الأربعاء 16 إبريل 2025 ميلادي - 17 شوال 1446 هجري  
غزة النصرة بحاجة لأدوات جديدة
الأربعاء 09 أبريل ,2025 الساعة: 05:58 مساءً

كان التراب يملأ فمه، وذراعه الصغيرة ممدودة نحو اللاشيء. طفلٌ في غزة، لم يكتمل اسمه في دفتر العائلة، سُجّل فقط في قائمة الضحايا أنقاض بيت تحوّل إلى شاهد على جريمة، وصوت بكاء كأنما يختنق في حلق المدينة كلها. لم يبكِ لنفسه، بل بكى عنّا جميعًا، نحن الغارقين في صمت مديد، والمتواطئين بلغة الحزن الكسول، المعتادون علي مشهد الدم، لم تعد غزة سوي خبر عاجل، أو تقرير استقصائي.
 
هذا الطفل، بعينيه الشاخصتين تحت الركام، وكثير هم أطفال غزة، نساءها، لا يريدون أن نكتب عنهم، لا يريدون أن نصلي لهم، ولا أن نضيف أسماءهم إلى قائمة طويلة من الشهداء الذين نسيناهم بعد مرور الخبر علي شاشة الجزيرة، غيرها من قنوات العالم، باختلاف اللغات والمواقف، هم لا يبحثون عن دموعنا، بل عن فعل يُنقذهم، وعن زمن جديد نكون فيه جديرين بفكرة “الإنسان”.
 
التعاطف وحده لا يكفي.

التعاطف السلبي او المؤقت الذي الفناه ، في أحيان كثيرة، طعنة مغلفة بورق ناعم، يؤذي أكثر مما يُعين، والدموع، مهما سُكبت، لا توقف القصف، الدعوات في المساجد او الشوارع  بهلاك العدو لم تعد لها جدوي لان القرآن سن سنة التدافع في الارض بين الحق والباطل، فلا مجال لعذاب الاستئصال "والله قادر علي ان يفعل ما يريد"، المناشدات علي صفحات الفيسبوك أو التويتر لتحرك الحكام لا تتجاوز جدران الصفحات، أن نكتب أن فلانًا فقد عائلته، ثم نغلق الهاتف لنكمل يومنا، لا يُغير شيئًا. أن نلعن “الزمن” ونشتم “الصمت العربي” لا يعفي ضميرنا من الجريمة، نقيم البارزات الخيرية ، والموائد الرمضانية لأجل غزة، ولا ننسي التوثيق واخذ الصور التذكارية ونحن نرفع إشارات النصر ، ثم نمضي ، الحقيقة أن هذا التعاطف والتضامن لأجل انفسنا لا لأجل غزة ، لنخفيف الشعور بالذنب ، بالوجع الذي يطعن من مازال في قلبة ذرة من إنسانية ، اما غزة وشعبها في بحاجة لنضال ابداعي من نوع اخر .
 
نحن بحاجة إلى نضال إبداعي

نضال لا يشبه الأدبيات القديمة ولا يكرر الوسائل الميتة، نضال ينطلق من لحظة وعي فريدة، وساعة مكاشفة مع الحقيقة، الحقيقة أننا مقهورين، عبيد للخوف، ابواق للمال، حينما ندرك أن نقاط التغيير بحاجة لحرية، لرجال من طينه أخرى، أن القهر المستمر يفي كل مفاصل حياتنا يحتاج إلى فعل غير متوقع، إلى خطوة لا يمكن التنبؤ بها، إلى احتجاج يُربك الخصم، لا يُسليه، الوسائل تتغير، والخوف يمكن كسره، والكرامة ليست موروثة بل تُنتزع، الحرية لها مهر، الوعي بحاجة الي لحظة صفاء، تدرك بها ان المستهدف انت ، والمعركة تدار لاجل مستقبل ابني وابنك ، وبلدي وبلدك ، وليست معركة في الفضاء بل في الجوار ، جوار الدين والدم والجغرافيا، وهذا اللحظة تحتاج الي جُرأه  سلمية اقوي من العاصفة.
 
لقد أدهشنا الوشق

في لحظة يأس برز "الوشق المصري" ذاك الحيوان البري خارجا من صحراء مصر، لم يقرأ كتب المقاومة ولا شهد ندوات المثقفين، لكنه فعل ما عجزنا عنه: هاجم جنود الاحتلال كما نشرت مواقع إسرائيلية وهاجم قبلهم عجزنا ، خرج من الغيب وكأنه يفضح صمت الطبيعة والإنسان، ليقول لنا: “حتى أنا، رغم غريزتي، لم أحتمل هذا الظلم”. لقد احتج بلغة الغريزة، وصار بطلًا خرج من رحم الأمة، ليس ليقاتل فقط، بل ليذكّرنا أن الحياة لا تُعاش على الهامش ، الوشق فعلا ابداعيا في النضال ، خارج الدائرة التي نتحرك فيها ، وهو ما يخشاه المحتل والمستبد معاً، الذين يزرعون عيونهم، ويراقبون حركات وسكنات الشعوب خشية لحظة الوشق المفاجأة.
 
