رجل الدولة المحترم.. لا يهادن
الأربعاء 24 يوليو ,2024 الساعة: 05:31 مساءً

لا تروقني فكرة الكتابة عن أشخاص المسؤولين حين يكونون قيد الخدمة. حتى إن كانوا جيدين وأبطالاً فالمفترض أنهم يقومون بواجبهم، وعلى الكاتب  أن يكرس نفسه لنقد الأخطاء. صحيح أننا في وضع يبدو فيه رجال الدولة نادرين كإبرة في كومة قش الهزال والرخاوة، ما يوجب مساندتهم، لكنني كنت دائماً مع مبدأ عدم المشاركة في أي زفة لمسؤول ما زال في موقعه.

 يخطر ببالي هذا الآن وأنا أتابع تداعيات إلغاء قرارات البنك المركزي التي حاول فيها الأستاذ أحمد غالب المعبقي ورفاقه في  قيادة البنك أن يفعلوا ما تخلت عنه الشرعية طيلة 9 سنوات.

 يدرك اليمنيون أن إذعان الشرعية طيلة سنوات الحرب، وبضغط التحالف، كبلها عن ممارسة قرارها السيادي حيال أشياء كثيرة بما فيها السياسة النقدية للبلاد منذ قرر الحوثي فرض عملته الخاصة والإنفصال الإقتصادي التام.

 هذا الرهن الكامل لقرار البلاد، كان يفتح الباب على مصراعيه لإنهيار اقتصادي وانهيار تام لقيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية مصحوباً بسياسة ممنهجة لاستنزاف اليمنيين على مختلف الأصعدة.

في غضون هذه اللحظات الصعبة كان المعبقي يُعيَّن محافظاً للبنك المركزي( منتصف 2021) ولم يمر سوى القليل من الوقت حتى باشرت المليشيات بقصف المنشآت النفطية وفرض إيقاف التصدير. عنى ذلك أن البلد سيعاني من غياب موارد نقد أجنبي تسند بقاء العملة صامدة في وجه ضغوطات الحرب المختلفة وستضع هذه الأوضاع البنك في فوهة المدفع.

  المفارقة أن هذه التطورات استجدت بعد إبرام السعودية والحوثيين اتفاق هدنة، فرضته الرياض على الحكومة دون أن يلتزم الحوثي ببند واحد منه!

خلال هذه الفترة الصعبة قاد الرجل سلسلة من الإجراءات لتنظيم القطاع المصرفي وإنهاء الفوضى. 
ونظراً لجفاف موارد العملة الصعبة كان الريال ينهار، وكان على الرجل أن يعمل في بيئة غير مواتية ومعقدة، تتداخل فيها عوامل فساد الشرعية مع ضغوط التحالف ونهجه المعكوس في مساندة المليشيا وتمرير المزيد من إضعاف الشرعية.

عُرف أحمد غالب بالحزم خلال فترة شغله لمواقع ومسؤوليات أهمهما مصلحة الضرائب في عهد علي عبدالله صالح. بالتأكيد يتذكر الكثيرون بمن فيهم رؤساء بعض البنوك التي استقوت عليه مؤخراً، المعركة الضارية الشهيرة التي خاضها رجل التكنوقراط والخبير الإقتصادي مع التجار الذين يشكلون مركز نفوذ مؤثر في بنية سلطة صالح وقتها.

 لم يذعن للضغوط، لم يخضع ، وكسب المعركة وتمكن من توفير عشرات المليارات لخزينة الدولة.

شخصياً عرفتُ الرجل عن قرب لأول مرة في 2017 في القاهرة أثناء رحلة علاجية وكانت الحرب التي تعصف بالبلاد في ذروتها. كان الرجل بلا عمل، وكان متحمساً لعديد مبادرات قُدمت لإسناد المقاومة الشعبية والجيش، وانخرط مع آخرين في تقديم أفكار وتصورات، وكان دائم النقد للشرعية التي لا تقوم بواجبها كما ينبغي حتى في صفحته الشخصية على فيسبوك.

لو كانت الشرعية يقودها رجال دولة، لامتلكت بصيرة المعرفة بالرجال و لما كان أحمد غالب خارج جهازها منذ بداية الحرب. وعندما أسندت إليه مهمة إدارة البنك المركزي، كانت " الشرعية" قد سلمت قراراها للتحالف تماماً!

