كيف خسر البيض حرب صيف 1994م؟
الخميس 11 نوفمبر ,2021 الساعة: 09:05 مساءً

للسياسة رجالها، ولم يكن علي سالم البيض يومًا من مُجيديها، ولا من مُدركي ألاعيبها، كان عاطفيًا حد السذاجة، وأي ريح سموم وافدة كانت تَهُزُ كيانه، وتقلب مَداركه رأسًا على عقب، وهي النافذة التي تسلل منها اللاعب الخارجي، واستغلها عبر أذرعه المعروفة بذكاء، صحيح أنَّه - أقصد اللاعب - استفاد منها لبعض الوقت، إلا أنَّ الاستفادة الكبيرة كانت من نصيب علي عبدالله صالح، الذي صار يزبد ويرعد ويتوعد، ويُقدم نفسه بأنه حامي الوحدة، وحارسها الأمين، وبأنَّه مُستعد لأن يُقدم للدفاع عنها قوافل من الشهداء.

وفي المُقابل كان البيض مُتناقضًا للغاية، يظهر كوحدوي أمام أصدقاءه الوحدويين، وكانفصالي أمام أصدقاءه الانفصاليين، ولو أنَّ الفريق الأول حدَّ من تواصله مع الأخيرين (عملاء السعودية)، أمثال عبدالله الأصنج، وعبدالرحمن الجفري، وأحمد بن فريد الصريمة؛ لما تزحزح عن موقفه الوحدوي قيد أنملة، ولما ركب حصان آل سعود الخاسر، ولما خسر المعركة سياسيًا، ثم عسكريًا، ولما انتهى به الأمر منفيًا خارج وطنٍ قَدَّم لأجله الكثير.

وقبل الوصول إلى تلك النهاية التراجيدية، وجب التذكير أنَّ حكام صنعاء ظلوا يترقبون عودة البيض - الابن الضال حد توصيف أحدهم - من اعتكافه في عدن للتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، وحين لم يعد؛ ذهبوا جميعًا إلى الأردن، ووقعوا بوجوه واجمة على بنودها 20 فبراير 1994م، بعد تلكؤ شديد من قبلهم، وإصرار كبير من قبل الحزب الاشتراكي.

تبادل الطرفان أثناء مراسم التوقيع الاتهامات، ولم يمد صالح يده لمصافحة البيض، لولا أنَّ الملك حسين بن طلال دفعه خجلًا إلى ذلك، غادر الرجلان عمَّان بروح مشحونة، وعداء أشد، وحقد أعمق، وعادا بعد زيارات محدودة لبعض دول الجوار كلٌ إلى عاصمته.
     
قبل عودته إلى عدن، قام البيض بزيارة سريعة إلى جدة، وحظي هناك باستقبال رسمي حافل من قبل الملك فهد بن عبدالعزيز وعدد من أفراد الأسرة الحاكمة؛ الأمر الذي جعل صالح يتهمه بأنَّه استلم ثمن تلك الأزمة من الخارج، في إشارة إلى السعودية، الجارة المُتسلطة التي تخلت فجأة عن عملائها الشماليين، وعملت خلال الثلاثة الأعوام الفائتة على استمالة بعض القيادات الجنوبية، وتحفيزها تدريجيًا على إعلان الانفصال، ولولا ذلك التدخل السافر لما وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه.
     
ألقى الرئيس صالح خطابًا ناريًا من ميدان السبعين 27 إبريل 1994م، أسمى فيه مُعارضيه الجنوبيين بـ (الانفصاليين)، وقال: «إن شعبنا اليمني سيضع حدًا لأولئك الذين يتسكعون على أبواب بعض العواصم ليستلموا مالًا مُدنساً من أجل إجهاض الوحدة»، كما دعا إلى تشكيل لجان شعبية في كل المحافظات والمديريات والأحياء للدفاع عن الوحدة، وسارع المُحللون بالتنبؤ بأنَّه لن يتمكن من تحقيق نصر سريع وحاسم في حال تجرأ وأشعل الحرب.

