السياسة اليمنية وإدمان الهروب من المسؤولية: لماذا تعجز النخبة السياسية عن الإصلاح؟
الأربعاء 19 فبراير ,2025 الساعة: 10:59 صباحاً

في قاعة المنتدى الثالث نظّمه مركز صنعاء في العاصمة الأردنية، احتشد ممثلو الأحزاب السياسية اليمنية لمناقشة مستقبل البلاد. كان المشهد مألوفًا: متحدثون علي المنصة، أحاديث جانبية، ومداخلات مليئة بالنقد الحادّ، وجه المتحدثون  الأصابع إلى مجلس القيادة الرئاسي، وتمحورت النقاشات حول فشله في إدارة المرحلة اليمن منذ تولية. لكن المفارقة أن غالبية المتحدثين كانوا جزءًا أصيلًا من هذا المجلس، أو على الأقل من القوى التي شكلته، وباركت ولادته، رغم مخالفته للقواعد الدستورية.

من الانتقالي الجنوبي إلى الإصلاح، ومن الشخصيات المقربة من التحالف إلى السياسيين الذين قالوا كلمة غزل وترحاب في لحظات مصيرة من عام ٢٠١٤، بدا وكأن الجميع يتنصل من دوره في الأزمة، لا أحد قدم حلول واقعة، تشعر من حديثهم، وكأنهم مازالوا في عام ٢٠١٤، لم يدركوا بعد ما حل باليمن، وكأن النقد هو الهدف بحد ذاته، وليس أداة للإصلاح.

بدى جلياً أن احدى اشكاليتنا السياسية كيمنيين، سياسيين ومثقفين، مواطنين عادين ونخب، نتقن فن التشخيص، في الشارع ودواوين القات، على موائد الطعام والموائد المستديرة، لكننا بالطبع  عاجزون عن تقديم وصفة علاجية، باستثناء ما قدمنها بشكل جماعي في مؤتمر الحوار الوطني.
الأسئلة التي ترددت في القاعة لم تكن جديدة، والاجوبة أيضا، ما يطرح تسأل لماذا أصبح اليمني - سواء كان في السلطة أو المعارضة - ناقدًا أكثر منه مصلحًا؟ لماذا تعيد النخب السياسية إنتاج الفشل ذاته، وتنتقل من موقع الحكم إلى موقع النقد دون مراجعة ذاتية؟ ولماذا يبدو الإصلاح في اليمن حلمًا مؤجلًا باستمرار؟ أن باعتقادي هناك اسباب وعوامل يستوجب التطرق إليها هنا على عجل. 

أولها إرث سياسي ثقيل من العجز والتناقضات، فتاريخيًا، لم يكن النقد السياسي في اليمن مرتبطًا بالسعي نحو التغيير، بقدر ما كان مجرد أداة للبقاء في المشهد السياسي. فمنذ الإطاحة بالنظام الملكي في ستينيات القرن الماضي، عاشت البلاد حالة من التحولات السياسية العنيفة، بدءًا من الأنظمة الجمهورية التي لم تتحقق أهدافها، ووعودها  لأسباب متعلقة بالفساد، وعجز النخب السياسية، مرورًا بالحرب الأهلية والانقسامات الأيديولوجية، وصولًا إلى التدخلات الخارجية التي زادت الوضع تعقيدًا.

حيث بدى وأننا مصابون بما يسمى في علم النفس السياسي، بظاهرة “العجز المكتسب”، حيث يتبنى الأفراد والمجتمعات سلوك النقد السلبي كآلية دفاعية بعد تجارب متكررة من الفشل والإحباط، مما يؤدي إلى غياب الحافز للعمل الإصلاحي الجاد.

هذا العجز لم يكن مقتصرًا على السلطة فقط، بل امتد إلى المعارضة التي فقدت قدرتها على طرح حلول واقعية، وخطط تفصيلية، وأصبحت تسلك النهج ذاته في النقد لمجرد النقد. خذ على سبيل المثال الأحزاب السياسية التي تهاجم مجلس القيادة الرئاسي في منصة المنتدى، وكأنه كيان منفصل عنها، بينما هي في الواقع جزء أساسي منه، وكانت أحد الفواعل  التي أدت إلى تشكيله، وباركت تشكيلة 

ثانيا اتخذت القوي السياسية اليمنية النقد كأداة للبقاء السياسي، ففي الدول الديمقراطية، يتم استيعاب النقد داخل المؤسسات الدستورية مثل البرلمانات ووسائل الإعلام المستقلة، مما يساهم في إنتاج قرارات أكثر توازنًا. لكن في اليمن، حيث تغيب آليات المساءلة الفعالة، يتحول النقد إلى مجرد وسيلة للمزايدة السياسية، بدلًا من أن يكون أداة للإصلاح.

هذه الانتهازية جعلت من السهل على السياسيين التنصل من المسؤولية، فعندما يفشلون في تحقيق أي تقدم، يلقون اللوم على خصومهم أو على الظروف المحيطة بهم. وعندما يجدون أنفسهم خارج السلطة، يزايدون في خطابهم النقدي، وكأنهم لم يكونوا جزءًا من المشكلة أصلًا.

