ربيع المخا
الجمعة 15 أبريل ,2022 الساعة: 01:11 صباحاً

للمخا حضور مَحدود في تاريخ اليمن القديم، وجاء أول ذِكر لمينائها العريق في أحد النقوش المسندية، الذي أرجع عدد من العلماء تاريخه إلى ما قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون، أي في فترة ضعف وانحسار مملكة سبأ، وجاءت تسميتها في ذلك النقش والنقوش التالي ذكرها بـ (مخن، ومخان، ومخون).

تُعد فترة حكم مملكة حمير، والتي حكمت بعد انهيار مملكة سبأ، من أشد الفترات غُموضًا وتعقيدًا في تاريخ اليمن القديم، عجز المُؤرخون عن لملمة حلقاتها المفقودة، وعجزوا أيضًا عن إيجاد صيغة تراتبية جامعة لأسماء ملوكها، والراجح أنَّ الأخيرين، وبتوصيف أدق ملوك دولتها الثانية (مملكة سبأ، وذو ريدان)، فشلوا في مد سيطرتهم إلى المناطق الساحلية الجنوبية، وميناء عدن تحديدًا؛ فكان المخا تبعًا لذلك ميناء تلك المملكة الرئيسي.

وفي عهد الملك كرب إيل وتر يهنعم (وهو غير الملك السبئي كرب إيل وتر بن ذمار علي)، والذي حكم تقريبًا في القرن الميلادي الثاني، تكرر ذكر ميناء المخا في أحد النقوش، وجاء فيه - أي النقش - أنَّ ذلك الملك أرسل بوفد إلى نجاشي الحبشة، وأنَّ ذلك الوفد عاد بعد مرور سبعة أشهر عبر ذلك الميناء.

وبعد سنوات محدودة من فترة حكم ذلك الملك، تكرر اسم ملك يحمل نفس الاسم، وتكرر أيضًا ذكر اسم ذات الميناء، وعن ذلك قال صاحب كتاب (الطواف حول البحر الأريتري) أنَّه في عهد كرب إل (ربما المقصود كرب إل أيفع الذي حدد المُؤرخون فترة حكمه في الربع الأول من القرن الثالث الميلادي، بعد شمر يهرعش الثاني) صار المخا ميناء اليمن الرئيسي، وأكد ذات المُؤرخ أنَّه وجده مُزدحمًا بالمراكب، وأصحاب السفن، والملاحين العرب، وأضاف: «والناس في شغل شاغل بشؤون التجارة»، ووصف مدينة المخا بأنَّها «مدينة من الأسواق، أقيمت على أساس من القانون».

وفي عهد الدولة الحميرية الثالثة (مملكة سبأ، وذو ريدان، وحضرموت، ويمنت) تكرر ذكر المخا في أحد النقوش التي سجلت حروب الملك الحميري يوسف أسار 518م، الشهير بـ (ذي نواس)، ضد الأحباش والأقيال المسيحيين المساندين لهم، ومن ذلك النقش المبتور نقتطف: «ثم سار الجيش إلى مخون، وحارب وقاتل، فقتل كل سكانها، واستولى على كنيستها».

ضعف بعد ذلك دور ميناء المخا، وطغت أهمية ميناء عدن عليه، وصار الأخير ميناء اليمن الرئيسي، وهو الوضع الذي استمر حتى القرن السادس عشر الميلادي، القرن الذي قَدِم في منتصفه العثمانيون، واستولوا على مُعظم الأراضي اليمنية، وأعادوا له مجده الغابر، على حساب ميناء عدن طبعًا، وجعلوه أهم موانئ البحر الأحمر؛ لاعتبارات عدة، سنتناولها اختزالًا في السطور التالية.  
     
وتمهيدًا لتلك الاعتبارات، وجب التذكير أنَّ خطر البرتغاليين في البحر الأحمر كان قد تعاظم خلال تلك الفترة، وحاولوا - أي البرتغاليين - الاستيلاء على مينائي عدن، وجدة، وذلك بعد أنْ أقسم ملكهم بأنَّه سيقوم بنبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأمر الذي اهتزت له مشاعر المسلمين، وجعل العرب منهم يتقبلون التواجد العثماني في مناطقهم.