اشتعلت الحرب الشاملة مساء يوم الأربعاء 4 مايو 1994م، وبسقوط منطقتي كرش والضالع باتت بوابة الجنوب مُشرعة أمام القوات الشمالية، وبدأ آلاف المُتطوعين - من أعضاء الإصلاح والقبائل - يتوافدون لمساندة تلك القوات، ليجتمع أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي في ذات اليوم بمدينة عدن لمناقشة تلك التداعيات، وقيل أنَّ جار الله عمر وياسين سعيد نعمان دعيا إلى تنحي البيض، وأن تتولى قيادة جديدة التفاوض مع صنعاء.
       
والمُواجهات العسكرية حول قاعدة العند على أوجها، غادر البيض عدن صوب مدينة المُكلا 18 مايو 1994م، لتسقط في اليوم التالي مُعظم مُعسكرات تلك القاعدة العنيدة، وهو السُقوط المُدوي الذي جعل الرئيسان محمد حسني مبارك وزايد بن سلطان يُحملان الرئيس صالح وحده مسؤولية استمرار الحرب، فيما تقمص الملك فهد دور المُصلح المُتحسر على إراقة الدماء، واكتفى بالدعوة لوقف إطلاق النار. 
      
تلبية لتلك الدعوة، وإحراجًا لصاحبها، واحترامًا لعيد الأضحى المبارك؛ أصدر صالح قرارًا بوقف إطلاق النار، مدته ثلاثة أيام، لم يكد ينقضِ اليوم الأول حتى أعلن البيض - بدعم وتحفيز سعودي - الانفصال، وذلك في ليلة العيد وحجاج بيت الله الحرام يقفون على صعيد جبل عرفة تجسيدًا لوحدة الأمة 21 مايو 1994م.

أذاع تلفزيون mbc نبأ الانفصال قبل تلفزيون عدن بحوالي ساعة كاملة، وذلك بعد أن مهدتا صحيفتا (الحياة والشرق الأوسط) له منذ ثلاثة أيام؛ وهذا وإن دل فإنما يدل على أنَّ ذلك القرار جاء بدعم وتحفيز كبيرين من قبل السعودية، الدولة الجارة التي جاهرت بعد ذلك بدعمها للانفصال، وألقت بثقلها السياسي والمالي والإعلامي في ذات الاتجاه، ولأنَّ ديدنها خراب الدول لا إصلاحها، باءت جميع جهودها بالفشل، وأتت الرياح بما لا تشتهي سفنها.
     
سعى بندر بن سلطان - سفير الرياض في واشنطن - جاهدًا لاستصدار قرار إلزامي من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وإرسال بعثة لتقصي الحقائق، رفضت أمريكا تلك المسودة، وعدلتها إلى الدعوة لوقف إطلاق النار دون تحميل أي طرف المسؤولية، فكان القرار رقم 924، الذي صدر مطلع الشهر التالي، وقد مثل ذلك الموقف ضربة قاصمة لجهود السعودية، ليتهم عبدالكريم الإرياني الأخيرة صراحة بدعمها الانفصاليين، وقال: «أن هناك دلائل على مساعدات غير محدودة من المال والسلاح تصل الجنوب جوًا وبحرًا من السعودية». من جهتها اعترفت دولة الإمارات العربية المتحدة إعلاميا بالدولة الجديدة، وسبقت صفة (فخامة الرئيس) اسم البيض في وسائلها الإعلامية.

استفاد صالح من كل ما سبق استفادة كبيرة، دعا من فوره لاستئناف عمليات القتال، وألقى خُطبه الرنانة بحماس بالغ، وقال في مؤتمر صحفي: «إن التعاطف مع قرار البيض الانفصالي من أي قطر عربي أو دولة صديقة دخول مُباشر في عداء مع اليمن، وتدخل سافر في شئونها الداخلية»، وأضاف، «خشينا دخول القوات المُسلحة إلى عدن، ولكن بعد إعلان الانفصال سنضطر إلى دخولها بشتى الوسائل، وسنطارد الانفصاليين أينما وجدوا»، ليصدر النائب العام أمرًا بالقبض القهري على 16 من القيادات الجنوبية.
     