هذا يفسر كيف أن شخصيات سياسية وحزبية ومستقلة، الذين رحبوا بإنقلاب الحوثيين في مراحل معينة، تحولوا لاحقًا إلى منتقدين شرسين لهم، دون أن يعترفوا بمسؤوليتهم عن دعم هذا المسار في بداياته.

ثالثاً عشق السياسة الرمادية، فإحدى السمات الفريدة للسياسة اليمنية هي القدرة على التنقل بين المواقف دون أي التزام طويل الأمد. لم يعد غريبًا أن تجد سياسيًا ينتقد الحكومة، بينما هو جزء من تركيبتها، أو أن يهاجم اتفاقًا سياسيًا بينما كان أحد مهندسيه. هذه “المرونة السياسية المفرطة” ليست دليلًا على قدرة تكيف، بقدر ما تعكس الانتهازية السياسية، والنفاق، التي تتبلور من غياب رؤية وطنية واضحة.

هذه الإنتهازية السياسية لا تعكس قدرة على التأقلم بقدر ما تعكس خوف هذه القوي من تحمل تبعات موقفها، ورؤيتها، للاسف على مدى سنوات سياسية طويلة في اليمن، السياسة ليست قائمة على المبادئ، بل على المصالح والتحالفات المتغيرة. الأحزاب لا تبحث عن حلول بقدر ما تسعى إلى تأمين مواقعها في المشهد السياسي، مما يفسر لماذا تظل البلاد عالقة في دوامة من الأزمات المتكررة.

خذ على سبيل المثال موقف هذه الاحزاب من بعض سياسية التحالف العربي في اليمن، حيث لديهم موقف متلون علي المنصات والاعلام، في حين لديهم موقف معايير في الجلسات الشخصية. هذه النفاق والتلون يفسر لماذا طالت الازمة اليمنية، ولماذا تتكرر الأزمات في اليمن، دون أن يرافقها أي تغيير حقيقي.


رابعاً التدخلات الخارجية وتأثيرها على الخطاب النقدي، حيث لا يمكن إغفال تأثير التدخلات الإقليمية والدولية في تعميق أزمة النقد غير المنتج. القوى السياسية اليمنية، التي تعتمد على التمويل الخارجي، كثيرًا ما توجه خطابها النقدي ليس نحو الداخل فقط، بل أيضًا لإرضاء الجهات الداعمة. بل للاسف تعدى هذا التمويل الكيانات السياسية الي الافراد، الذين اصبحوا التميل مرتبط بحياتهم ومستقبلهم الشخصي، وبالتالي يندفعون الي الواجهة ليثبتوا للمول صدق مواقفهم، هذه الظاهرة تجعل النقد في كثير من الأحيان مجرد وسيلة لجذب الاهتمام، بدلًا من أن يكون أداة للتغيير الفعلي، ما جعل النقد أشبه بـ”عملة سياسية”، يتم توظيفها للحصول على دعم خارجي، بدلًا من أن تكون وسيلة لإحداث تغيير حقيقي داخل البلاد.

هل يمكن لليمنيين كسر هذه الحلقة المفرغة؟

الواقع السياسي في اليمن لن يتغير ما لم يتغير النهج الذي تتبعه النخب السياسية والمجتمع في التعاطي مع الأزمات. فبدلًا من الاكتفاء بالنقد والتشخيص، هناك حاجة ملحة لطرح مشاريع إصلاحية واقعية يمكن تنفيذها على الأرض، تتسم بالوضوح المصداقية، موجه للداخل اليمني، ويركز على القضايا المصيرية لاستعادة الدولة، والحفاظ علي هياكلها وشرعيتها الدستورية، وهذا يقتضي  أن يكون لدى  الاحزاب استعداد لتحمل تبعات هذا الموقف.

كما أن الانتقال إلى نهج جديد في مناقشة القضايا يستوجب من القوي السياسية تحمل المسؤولية الجماعية والتوقف عن إلقاء اللوم على الآخرين، والاعتراف بمسؤولياتها.

واعادة النظر في مفهوم المعارضة ودورها بحيث تتحول من مجرد صوت ناقد، إلى مؤسسات تقدم  بدائل حقيقية للحل.

إضافة إلى تعزيز مؤسسات الدولة حيث أي نقد لا قيمة له، ولن يكون مفيدا منتجا في غياب مؤسسات قادرة على استيعابه وترجمته إلى قرارات.

واخيرا إعادة النظر في العلاقة مع الخارج في ظل وجود الدولة، فالاحزاب تركز على الداخل، وتصحيح الخلل، حيث الارتهان للخارج قانوناً خيانة، وسياسيا يرهن البلد وقرارها وتطلعاتها، فأي تحرك جاد للاصلاح الحقيقي لن يتحقق ما دامت القوى السياسية مرهونة بأجندات إقليمية.

الخاتمة: اليمن بين النقد والإصلاح

في نهاية المطاف، يبقى السؤال: هل يمكن لليمنيين الخروج من ثقافة النقد العقيم والانتقال إلى مرحلة إصلاح حقيقية؟ الإجابة تعتمد على مدى قدرة القوى السياسية على تغيير نهجها، وعلى استعداد المجتمع لمحاسبة نُخَبه لا على أقوالها، بل على أفعالها.

حتى ذلك الحين، سيظل اليمن عالقًا في مشهده المعتاد: الجميع ينتقد، ولا أحد يُصلح.


Create Account



Log In Your Account