وفي اليمن، ولكبح الخطر البرتغالي، سارع السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب بالاستنجاد بالمماليك في مصر، وأذن لهم بإقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية، وحين تماطل في دعم الأخيرين؛ اجتاحوا اليمن، وقتلوه على تخوم صنعاء 1517م، وذلك بالتزامن مع أفول دولتهم في مصر والشام على يد الأتراك، فما كان من قادتهم هنا إلا أنْ أعلنوا ولاءهم للسلطان العثماني سليم الأول.
     
وبطلب من الأمير الطاهري عامر بن داؤود، المهزوم حينها من قبل الإماميين، ولكبح خطر البرتغاليين أيضًا؛ أرسل الأتراك بعد 27 عامًا بِحملة كُبرى، وكانت نهاية ذلك الأمير القتل غدرًا على يد قائد تلك الحملة، ليبدأ بذلك التواجد العثماني الأول، الذي شمل مُعظم الأراضي اليمنية، واستمر 100 عام وبضعة أشهر.

صحيح أنَّ الخطر البرتغالي انحسر حينها من سواحل البحر الأحمر، إلا أنَّه ظل مُترصدًا في المحيط الهندي، وخليج عدن، ولهذا السبب، ولقرب ميناء المخا من مدينة صنعاء (عاصمة الولاية)؛ عمل العثمانيون على إنعاش ذلك الميناء، وحولوه من قرية صغيرة إلى مدينة كبيرة، وجعلوه ميناء الولاية الرئيسي، وأصدروا قانونًا طالبوا فيه جميع السفن العابرة في البحر الأحمر بأنْ ترسو فيه، وتدفع ضريبة مرور، ومنعوا السفن الأوربية من أنْ تتجاوز حدوده؛ منعًا لأي تهديد قد يطال الأماكن المقدسة، والوضع الأخير لم يستمر طويلًا.

استعاد ميناء المخا بذلك دوره التاريخي، وتردد اسمه كثيرًا في الأدبيات التي وثقت لتلك الحقبة، ونعته المُؤرخ الموزعي بـ (البندر السعيد)، وكان حاكمه يرتبط بالوالي العثماني مُباشرة، ومنه كان يُغادر بعض الولاة، وعبره يعودون، وهذا الوالي سنان باشا توفي أثناء مُغادرته اليمن فيه ديسمبر 1607م، لتبلغ في عهد خلفه جعفر باشا التجارة العابرة في مياه البحر الأحمر أوج نشاطها، وبدأ ميناء المخا يستقبل سفنًا بريطانية، وهولندية، وذلك بالتزامن مع أفول السيطرة البرتغالية على طُرق التجار العالمية.

وفي عهد هذا الوالي أيضًا، بدأ الإنجليز والهولنديون يسعون لإقامة مراكز تجارية لهم في مدينة المخا، ونجحوا بعد عدة محاولات فاشلة في ذلك، وكان الأخيرون أكثر حنكة وعزيمة، أقنعوا السلطان العثماني عثمان الثاني بإصدار فرمان خاص بهم يونيو 1618م، وهو الفرمان الذي أعطى بصورة عامة الأجانب - ومن ضمنهم الإنجليز - ذلك الحق، وجاء فيه: «يسمح للهولنديين بالتجارة بدون مضايقتهم في دينهم، وبالبيع لكل التجار والشعوب الأخرى الذين يقع الخيار عليهم بدون أي إعاقة».

أسس الهولنديون في ذات العام، وعبر شركة الهند الشرقية الهولندية مركزًا تجاريًا لهم في مدينة المخا، وكذلك فعل الإنجليز، والأخيرون عبر شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وهي الشركة التي تأسست قبل 18 عامًا، أي قبل قرينتها الهولندية بأعوام قليلة.

ساهم تحول البن إلى سلعة نقدية بديلة لتجارة التوابل في انعاش ميناء المخا، القريب أصلًا من مناطق زراعة تلك السلعة، التي اهتم اليمنيون خلال تلك الفترة بزراعتها، وارتبط اسمها باسمه (موكا)، لتبلغ حجم التجارة فيه أربعة أضعاف تلك التي في ميناء جدة، وعاش تبعًا لذلك عصره الذهبي، الذي استمر لأكثر من قرنين.