بعد هذه اللحظة ، هل يجوز لنا القعود ، ومشاهدة مناظر القصف والمجازر ، ام أن قد ساعة النصرة قد حانت  ولنبدأ بها من النفس ، ان نضغط بالسؤال علي انفسنا ، موقفنا ، شعورنا ، ام يجب أن نتحول من متابعين إلى فاعلين، من متأملين إلى صانعي واقع. النفس الثائرة هي أول جبهة، وأهم سلاح. ثم نعيد تفعيل ما دُفن وقهر من قيمنا وتقاليدنا بفعل القمع والتآمر : وهذا امو ينسحب علي منظمات المجتمع المدني، النقابات، الاتحادات، كل الكيانات التي كانت يوماً صوتاً للشعوب ثم تحولت إلى أرقام في سجلات الأمن ، يجب ان ينفخ فيها الروح ، لتكون منصة صوتنا ، وحاملة صوتنا في نضال ابدي سرمدي لا يتوقف .
 
تحت مظلة تتجاوز الأحزاب والخلفيات، يجب أن نعيد تكوين الجبهة ، نعيد للجامعات والمدارس دورها، لا كمراكز امتحان بل كمنابر وعي ، تقف مع مثيلاتها في غزة التي هدمت ، والاكاديميين الذين استشهدوا امنين في بيوتهم ، ومع المدارس ومعلميها ولابها الذين حرموا حقهم في التعليم والحياة والأمان ، يجب نعلّم الأطفال والشباب كيف يفكرون لا كيف يخافون ، نعلّمهم أن النضال ليس بندقية ، بل بالعلم والفن والصوت والصورة في الشوارع ، في المقاطعة ، الاحتجاج السلمي ، بشل كل حركة تقف وتؤيد الاحتلال ، وتقف مخذولة عن النصرة.
 
كما يجب ان تتحرك النخب وتصلح تُصلح خطابها تنتقل من التحليل والتوصيف والتنظير الي خطاب التعبئة والحشد ، والجهر بالقول امام العجز السياسي والعربي ، صحيح ذلك سيكون مكلفا أحيانا ، لكن هذه ضريبة الحرية والكرامة ، مغادرة المكاتب الوثيرة ، واستيديو التحليل الي إلى الميدان، بالكلمة، بالفعل، بالوعي الحي. الشارع ليس خصمًا للأنظمة، بل خلاصها. إن هي استيقظت. أما إن ظلت غارقة في غطرستها، فإن طوفان الغضب قادم، ولن ينجو منه أحد.
 
لا يحتج احد بفوضى الربيع العربي ، فالربيع العربي لم يفشل بل أُجهض بيد التحالف القذر بين الاستبداد والقوى الاستعمارية الحديثة ، تم سحق الثوار، تفكيك المجتمعات، تهجير النشطاء، تدمير البنى المدنية ، عقابا علي محالة العبور الثاني للاستقلال ، فالثورات العربية الاولي ضد المستعمر كان العبور الأول الذي لم تستكمل معه الدول استقلالها وسيادتها ، وبقت رهينه القرار بيد الغرب ، ليواجه الربيع العربي الاستعمار الأول بكل ادواته وحليفة الاستبداد ، حليف الاحتلال والغرب وخصم الشعوب والاستقلال ، و لكن رغم كل الماسي لم يمت الحلم ، ولم تنطفئ جذوة الأمل ، صبر الثوار السورين ١٤ عاماً ليتحقق الحلم ، نحن اليوم على أعتاب عبورٍ مغاير عبر عنه مبعوث الرئيس ترامب الي الشرق الاوسط في مقابلته مع الصحفي  واليلسون .
 
واجبنا اليوم أن نتصالح مع ذواتنا، مع شعوبنا، مع نداء الحرية الذي لم يتوقف عن الصراخ فينا ، ولنتذكر أن الطغاة الجدد – من ترامب إلى نتنياهو – لم يأتوا بانقلاب، بل بإرادة شعبية. ولن تُواجه هذه الإرادة إلا بأخرى تضاهيها في التصميم، وتتفوق عليها في العدالة ، وندرك أن هذه الحروب لم تمر مرور الكرام تاريخيا، ولم تكن معزولة عن سياقها الجغرافي والشعبي ، فإما نكون مع هذه المنطقة وقضايا ومع مستقبل منطقتكم ، وحتي لاجل الامن والاستقرار ، وليكتب التاريخ مواقفكم  بأحرف من نور ، ويمسح مكل ما جانيتموه بحق شعوبنا ، وتذكروا حطين ، وعين جالوت ، كانت معرك مفصلية في ارض فلسطين ، بتحركات شعوب المنطقة ، بعد حركة تصحيح قام بها الناصر لدين الله صلاح الدين ، والعز ابن عبدالسلام مع المماليك أيام الظاهر ببيبرس .
 
ففلسطين ليست فصيلًا ، ولا شأناً داخليًا نُصفي فيه حساباتنا مع الإسلاميين أو العلمانيين. إنها جوهر القضية. قلب الأمة. لا يجوز أن نربط دعمنا لها برأي سياسي أو توجه حزبي. حين يُقصف طفل، لا يُسأل عن توجهات أهله. حين تُسحق مدينة، لا تُفتش في ميول ساكنيها.
 
فلنبدأ إذًا… من هذا الطفل تحت الركام.
نجعل منه بداية جديدة، لا خبرًا عابرًا. نُعيد تعريف دورنا في هذا العالم. نُبتكر أشكالًا جديدة من النضال، تتجاوز اللغة، تهز الضمير العالمي، وتعيد الثقة بشعوبنا.
 
فلنكفّ عن النحيب.
 
ولنبدأ، أخيرًا… بالكتابة على جدران التاريخ من جديد.


Create Account



Log In Your Account