ترك عدم الاعتراف بدولة الجنوب هوامش كثيرة للمناورة، وأضحت قوات صنعاء تُقاتل بثقة وحماس كبيرين تحت مُسمى (الشرعية الدستورية)، رفعت شعار (الوحدة أو الموت)، وصارت معركتها - وفق منطق الحق والباطل الذي تم تكريسه - مُقدسة، على اعتبار أنها تواجه شرذمة انفصالية مُرتدة، كما ساهم بعض رجال الدين في تغذية ذلك الشعور، من خلال التركيز على مثالب الطرف الآخر، وأنَّه مُلحد وكافر، وما ذكر قناني الخمر في أخبار المواجهات، وأنَّ العثور عليها بكميات كبيرة تمَّ في بعض التقدمات إلا غيض من فيض، ليأتي تصريح الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بأنَّ «قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار» ليوضح تلك الصورة السوداوية أكثر.
      
أطلق صالح لحيته الخفيفة، تماماً كما فعلها - فيما بعد - أثناء تحالفه مع الحوثيين، وتمكينهم من مفاصل الجيش والدولة، وكان دائمًا ما يُردد بأنَّه يُحارب دفاعًا عن الوحدة والعقيدة، ونقلت مصادر مُقربه منه أوامره بقصف مصنع صيرة للكحوليات؛ ليكسب الرأي العام المحلي أكثر إلى صفه، فما كان من عبدالرحمن الجفري - نائب الرئيس الجنوبي - إلا أنْ أصدر قبل انتهاء الحرب بيومين قرارًا باسم البيض، نص على إقفال محلات بيع الخمور، ومنع تداولها وتعاطيها؛ علَّه بذلك يخفف من حدة الهجوم على مدينة عدن، ولو أنَّه أصدر ذلك القرار مُبكرًا؛ لكان فوت على الطرف الآخر فرصة استغلال الدين في تحقيق مآرب دنيوية.
    
وهكذا، وفي غَمرة حرب صيف 1994م المُلتهبة، وجدت القُوات الجنوبية نفسها فجأة أمام قيادة دخيلة، كانت حتى الأمس القريب مَنبُوذة، ومُتهمة بالعمالة والارتزاق، وأقصد بذلك عبدالرحمن الجفري - نائب علي سالم البيض - وأصحابه المدعومين والمفروضين من قبل السعودية، اللذين عادوا ليحلوا محل الحزب الاشتراكي لا ليشاركوه الحكم، كانت أوامر هؤلاء - خاصة في عدن وشبوة - غير مُطاعة، لتتوالى تبعًا لذلك الهزائم، وفي المُحصلة النهائية لم يخسر هذا الفريق العائد شيئًا مُقارنة بخسارة الفريق المُقيم، الذي كان حتى الأمس القريب في الصدارة.
     
خاضت القُوات الجنوبية مَعركتها الخاسرة بلا قيادة مُوحدة، وبلا قضية جامعة، وبلا أهداف واضحة تستحق الموت من أجلها، وطد زعماءها التقدميون علاقتهم مع السعودية، وهي دولة رجعية لم تحترم يومًا حقوق الجوار، ومَعروفة بعدائها التاريخي لليمن واليمنيين، كانوا يتلقون أوامرهم من قادتها وقادة دولة الإمارات العربية المُتحدة، وحصلوا على أموال هائلة نظير تبعيتهم تلك، اهتزت صورتهم - بفعل ذلك - أمام قواتهم المُنظمة، واهتزت أكثر حين لم يصل الأخيرين من مَغانم ذلك الارتزاق سوى الفُتات.
      