قَدَّمَ خلال تلك الفترة التاجر الهولندي يوهن كرستزن وصفًا دقيقًا لذلك الميناء العريق، وعده من أهم المراكز التجارية في المنطقة، وعبره بدأت السفن تُبحر بسلعة البن إلى أوربا، بعد أنْ كان الإتجار بها محصورًا في المناطق الشرقية، وقد جاء في كتاب (هولندا والعالم العربي) ما يُؤكد ذلك، ومنه نقتطف: «فقبل أنْ يعرف الهولنديون طعم القهوة، كان الهولنديون يقومون بشرائها ثم بيعها في الدول الأسياوية». 

انتهي بخروج الأتراك من موزع، والمخا، وزبيد، وكمران تواجد العثمانيين الأول في اليمن 1636م، ودانت معظم المناطق اليمنية للدولة القاسمية، وقد أولى أئمة تلك الدولة اهتمامًا خاصًا بميناء المخا، الذي كان يدر عليهم أموالًا كثيرة، وأولو لذات السبب زراعة البن ذات الاهتمام.

تعاظم حينها التنافس بين الإنجليز والفرنسيين، وأسس الأخيرون شركة الهند الشرقية الفرنسية 1664م، وفي مطلع عام ١٧٠9م وصلت إلى اليمن بعثة فرنسية برئاسة دي میرفیل على ظهـر السفينتين كيرييز، ودیلجینت، التابعتين لشـركة سانت مالوا، وتمكّن دي میرفیل من عقد معاهدة مـع حاكم المخا، التي كان أهم بنودها حق الفرنسيين في المُتاجرة طول النهار، على أنْ يعودوا إلى سفنهم ليلًا.

ونتيجة لنجاح تلك البعثة أرسـلت الشركة الفرنسية بعثة أخرى أواخر عام ١٧١١م، برئاسة دي لالاند، وبریكولین، واستدعى المهدي محمد بن أحمد (صاحب المواهب) طبيب تلك البعثة لمعالجته، فأرسلوا له وفدًا مُكونًا من 20 شخصًا، والطبيب، استقبلهم في المواهب استقبالًا ملكيًا، وظلوا بضيافته لثلاثة أسابيع، عالجوه، ثم وقعوا معه وثيقة تبادل تجاري.

العثمانيون من جهتهم لم يكونوا غافلين عن تلك التحركات، أرسلوا لذات الإمام بوفدين من قبلهم، الأول عام 1703م، والآخر عام 1711م، وأرسلوا له أيضًا بالهدايا الثمينة، وكانوا يسعون جاهدين لتطبيع العلاقات معه، والحصول منه على امتيازات فيما يخص تجارة البن، وقد رفض طلبهم بخصوص الاكتفاء بتصديره لمصر، ومنع تصديره للدول الأوربية.

وغير بريطانيا، وهولندا، وفرنسا، ثمة دول أوربية أخرى دخلت غمار تلك المنافسة، كالنمسا، والدنمارك، وبدءًا من العام 1719م، قامت سُفن شركة الأوستند النمساوية بنشاط تجاري واسع في ميناء المخا، إلا أنَّ الشركات الأوربية الكبرى كبحت بعد مرور ثمانية أعوام ذلك النشاط، وهي الفترة التي وصل فيها التنافس بين تلك الدول إلى الذروة، أما الدنماركيون فقد قاموا خلال القرن السابع عشر الميلادي بمعاملات تجارية متقطعة، وكان نشاطهم في ذات الميناء محدودًا.    

انكمشت في عهد المنصور الحسين بن القاسم خريطة الإمامة الزّيدِيّة، وتشكلت سلطنات صغيرة عمت الجنوب اليمني حتى حضرموت 1733م، وضعفت الدولة القاسمية اقتصاديًا، وقد كان لانهيار تجارة البن، وارتفاع أسعاره، وتحول أغلب الدول الأوربية لاستيراده من جنوب شرق آسيا، والهند، أثره البالغ في ذلك التحول، وكان الهولنديون قد قاموا بداية ذات القرن بزراعته في تلك المناطق؛ وهو الأمر الذي أدى لكسر احتكار اليمن لهذا المحصول، وأدي أيضًا لقيامهم - أي الهولنديين - بإقفال مقر وكالتهم في مدينة المخا 1739م. 

بالتزامن مع ذلك التحول المُريع، تجرأ الفرنسيون في صبيحة عيد الفطر على قصف مدينة المخا فبراير 1737م، واجتياح قلعتها، للمُطالبة بدين لشركة الهند الشرقية الفرنسية، قُدرت بـ 82,000 دولار، رفض العامل أحمد الخازندار دفعه لهم، وقيل أيضًا غير ذلك.
     
