أن مليشيا الحوثي كجماعة عنصرية لا تجد نفسها طبيعية سوى في بيئة الحرب.
ومن أسف، أن البلد وإرادته باتت رهناً لرغبات الخارج وأجندته.
لإنفاذ فتح الطرق، ينبغي على اليمنيين استغلال هذه اللحظة للضغط الشعبي على مليشيا الحوثي؛ لأنها هي من صنع هذا الجحيم للناس، وهي من حوّل بلادهم إلى كانتونات مقطعة الأوصال، واستخدمت الألغام كأقذر ما يمكن أن يفعله عدو خارجي لتفخيخ حياة الناس ومستقبلهم.
لقد تعطلت كل الوسائل القانونية المحلية والدولية في مجابهة ما ترتكبه المليشيا، وربما حان الوقت لتفعيل الآليات الاجتماعية المحلية للتخفيف على حياة الناس، باعتبار الشعب هو المتضرر الأكبر في بلد يغرق في حرب بلا أفق.
لا يجب أن تفوز هذه المليشيا بأي نصر إعلامي مجاني آخر تحت مزاعم الحرص على كتابة اتفاق وماشابه يرتبط بوقف إطلاق النار.
الشرعية، التي سلمت زمامها لإرادة الخارج وحساباته، أوصلت الناس إلى حالة من اليأس، وبدلاً من تحرير البلاد من غطرسة هذه المليشيا ونهجها المدمّر تضاءلت المطالب إلى البحث عن طريق مفتوح.
من الواضح أن الرئيس رشاد العليمي كان يُشرف بنفسه على أعمال اللجنة الحكومية المعنية بالتفاوض لفتح الطرق في تعز، غير أن بعض مكوّنات الشرعية أظهرت تحفّظها إن لم يكن رفضها.
هناك غمز حيال تجاوب السلطات في تعز لفتح منفذ جولة القصر - الكمب.
يبدو أن هذه المكوّنات مستاءة من قطع الطريق على مزايدات الحوثي وجمهوره المشطور بين مناطقه ومناطق الشرعية!
"الغمازون" لا يريدون تذكر اتفاق استوكهولم ولا اتفاق الهدنة الذي فرضه التحالف، ولم ينفذ الحوثيون حرفاً واحداً منه حتى وهو مكتوب وحظي برعاية أممية ودولية.
الاتفاق الأول مر عليه ست سنوات، والثاني تجاوز العامين دون أن ينفذ الحوثي حرفاً واحداً، وبينهما سُلمت للحوثي مساحات شاسعة خارج جغرافيا اتفاق استوكهولم في السواحل الإستراتيجية للبحر الأحمر، بأمر من أبوظبي، ودون معرفة وزارة الدفاع أو الحكومة أو رئيس الجمهورية السابق!
كم تحتاج الشرعية من سنوات لتنفيذ هذه الاتفاقات؟ وكم ستحتاج للانسحاب منها، أو التلويح بذلك حتى من باب الضغط؟
يا سادة: هذه التفاهمات -إن تمت - تهدف إلى فتح طريق للناس، وليست لتسليم السواحل!
عندما تفقد القدرة على تحديد بوصلتك، دع الرياح تجري وستصل السفن، حتماً، إلى البر، مدفوعة بغريزة البقاء.
نقلا عن موقع قناة بلقيس