مع ذلك فقد حاول الرجل أن يفعل شيئاً لترميم صورتها المهترئة باستعادة السيطرة على السياسة النقدية، وإنهاء تحكم الحوثيين بسوق العملة وقطع أيديهم عن سرقة مدخرات اليمنيين وتخريب النظام المصرفي.

لقد أحس اليمنيون العاديون بصدق الرجل، فخرجوا لمساندة قراراته في الشوارع حتى وهم يشاهدون انهيار العملة، ثم تحول المعبقي رمزاً لليمنيين حين ارتدوا قبعته. كان ذلك يعكس  شعوراً شعبياًً برمزية ما يفعله كتعبير عن الإرادة والإستقلال وسلوك الدولة الذي افتقده اليمنيون منذ بدء الحرب.

لكن "الشرعية" التي صممها التحالف على مقاسه بعد التخلص من " أبوها المؤسس" هادي، باعت الرجل ورفاقه عند أول ضغط.

في الحد الأدنى كان على مجلس الرخاوة الرئاسي أن يستخدم قرارات البنك للمناورة والضغط لإرغام الحوثيين على توحيد العملة واستعادة تصدير النفط، لإيقاف حالة الانهيار الاقتصادي المريع. 

لم يفعل أي من ذلك. فرض إلغاء قرارات البنك ومنح الحوثيين مزايا جديدة مجاناً( لم ينفذ الحوثيون بنداً واحداً في كل الاتفاقيات السابقة) امتثالاً لإرادة التحالف.

أفضل ما فعله المعبقي ورفيقه وكيل البنك لقطاع الرقابة على البنوك الأستاذ منصور عبدالكريم راجح الإستقالة، الإستقالة كخطو " جليلة " ونادرة في حياة المسؤول اليمني، باعتبارها أقل ما يمكن فعله لمواساة اليمنيين المنحوسين بقادتهم.

يبين خطاب الإستقالة الذي وجهه المعبقي لمجلس القيادة الرئاسي أن الرجل قد اتخذ القرار في 17 يوليو الجاري لكنه لم ينشر. كان المعبقي متردداً في الذهاب إلى الرياض بعد استدعائه إلى هناك، وذلك يعني أن الرجل كان يشعر بأن هناك ما يدبر له.

مطلع هذا الأسبوع، أي بعد أيام من الإستقالة، كشفت قناة يمن شباب  أن السعودية وضعت المعبقي قيد الإقامة الجبرية، ومساء الأحد عقد مجلس القيادة الرئاسي اجتماعاً ليلياً بحضور السفيرين السعودي والإماراتي في الرياض لم يتم الإعلان عنه والغى قرارات البنك.

عندما تسربت أنباء استقالة المحافظ إلى الإعلام ثم نشر خطاب الإستقالة، سارع مجلس القيادة الرئاسي إلى رفض الإستقالة و"تأكيد" عدول المعبقي عنها!

تفصح هذه المعطيات أن التحالف الذي فرض الغاء القرارات هو نفسه الذي يمنع مسؤولاً يمنياً محترماً من التعبير عن موقفه ورفضه ممارسة دور الأراجوز في لعبة تدمير البلاد، وقد استغل وجود الرجل في دولة عرفت بسوابق مشابهة مع مسؤولين عرباً لإجبار الرجل على العدول عنها أو التحدث باسمه. ربما سيخطر ببالكم الآن سعد الحريري. ربما المعبقي هو حريري آخر!

 رغم هذا الإنهيار والارتهان وسوداوية مايلوح، هناك شيء يستعيده اليمنيون من موقف المعبقي وراجح : بصيص أمل بأن هناك رجال دولة يضعون كرامتهم وكرامة بلدهم فوق مصالحهم الشخصية، بل ويخسرون بالمعنى المادي.

 أثناء المعركة الإقتصادية مع المليشيا، سيطر الحوثيون على منزل الأستاذ أحمد غالب في صنعاء ونهبوا محتوياته. لم يكترث الرجل وأصر على ما بدأه، وقد قرر أخيراً أن يكسب نفسه ووطنه ليخسر منصباً في قبضة السفير، حتى لو أرادت السعودية كسر إرادته!

حق المعبقي وراجح علينا أن نؤازرهما وأن نحتفي بهما وبصلابتهما وقد غادرا ملهى الرخويات. حتى لو أكرها على البقاء فقد غادرا فعلاً.

تعظيم سلام لهما وهما يعيدان بعض المعنى للمسؤولية. إنهما مناضلان وقائدان حقيقيان في زمن الأتباع.

 
نقلا عن موقع قناة بلقيس 


Create Account



Log In Your Account