هدَّ الفرنسيون سكون المدينة المُسالمة، وقتلوا غدرًا 40 من عساكرها، ليقوم أحد حراس الميناء - قيل إنَّه مجنون - بضرب قائدهم بالسيف، فأرداه قتيلًا، ولم يكن أمامهم بعد ذلك سوى مُراسلة المنصور الحسين للمطالبة بحل ودي، ليبادر الأخير في إرضائهم، فعزل العامل، وصادر أمواله، وجعل القاضي محي الدين العراسي بدلًا عنه، وكتب إليهم: «إلى الأقربين منا مودة.. وصل كتابكم وتحققناه، والعامل رفعناه، والسلام على من اتبع الهدى».

بدأ بعد ذلك اهتمام الفرنسيين بالبن اليمني يقل، وقاموا بزراعته في جزيرة رينيون، وغادروا تبعًا لذلك مقر وكالتهم في مدينة المخا 1762م، وبذلك صار ذلك السوق مَفتوحًا على مصراعيه للبريطانيين، ومن بعدهم الأمريكان، وقد بدأ الأخيرون نشاطهم التجاري في اليمن بعد تلك المغادرة بـ 13 عامًا.

وفي نهاية ذات العام، وصلت إلى اليمن بعثة دنماركية برئاسة كارستن نيبور، وقد توفي أحد أعضائها في المخا، وآخر في يريم، وقد جاء وصف نيبور للمخا بأنَّها مدينة مأهولة بالسكان، عدد الهنود فيها حوالي 700 نسمة، يتخللها سور يحتوي على خمسة أبواب، وهم: باب العمودي، والشاذلي، وفجير، وصندل، وباب الساحل، وتتمركز بالقرب منها قلعتان مُزودتان بمدافع، وهما: قلعة الطيار، وقلعة عبدالرب الشاذلي، بالإضافة إلى أبراج الحراسة المُنتشرة بين المدينة وبير البليلي، وأضاف: «وبعض البيوت داخل سور المدينة مبنية بالحجارة، بطريقة جميلة مُشابهة لطريقة بناء بيوت بير العزب في العاصمة صنعاء، أما أكثر البيوت سواء داخل السور أو خارجه فإنها ليست أفضل من الأكواخ المُنتشرة في تهامة، وفي خارج المدينة تنتشر أشجار النخيل بكثرة، وبين هذه الأشجار توجد حدائق جميلة».

التقت تلك البعثة بالمهدي عباس بن المنصور الحسين يوليو 1763م، وقد تحدث نيبور عن ذلك الإمام وحاشيته، ووصفه بالجشع، وقال أنَّه كان يأخذ رُبع قيمة محصول البن من المزارعين قبل أنْ يسمح بشحنها، ومن ثم تصديرها، وأضاف: «فعندما أصبح الإمام الحالي مكروهًا بسبب جشعه، ووحشيته، وضعت خطة لإبعاده عن العرش».

بعد الحملة الفرنسية على مصر 1798م، سارع الإنجليز باحتلال جزيرة ميون، ثم كمران، ولم يستقروا فيهما بسبب تضاريسهما الوعرة، ليعقدوا بعد ذلك اتفاقًا مع حاكم أبي عريش حمود أبو مسمار، اشترطوا عليه أنْ لا يستخدم الفرنسيون جُزر وموانئ البحر الأحمر التابعة له، وهو ذات الطلب الذي توجهوا به أيضًا إلى المنصور علي بن المهدي عباس.

توجه الجنرال البريطاني ولسون في منتصف العام التالي إلى صنعاء، والتقى المنصور علي، وقد رفض الأخير طلبه بخصوص وضع القوات الإنجليزية في الأراضي اليمنية، واكتفى - أي الإمام - بحظر استخدام السفن الفرنسية للموانئ اليمنية، والسماح للإنجليز بإقامة مستشفى في مدينة المخا، لاستقبال المرضى والجرحى من جنودهم.

عين الإنجليز بعد ذلك السير هوم مندوبًا لهم في الجزيرة العربية 1802م، ومنحوه صلاحيات كاملة لعقد مُعاهدات تجارية مع حُكام المنطقة، وقد بدأ الأخير أولى مهامه بالتوجه من كلكتا إلى المخا، ومن الأخيرة أرسل ببعثة تفاوضية إلى صنعاء، برئاسة المستر اليوت، وقد رفض المنصور علي التوقيع على المعاهدة التجارية المقترحة؛ الأمر الذي حفز السير هوم على التوجه جنوبًا، ونجح في توقيع مُعاهدة صداقة مُذلة مع سلطان لحج أحمد بن عبدالكريم العبدلي، كان لها ما بعدها.

