الأربعاء 17 سبتمبر ,2025 الساعة: 10:58 صباحاً
في إحدى ليالي رمضان، وأنا بعد في مقاعد الثانوية، وجدت نفسي أمام كتاب بنيامين نتنياهو “مكان تحت الشمس”. لم يكن الأمر مجرد مطالعة عابرة، بل وقفة طويلة أمام نصوص شعرت أنها ليست تنظيرًا سياسيًا عاديًا، بل مشروع حكم ينتظر لحظة التطبيق. كنت على يقين أن هذه الكلمات ستتحول يوما ما إلى سياسات واقعية، وأن الرجل الذي كتبها سيحكم إسرائيل وفق هذه الرؤية. واليوم، وأنا أتابع مسار الأحداث، أجد أن ما قرأته حينها بعين المراهق صار واقعًا دمويًا يعيشه الفلسطينيون كل يوم.
الكتاب الذي أعاد نتنياهو صياغته لاحقا لم يكن عملا فكريا بريئا، بل إعلان برنامج سياسي متكامل. جوهره يقوم على الأمن باعتباره قضية وجودية مطلقة، لا مجرد شأن سيادي أو إداري. منطق نتنياهو أن إسرائيل محاصرة دائما، وأن أي تنازل جغرافي يعني تعريتها أمنيًا. بهذا تحوّل الأمن إلى دين دولة، يبرر كل أشكال الحرب والتوسع. هذا ما نراه اليوم في سياساته تجاه غزة والضفة، حيث تقدم القوة باعتبارها الطريق الوحيد لردع الخصوم وصناعة ما يسميه “السلام الدائم”.
الأخطر أن الكتاب رسم صورة الفلسطيني كجزء من منظومة “الإرهاب العالمي”، لا كشعب له حق سياسي. ومنذ البداية، نزع نتنياهو الشرعية عن التمثيل الفلسطيني، وأرسى قاعدة تقوم على أن لا دولة للفلسطينيين، بل سيطرة إسرائيلية كاملة على الأرض. هذا ما نراه اليوم في رفضه العلني لحل الدولتين وتبجحه بإفشال أي محاولة لتحقيقها.
النصوص نفسها أكدت ضرورة السيطرة على الأغوار وإقامة أحزمة أمنية حول القدس. واليوم تتحول هذه التصورات إلى سياسات استيطانية تقطع أوصال الأرض الفلسطينية وتجعل الدولة مجرد وهم. الاستيطان بالنسبة لنتنياهو ليس عمرانًا، بل سلاحًا استراتيجيًا يغير الجغرافيا ويفرض واقعًا غير قابل للتراجع.
في هذا السياق وجد نتنياهو أن الواقع العربي الممزق فرصة ذهبية لتطبيق ما نظّر له في كتابه. الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا، والانقسامات العميقة في الإقليم، والتطبيع المتسارع لبعض العواصم العربية، كلها عوامل وفّرت له فراغًا استراتيجيًا لم يحلم به أسلافه. كذلك مثّل الانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة ذريعة مثالية لتسويق أطروحته بأن الفلسطينيين غير مؤهلين لبناء دولة، وبالتالي لا يستحقونها. أما داخليًا، فقد حوّل الانقسام الإسرائيلي نفسه إلى وسيلة للبقاء، إذ قدّم نفسه كقائد الضرورة الذي يوحد المجتمع خلفه في مواجهة “الخطر الوجودي”، مستخدمًا الحرب في غزة وإيران لتكميم معارضيه. أما على المستوى الدولي، فقد استثمر انشغال الغرب بأزماته ليقدّم إسرائيل مجددًا بوصفها الحارس الأمين للحضارة الغربية.
إلى جانب ذلك، قدّم نتنياهو في مكان تحت الشمس إسرائيل باعتبارها خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية. هذا التصور لم يبقَ في حدود التنظير، بل صار محورًا في علاقاته الدولية. فمن واشنطن إلى العواصم الأوروبية، قدّم نفسه حارسًا للغرب، مستثمرًا سردية الصراع الحضاري لتبرير الحروب وتحصيل الدعم السياسي والمالي والعسكري، حتى وهو يواجه اتهامات دولية متصاعدة بانتهاكات واسعة في غزة.
الجانب التوراتي من الكتاب يكشف عن بعد أعمق في عقيدته، حيث تتحول الأرض إلى ميراث أبدي والقدس إلى حق مقدس لا يقبل المساومة. هكذا دعم نتنياهو خطاب المستوطنين واليمين الديني، وحوّل الصراع إلى معركة دينية وجودية، ترفع سقف العنف وتغلق أبواب السياسة.
وللأسف، نحن العرب لم نقرأ جيدًا، ولذا لم نُهَيِّئ أنفسنا ولم نستعد لمواجهة مشروع كان مكتوبًا بوضوح منذ عقود. في حين واصل منظرو الصهيونية إعلان خططهم بلا مواربة وتحالفوا مع التيار الإنجيلي الصهيوني، وجدوا في غفلتنا فراغًا مثاليًا. دونالد ترامب كان نموذجًا صارخًا لترجمة هذه العقيدة حين اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وأيد ضم الجولان.
ويبقى الواجب أن نعود إلى الشعوب، فهي القوة الوحيدة القادرة على قلب المعادلة. لا بد من فعل إبداعي يصالح الشعوب مع حكامها، ويجبر السلطات على التراجع عن كبريائها وعنجهيتها، وإلا فإنها ستخضع لسنة التاريخ التي لا ترحم، والتي تنتصر للشعوب في لحظات اليأس والذل. وسنن الله في التاريخ لا تحابي أحدًا، بل تنحاز لمن ينهض من غفلته ويكسر قيوده. الشعوب حين تدرك قوتها قادرة على كتابة مستقبل جديد، كما فعلت أجيال سبقتنا في لحظات مفصلية.
إن نتنياهو لم يكن يومًا أسير اللحظة، بل أسير نصه الأول. وما نراه اليوم في غزة والضفة الغربية ليس ارتجالًا ولا تكتيكًا، بل تنفيذ حرفي لخطة كتبت منذ عقود. قراءتي للكتاب في رمضان لم تكن مجرد تجربة شخصية، بل نافذة على المستقبل الذي نعيشه اليوم. أما الدرس الأكبر، فهو أن الأمم التي لا تقرأ تُدار بمشاريع غيرها، وأن الشعوب التي لا تنهض ستظل مجرد تفصيل في نص كتبه الآخرون، حتى يأذن الله ببعث جديد تُصنع فيه المعادلة بأيدي الجماهير المؤمنة بحقها في الحرية والكرامة.