في اليوم التالي لسقوط مدينة الحوطة 3 يونيو 1994م، أعلن حيدر أبوبكر العطاس من إحدى قصور الضيافة في سلطنة عمان عن تشكيله حكومة جنوبية، حوت 30 وزيرًا، كان 24 منهم مُقيمون في الخارج، تمامًا كما هو الحال مع غالبية أعضاء الجمعية الوطنية - البرلمان المؤقت - الـ 111 التي تأسست من قبل، وتولى أنيس حسن يحيى رئاستها، لتبلغ تلك المهزلة السياسية بعد مرور عشرة أيام ذروتها؛ أعلن البيض عن تشكيله مجلس للدفاع الوطني برئاسته، وكان مُعظم أعضاؤه الـ 11 مُقيمون - أيضًا - في الخارج!!

عاشت القيادة الانفصالية - تبعًا لذلك - أسوأ أيامها، ولإنقاذ موقفها المُتشظي، وبعد يوم واحد من تشكيل حكومة العطاس، التقى في مدينة أبها وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، ناقشوا في اجتماعهم كيفية الاعتراف بالدولة الجديدة، وبعد أخذ ورد ومشاورات عديدة، تحفظت قطر، فيما طالبت سلطنة عُمان الجميع بالتأني، فكان ما أرادت الأخيرة.

لم تلق دعوات وقف إطلاق النار أي استجابة، وكان دائمًا نظام صنعاء ما يخترقها لأسباب واهية، مُحملاً الطرف الآخر وأطراف أخرى المسؤولية، لتصل عدد خروقاته حتى مُنتصف يونيو إلى الخمسةِ خُروقات، ومن تلك الأعذار التي كان يلوكها عَرابو تلك السياسة تصريح لعبدالقادر باجمال - أحد القيادات الجنوبية الوحدوية - قال فيه أنَّ هناك جنوبيون أقصوا بعد أحداث يناير 1986م، وأنَّ حربهم ثأرية، وأنَّ هؤلاء قد يصرون على مواصلة الحرب حتى وإن أعلنت صنعاء عن إيقافها.

عاش الانفصاليون الأسبوع الأخير من الحرب على وقع السباق بين الصمود وإمكانية الحصول على اعتراف دولي بدولتهم، زادت بعد صدور قرار مجلس الأمن خيبة أملهم، وزادت أكثر بعد تراجع الموقف المصري والكويتي عن مساندتهم، وبعد فشل اجتماع وزراء خارجية دول إعلان دمشق (مصر، سوريا، دول الخليج) في الكويت في تحقيق ذلك الاعتراف 3 يوليو 1994م، بدأوا يشعرون بالإعياء المادي والمعنوي، ويفقدون إمكانية الصمود إلى وقت طويل، فكان الانهيار المفاجئ لجبهة الساحل في حضرموت. 

لم يكن صباح يوم الخميس 7 يوليو 1994م كأي الصباحات المُشرقة، كان مُلبدًا بأدخنة البارود والغبار، أتمت قوات صنعاء في ساعاته الأولى سيطرتها النهائية على عدن، بعد أن اجتاحتها من خمسة محاور، وبعد أن غادرتها القيادات الانفصالية إلى جيبوتي، وكان الجفري قد أصدر قبل مُغادرته أوامره لمن تبقى من المُقاتلين بالكف عن القتال؛ وبرر ذلك بالحفاظ على البقية الباقية من المدينة الصامدة والعظيمة، وأضاف: «إنَّ القضية لم تنته، وإن النضال سيستمر من أجل حياة حرة وكريمة لشعبنا في الجنوب بشكل خاص، وفي عموم اليمن بشكل عام، ومن أجل هزيمة عقلية الهيمنة والسيطرة والتخلف».

وهكذا، ورغم الدعم المهول الذي حظي به الحزب الاشتراكي (الكافر) من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المُتحدة (الرجعيتان)؛ حسم علي عبدالله صالح (الدحباشي!) المعركة لصالحه خلال 65 يومًا، مُخيبًا توقعات المُحللين العسكريين، وصار بذلك الحاكم الأوحد، وبيده مَقاليد كل شيء.


Create Account



Log In Your Account