أدت تلك الأحداث، المتبوعة أصلًا باحتكار الأمريكان لتجارة البن، وجميع تجارة اليمن الخارجية، إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية، لترفع الصراعات الداخلية وسوء الإدارة من وتيرتها، وجعلت المنصور علي يلجأ إلى زيادة الضرائب؛ فعم الغلاء، وكثر البلاء، وزادت حوادث السرقة، والسلب، والنهب، وقطع الطرقات.

وصف اللورد فالنتيا ــ وهو رحالة أوربي ــ المنصور علي بأنَّه ضعيف الإرادة، واهن العزيمة، الأمر الذي انعكس سلبًا على مَسار الدولة القاسمية؛ فدخلت مرحلة الضعف، في الوقت الذي كانت فيه الدولة السعودية في قمة عنفوانها، قامت الأخيرة بعد 61 عامًا من تأسيسها بِعدّة عمليات توسعية شملت مُعظم مناطق الجزيرة العربية، وصلت في إحداها إلى مشارف صنعاء، وهددت دولة الإمامة بالزوال.

كانت التوسعات السعودية في الغالب على حساب الدولة العثمانية؛ وهو الأمر الذي دفع الأخيرة  للتحرك، فأسندت المهمة لواليها على مصر محمد علي باشا، وقد وصلت بالفعل طلائع القوات المصرية - التركية إلى ميناء جدة أواخر عام 1811م.

توالى وصول قوات محمد علي إلى شبه الجزيرة العربية تباعًا، وتمكّنت من التوغل في صحراء نجد، والوصول إلى الدرعية، ونجحت بعد سبعة أعوام من قدومها الأول في القضاء على دولة آل سعود الأولى 11 سبتمبر 1818م، وذلك بعد حروب وخطوب يطول شرحها.

توجهت القوات المصرية - التركية بعد ذلك جنوبًا صوب المخلاف السليماني، فأسقطته بدون قتال ديسمبر 1818م، وامتدت سيطرتها من أبي عريش إلى زبيد جنوبًا، لتصل بعد ذلك كُتب محمد علي، وابن أخيه خليل باشا - قائد تلك القوات - إلى صنعاء، مُؤذنة بالمصالحة مع الدولة القاسمية.
     
جعل خليل باشا تهامة تابعة لسُلطات الدولة القاسمية، وحصر آل خيرات بإمارة أبي عريش، جاعلًا عليها الأمير علي بن حيدر، على أنْ يكون تابعًا للمهدي عبدالله بن المُتوكل أحمد، وقيل غير ذلك، والأكيد أنَّهم فرضوا على الأخير دفع جزية سنوية للباب العالي، قدرت بـ 3,000 قنطار من محصول البن، و200,000 ريال فرنصي، وهو الوضع الذي استمر لـ 13 عامًا، وقد وجد محصول البن خلال تلك الفترة طريقه عبر القوافل البرية إلى مصر، ثم استانبول؛ وهو الأمر الذي مهد لإضعاف دور ميناء المخا.   

وهكذا، وبعد قرنين من إنهاء التواجد التركي الأول في اليمن، عادت الأخيرة شكليًا لتبعية الدولة العثمانية، فيما أمر والي مصر محمد علي باشا قواته بالرجوع، مُكلفًا إياها بإقامة حاميات في المخا، والحديدة، وزبيد، ممهدًا للعودة إلى تلك الجهة مرة أخرى، وهو ما تحقق بعد مرور 15 عامًا كما سيأتي.
     
وفي أواخر عام 1820م قاد الإنجليز حملة عسكرية على المخا، قصفوا المدينة الساحلية بالمدفعية، وسووا مبانيها العتيقة بالأرض، بذريعة أنَّ الحاج فتيح - عامل الإمام فيها - أهان آمر طراد بريطاني، رغم أنَّ هذا الأخير سبق أنْ أهان العمال اليمنيين، وتسبب بنهبهم للوكالة البريطانية في الميناء.
     
