الوحدة المَغدورة.. والحلم المُؤجل
السبت 21 مايو ,2022 الساعة: 09:45 مساءً

بعد تحقيقهم للوحدة اليمنية، افتقر شركاء الإنجاز إلى حسن النية، والثقة بالآخر، ودخلا بعد أشهر عسل مَعدودة في صراع ليس أيدلوجي بقدر ما هو مَصلحي؛ تاجروا من خلاله بأحلام البسطاء ومشاعرهم، وفصلوا الدولة على مقاساتهم، وظل كل طرف يتربص بالأخر؛ بدليل عدم إدماج الجيشين، وسعي كل فريق إلى تعزيز قدراته العسكرية، وإلى تأمين دعم داخلي وخارجي له، بما يشبه الاستعداد المُسبق لأي طارئ قد يزيح هذا الطرف أو ذاك.
     
كل المُؤشرات كانت بعد انتهاء الفترة الانتقامية (الانتقالية) تؤكد أنَّ الحرب قادمة لا محالة؛ فالرئيس علي عبدالله صالح لم يكن قادرًا على تنفيذ وثيقة العهد والاتفاق؛ كونها في اعتقاده تهدف إلى تفكيك قواه، وخلق صراع بينه وبين حلفائه (التجمع اليمني للإصلاح)، في حين بدأ نائبه علي سالم البيض وقلة من أعضاء الحزب الاشتراكي يمهدون للانفصال، بذرائع واهية؛ منها استحالة التعايش مع القوى السياسية في الشمال، وأنَّ الاستمرار في الوحدة الاندماجية سيؤدي إلى التخلص منهم نهائيًا.
     
لم تصدق حينها النوايا؛ فانفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة 4 مايو 1994م، وخاض صالح تلك الحرب تحت مسمى (الشرعية الدستورية)، مُتجاهلًا هو وحلفائه أنَّ الوحدة الحقيقية لا تقوم على تلك الشرعية فقط، وأنَّ الثقة المُتبادلة المتبوعة بوحدة المشاعر والهوية هي الأساس.
     
وهكذا، ورغم الدعم المهول الذي حظي به الحزب الاشتراكي من قبل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ حسم صالح المعركة لصالحه خلال 65 يومًا، مُخيبًا توقعات المُحللين العسكريين، وصار بذلك الحاكم الأوحد، وبيده مَقاليد كل شيء.
     
وبدلًا من أنْ يعمل الحاكم الأوحد على بناء دولة حقيقية، يسودها العدل والتسامح، ويحكمها الدستور والقانون، أعاق قيام الدولة بوظائفها، وضاعف من سياسته الفوضوية التسلطية الإقصائية، وتعزيزًا لهيمنته أوجد في الأطراف قيادات مصلحية رخوة، على حساب قيادات تاريخية قوية، تم التخلص منها تدريجيًا بالتهميش أو الاغتيال.

وحارب رأس المال الوطني على حساب تجار طارئين صنعهم بنفسه، قدم للأخيرين التسهيلات تلو التسهيلات، وسمح لهم بإدخال بعض المواد الاستهلاكية دون جمارك، حارمًا خزينة الدولة من مردود كبير. وعلى ذات النهج الإقصائي صنع مُقاولين عشوائيين على حساب مقاولين متمرسين، لهم باع طويل في التشييد والإعمار، وصارت المُناقصات أوراق رابحة بيد الأكثر قُربًا وقربانًا.
     
كما فكك وحدات القوات العسكرية الجنوبية المُنظمة، وهمش الجيش الوطني، على حساب قوات أخرى لا يتجاوز غالبية قوامها محيطه القبلي، جاعلًا أقربائه على رأسها، مُوزعًا اليمن بينهم كإقطاعيات. وتأكيدًا لتلك المهزلة المُتجذرة أفادت أحدى الدراسات أنَّ ذلك الجيش العائلي القبلي حوى بين أفراده أكثر من 14,000 ضابط وصف ضابط من محافظة ذمار وحدها، في حين حوى 250 ضابط وصف ضابط من محافظة حضرموت، والأخيرة أكبر محافظات الجمهورية، وتملك مقومات دولة!
     
كرد فعل على فشل الوحدة الاندماجية، وبعد 17 عامًا من تحقيقها؛ أسس العميد المُتقاعد ناصر النوبة الحراك الجنوبي 7 يوليو 2007م، وقاد ورفاقه من أعضاء جمعية المُتقاعدين العسكريين والأمنيين عدة مسيرات مطلبية، كانت في البداية احتجاجًا على إخفاق الحكومة في مُعالجة أوضاعهم، ومع مرور الوقت تحولت إلى مسيرات صاخبة داعية إلى المُساواة، وإزالة عوامل التهميش، ومُعالجة المشاكل العالقة والمُتراكمة منذ إعلان الوحدة، وبعد حرب صيف 1994م على وجه الخصوص.
     
