الثلاثاء 17 ديسمبر ,2024 الساعة: 02:08 مساءً
في مثل هذا اليوم، السابع عشر من ديسمبر لعام 2010، أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، ليشعل بها نارًا أكبر تحرّكت في صدور الملايين، نارًا حرّكت الشعوب في أرجاء العالم العربي وأسقطت المستبدين. تلك النار، التي أشعلت الحناجر بالصراخ والميادين بالغضب، لم تكن تلك النار مجرد لهب يلتهم جسدًا، بل كانت لحظة تاريخية، لن تنطفئ أوارها ما دامت أسبابها قائمة، وستظل حية في ذاكرة الشعوب، وستظل تتقد إلى أن يتحقق ما خرجت لأجله.
كانت تلك اللحظة كأنها ولادة مكتملة لشعور غاضب ظل يتأجج طويلًا حتى استوى على نار الاحتجاج. سبق البوعزيزي كثيرون ممن أحرقوا أجسادهم احتجاجًا على الظلم والحرمان، لكن لحظة الاكتمال لم تكن قد حانت بعد. إنها لحظات نادرة، لا تأتي إلا بعد أن تستوفي شروطها، فتفتح معها أبواب التغيير، وتعلن قدوم زمن جديد للشعوب والأفراد ،إن لحظة الثورة كزرع يحتاج لمواسم حتى يثمر، ولم تكن لحظة البوعزيزي إلا نضج الثمرة التي انتظرها الجميع دون أن يدركوا.
من جسد البوعزيزي تدفّقت النار لتحرق الصورة الكرتونية للقلاع الاستبدادية وتسقط العصا البوليسية التي كان الدكتاتور يتكئ عليها. لم نكن نعلم أن دابة الفساد قد نخرت هذا البناء حتى أسقطته. هبّت الشعوب صارخة: “لو كنّا نعلم ما ظللنا في العذاب المهين!” كانت صرخة تاريخية، تعيد ذاتها مع كل نظام ظالم وكل جسد يحترق من القهر.
تتكرر هذه اللحظة ذاتها في سوريا، لحظة تداعى جبروت الديكتاتور ، وسقطت منسأته كما سقطت في تونس من قبل ، لحظة تقدم الثوار يحترقون بشوقهم للحرية ، فتهاوت حصونه وتبخر جبروته ، إنها لحظة استواء الثورة ، اكتمال بدرها ، ثلاث عشرة سنة كانت كافية لصنع جيل جديد لم يتنفس سموم الاستبداد الأسدي، تيه الشمال السوري انبت جيل قوي النفس عزيز الكرامة ، فعبد ان خرج من عباءة المستبد ، ليعود لدمشق ، فاتحاً ، انها لحظة الاحترام للقدر حين تنحني إرادة الظالم أمام إرادة الشعوب، بعد صبر طويل ومعاناة ممتدة.
بيد إن ما تلى لحظة الميلاد ، كانت قاسية ، فلحظة الاستواء لم يشتد عودها بعد؛ لكن التجارب والآلام والفشل والصعود والهبوط صنعت دروسًا وعبَرًا، تؤسس للعبور الثاني، حيث العود يستوي ويصلب، فلا مجال للفشل هذه المرة. إن العقول التي حملت الثورة يجب أن تتهيأ لمعارك أصعب وأدق، معارك تتطلب وعيًا، وصبرًا، وحنكة لا مكان فيها للسذاجة السياسية.
لقد كانت لحظة البوعزيزي لحظة “أوربكية” كما وصفها مالك بن نبي؛ لحظة فارقة سبقت استعداد العقل العربي لفكفكة المصطلحات السياسية، ولإتقان أدوات الانتقال من ضفة الاستبداد إلى الديمقراطية. القفزة كانت كبيرة والمران كان غائبًا، ففقد الجسد الثوري توازنه. لم يكن يمتلك الأدوات اللازمة للصراع مع الثورة المضادة، ولم يستوعب خبث خصومه ومكرهم. للأسف، أُديرت الثورة بشيء من السذاجة، تلك السذاجة التي لا يعترف بها منطق السياسة ولا قوانين الصراع.
فلم تكن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحدها كافية لجماهير أرهقها الجوع والحرمان. دفعتهم سنوات البؤس الطويلة إلى أحضان الثورات المضادة حين لم تمتلك القوى الثورية المرونة واللباقة السياسية. الدخول في صراع على مراكز التأثير قبل تفكيكها وتحويلها إلى مراكز محكومة بالقانون كان خطأ آخر، خطأ سمح للقوى الخشنة، من جيش وأمن ومال، بإعادة بناء استبداد جديد، بوجوه جديدة ولغة مختلفة.
واليوم، لحظة سوريا هي لحظة “حرّائية” جديدة، جاءت في وقت استثنائي، عندما كان الغرب يتفاوض لإعلان انتصار بشار كحلّ لأزمة اللاجئين. في تلك اللحظة، أرسل الجولاني رسائله إلى خلاياه جنوب دمشق: “ساعة الصفر قد اقتربت”. وما إن دقت طبولها حتى كانت حوافر الخيل تقرع أبواب دمشق في لحظة أخرست الجميع، وأذهلت العالم. إنها لحظة لم تزل مستمرة، لحظة حافظت على عقلانيتها وجاذبيتها وهدوء رجالها، حتى باتت أكبر من مجرد نصرٍ عسكري أو سياسي.
إنها لحظة تأمل كبرى، ونحن نرى شعبا مُسجى تحت دثار الخوف، وجغرافيا تحول الوطن الذي من المفترض يمنحك الامان والدفء الي مسلخًا كبير يلتهم ما تبقي لك من كرامة وانسانية ، إنها لحظة تستحق التأمل والتفكر في مصير الشعوب، ونحن نتعبد قراءة كتاب كريم، خصّ ثلاث آياته للصراع مع الديكتاتور، ولأساليبه ووسائل الخلاص منه.
هذه لحظة للعرب عامة، ولسوريا خاصة. لحظة يجب أن تُختَم بالنجاح، ذلك النجاح الذي لا يُبنى إلا على أركان راسخة من العدالة والحرية والديمقراطية والأمن.