سارع المهدي عبدالله بعزل وحبس فتيح، إلا أنَّ الإنجليز أرادوا مُعاقبة العامل على طريقتهم الخاصة، فحاصروا المدينة لأربعة اشهر، ليلتقي بعد ذلك قائد حملتهم المفوض بالعامل الجديد، الذي استقبلهم استقبال الفاتحين، وتضمن اتفاقهما مطلبًا يقضي باعتذار وتحقير العامل المعزول، ومعاقبته بأي شكل يراه الإنجليز مُناسبًا، لتتجه أنظار الإنجليز بعد هذه الحادثة صوب ميناء عدن، مُعلنين بدأ العد التنازلي لانهيار ميناء المخا العريق.
     
تبدت بعد ذلك طموحات محمد علي باشا الاستقلالية، وبلغت قوته وسياسته التوسعية حدها الأقصى، وأصبح يسيطر على منطقة شاسعة تمتد من تخوم الحبشة، مرورًا بوسط الجزيرة العربية، واليمن دون باب المندب، والخليج، وصولًا إلى مشارف الأناضول، وبرضى بريطانيا العظمى، التي سريعًا ما قلبت له ظهر المجن، وقيدته بشروط قاسية، وأعادته - كما سيأتي - إلى نقطة الصفر.

سيطر المصريون تحت قيادة إبراهيم يكن (ابن أخت محمد علي باشا) على سواحل تهامة، وميناء المخا 1835م، وأنعشوا على حساب الأخير ميناء الحديدة، وباعوا البن للأمريكان على حساب الإنجليز، وتقدموا بعد عامين صوب المناطق الوسطى (تعز، وإب)، وقد نظموا - كما أفاد صاحب (الحوليات) - أمورهن، و«عمروا المدن والأسواق، وأمنت البلاد، وكثر المال في أيدي الأراذل»، وأحب الناس الأمير إبراهيم، وبالغوا في الثناء عليه، ووصفه بالكرم، وسعة المعرفة في الفقه والشريعة. 

احتل بعد ذلك الإنجليز مدينة عدن يناير 1839م، فاضطر محمد علي باشا لسحب قواته من اليمن مايو 1840م، بعد أنْ حددت معاهدة لندن نفوذه وحكمه في ولاية مصر، سُلمت تهامة للأمير حسين بن حيدر، وصار الأخير حاكمـًا لها باسم الدولة العثمانية، وأعطي لقب (أمير الأمراء)، وامتد حكمه من حدود المخا إلى حدود بيش، أما المناطق الوسطى فقد ظلت مسكونة بالفوضى، محكومة بالفراغ.

كان للشيخ يوسف عون الشرجبي حينها شبه سيطرة على بعض المناطق الوسطى، وقد نجح الإنجليز - عام احتلالهم لعدن - في استقطابه، وقد تعهد لهم قائلًا: «وسوف أفعل كلَّ ما يُرضى الإنكليز، ولن تكون هناك كلمتين»، وبمساعدته حولوا تجارة البن إلى ميناء عدن، وأتبعوا ذلك بتخفيض الضرائب؛ كسبًا لتجار المناطق الأخرى، وهي الطريقة التي أصابت ميناء المخا في مقتل.

بعد مرور عشرة أعوام، وبعد أنْ فشل حسين بن حيدر في إخماد التمردات التهامية، وكبح الغزوات القبلية، والتوسعات الإمامية، استنجد بالأتراك، فأرسل له الأخيرون جيشًا قوامه 3,000 مُقاتل أبريل 1849م، فابتدأ بذلك التواجد العثماني الثاني، الذي سيطر بادئ الأمر على سواحل اليمن الغربية، وجبال ملحان، وبُرع.

أكمل الأتراك ما بدأه المصريون، وأنعشوا ميناء الحديدة على حساب ميناء المخا الخاضع أيضًا لسيطرتهم، وجعلوه ميناء الولاية الرئيسي؛ ولهذا السبب، وللأسباب السابق ذكرها، فقد ميناء المخا دوره، وهجره التجار، وطمست عوامل التعرية، وقذائف الطليان والإنجليز أبرز معالمه، وشوه عتاولة التهريب تاريخه.

ملاحظة:
لم يكن اختيار الحقبة الزمنية لمسلسل (ربيع المخا) اختيارًا مُوفقًا، فالقرن التاسع عشر الميلادي شهد - كما سبق أنْ ذكرنا - انهيار ذلك الميناء العريق، وهي المرحلة التي حق تسميتها بـ (خريف المخا).
 


Create Account



Log In Your Account