تحولت القضية الجنوبية بفعل تلك التحركات الميدانية إلى مشروع مُسيطر يُمسك بزمامه أكثر من طرف، واتجه الحراك الجنوبي - حامل تلك القضية - بشكل مُطَّرد، وبفعل سياسات النظام الخاطئة نحو التجذّر والاستقواء بالداخل وبالخارج على السواء، ووصل إلى أقصى درجات الخطورة بتجاوزه ذلك التأطير المطلبي إلى رفع شعارات انفصالية ذات بعد مناطقي مقيت، واستهداف مُباشر ومقصود لـمُمتلكات مواطنين شماليين، وهكذا صار البعد الانفصالي جليًا تحت مسمى (الجنوب العربي)، باعتبارها هوية مُتميزة، وهي تسمية انجليزية صرفة، ليس لها ذكر إلا في المراجع التي وثقت للسنوات الأخيرة للاحتلال البريطاني للجنوب.
     
لم يعترف صالح بالمشكلة، ورفض تبعًا لذلك جميع الحلول التي وضعت بين يديه، كما أنَّه لم يتبن أي مُعالجات للاختلالات الاقتصادية الكبيرة، ولم يتقارب مع قوى المُعارضة المُشتتة، أو أقام معها شراكة حقيقية لإنقاذ البلاد والعباد؛ حتى فُوجئ بالحراك الشعبي الشامل الذي لم يكن يتوقع أنْ يصمد في وجهه 11 فبراير 2011م، أو أنْ ينتهي بطي صفحته في الحكم وإلى الأبد.
     
انضمت مُعظم فصائل الحراك للثورة الشبابية، وتَخلَّت مُؤقتًا عن رفع شعاراتها الانفصالية؛ ليُعقد في العاصمة المصرية القاهرة المؤتمر الجنوبي الأول 20 نوفمبر 2011م، حضرته قيادات جنوبية من العيار الثقيل، كان علي ناصر محمد، وحيدر أبو بكر العطاس أبرزهم، وفي الوقت الذي حظي فيه الأخيرين بدعم سعودي، حظي البيض وحسن باعوم بدعم إيراني، ولم يمض من الوقت الكثير حتى انفردت السعودية وحليفتها الإمارات بالمشهد، وصارتا اللاعبتان الرئيسيتان بالحراك وبالدولة.
     
لم يكن تولي عبدربه منصور هادي مقاليد الحكم في الـ 21 فبراير 2012م إلا بداية الانحدار الصعب صوب الهاوية، فقد جاء الرجل الضعيف من خارج دائرة الحكم التقليدية؛ الأمر الذي عجل بتشكل تحالف سُلالي قبلي مناهض لحكمه، وأشعر المُراقبين باستحالة أنْ يتخلى المركز عن نزعته التسلطية.
     
صحيح أنَّ ذلك التحول الهش كان في لحظاته الأولى إيجابيًا؛ بفعل وجود بعض الشرفاء في الهيكل الإداري للدولة، والحماس الجماهيري التواق للتغيير، إلا أنَّ المُبادرة الخليجية - من صنعت ذلك المشهد - نجحت في تحويل الثورة الشبابية إلى أزمة سياسية، ثم تخلصت تدريجيًا من الشرفاء، وفككت ما تبقى من دولة، وكان المُستفيد الأكبر من ذلك إيران وحلفائها الإماميين.
     
كان مُؤتمر الحوار الوطني الانجاز الأكبر لذلك التحول، له انحنت الحكمة اليمانية، وفيه تقاربت وتضاربت وجهات النظر، وكانت مُخرجاته أقرب لبنود وثيقة العهد والاتفاق التي سبق أن انقلب الطرف الأكثر تسلطًا عليها. 

تمت في مؤتمر الحوار الوطني مُناقشة بقاء الوحدة، على اعتبار أن ليس لها وبصيغتها الجديدة (الدولة الاتحادية) من خيار سوى الاستمرار، وهي - أي الدولة الاتحادية - في الأصل حلم مُؤجل، وامتداد للنموذج الحميري القديم، حيث نجح هؤلاء قبل أكثر من 16 قرنًا بتوحيد اليمن فيدرالـيًا، وحمل ملوكهم التبابعة اللقب الطويـل (ملك سـبأ، وذو ريدان، وحضرموت، ويمنت).
     
في غمرة انشغال الأطراف المعنية اليمنية بالحوار، وتنفيذ مخرجاته، وصياغة دستور اليمن الجديد، تسلل القديم (الإماميون الجدد)، وقادوا جحافلهم المُتوحشة للقضاء على الجمهورية اليمنية، وعلى الدولة الاتحادية وهي لم تحقق أهدافها المُعلنة بعد، وهو الأمر الذي أربك المشهد، وأدخل اليمن واليمنيين في دوامة مُنهكة لم يخرجوا منها حتى اللحظة.
 


Create Account



Log In Your Account