الأحد 12 يناير ,2025 الساعة: 06:01 مساءً
المحددات التاريخية لمشروع الدولة الإسرائيلية عصية على النضج، لا تعريف الأمة، ولا من هو اليهودي، لا طبيعتها السياسية، ولا معنى المواطَنة. لا يوجد شيء اعتيادي في المشروع. داخل مبادرة السلام التي قدمها ترامب، الممتدة على 181 صفحة، تقول فقرة مثيرة للجدل إن إسرائيل تنوي التخلي عن عشر قرى في شمال تل أبيب، أو ما يعرف بالمثلّث، بكل سكانها وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية. يسكن في المثلث ما يزيد عن 350 ألف مواطن عربي من حملة الجنسية الإسرائيلية. ما يعني أن الدولة "الديموقراطية" ستجردهم من جنسيتهم دون نقاش معهم، وستلقي بهم إلى حوزة سلطة أجنبية، بحسب تقرير لواشنطون بوست في فبراير 2020.
كان ديفيد فريدمان، سفير ترامب لدى إسرائيل، أحد أبرز صاغة مشروع السلام، ويعرف عنه ترديده للادعاءات التوراتية حين يتعلق الأمر بمسألة السلام في الشرق الأوسط. لا يمكن فهم ما ورد في مبادرة ترامب للسلام سوى داخل هذين المحددين: الأول توراتيّة الدولة التي لا تحتمل تحت سقفها مواطناً من خارج ديانتها. الثاني نوايا مستمرة للتطهير العرقي، هذه المرّة في سياق مشروع للسلام في حقيبة دولة ليبرالية عظمى. عرب إسرائيل، الذين سيلقى بهم إلى الخارج، هم في نهاية الأمر "العدو النهائي للدولة اليهودية" كما يراهم المفكّر اليهودي- الأميركي دانيال بايبس، أحد أبرز الخبراء في شؤون الشرق الأوسط في الصحافة الأميركية.
لم يتغيّر الشيء الكثير في وضعية الدولة الإسرائيلية منذ وعد بلفور، إذ لا تزال في الشرنقة. قاتلت جيرانها في العام 1967 على ثمان جبهات حول المسألة نفسها: تطهير فلسطين من العرب. هي الآن، 2024، تقاتل على سبع جبها، وفقاً لقادة جيشها، حول نفس النار. ترفض إسرائيل أن تعيش كدولة طبيعية، حتى وهي تتنفس في محيط معاد يمتد من أذربيجان إلى موريتانيا. تحت مظلة من سفن الغرب وصواريخه تبحث إسرائيل عن استقرار طويل المدى. يغيّر التاريخ موازين القوى، فقد أطاح بالإمبراطورية التي حرست فلسطين لخمسة قرون من الزمن ثم تركتها على قارعة الطريق.
بمقدور إسرائيل حماية نفسها من خلال عملية سلام عادلة تتيح لها النمو إلى جوار شعوب وأنظمة المنطقة. منذ ثلثي قرن وهي ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة. الخيارات المتاحة أمامها تبدو مستحيلة أو تدميرية. تحت سقف إسرائيل الكبرى، أو فلسطين التاريخية، تساوى عدد اليهود والعرب لأول مرّة في التاريخ: سبعة ملايين لكلا الطرفين. من المتوقع أن يتجاوز العرب جيرانهم اليهود من حيث العدد في العقد القادم. فبحسب تقرير لليونسيف، يناير الماضي، فإن حوالي 20 ألف طفل فلسطيني ولدوا في غزة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. استطاع المفكر السياسي الأميركي ميرشايمر أن يلخص الورطة الوجودية لإسرائيل على هذا النحو: إما أن تقبل بالوضعية الديموقراطية، ما سيعني وصول العرب إلى مقاليد الحكم. أو دولة يهودية لاهوتية، ولن يتحقق لها ذلك إلا من خلال الفصل العنصري "الأبارتهايد". مع الأيام ستبدو عاجزة عن التعامل مع العنصر السكاني العربي النامي، وستنهار الجدران كما حدث مع غزة التي انفجرت سكانياً من 1.3 مليون في العام 2005 إلى 2.3 مليون في العام 2023. الخيار الثالث، وهو أيضاً غير ممكن، أن تبادر إلى تهجير عرب فلسطين إلى خارج الحدود. لا تملك إسرائيل، ولا داعموها الغربيون، إجابة لهذه المعضلة. كل معضلة إسرائيلية هي مسألة غير قابلة للحل، ذلك ما جعلها تقف خلف البندقية منذ مطلع عشرينات القرن الماضي.
أفقياً تبدو الدولة عصية التضاريس، ففي فبراير الماضي احتفل اليمين اليهودي في مدينة القدس بما أسموه "يوم النصر". في الاحتفالية رددت الجماهير بصوت عال: "ترانسفير، ترانسفير"، وهو تعبير يقصد به تهجير عرب فلسطين إلى دول أخرى. برّر نتنياهو ما جرى بالقول إن ديموقراطية بلاده تتسع لكل الآراء بما فيها تلك التي لا يتفق معها. غير أن هآرتس رأت، تحت عنوان "ديموقراطية لليمين فقط"، أن سلطات البلاد فضّت كل التجمعات المنادية بإيقاف إطلاق النار، وأن الديموقراطية رفضت الاستماع لحشود صغيرة من اليسار الإسرائيلي.
نقلا عن صفحة الكاتب على منصة إكس