سيكولوجية الولاية: شمال اليمن بين متلازمة الجُبّة ومركب الإمامة
الأحد 06 أبريل ,2025 الساعة: 08:15 صباحاً

في شمال اليمن، حين تحاول فهم من يحكم ومن يُخبر ومن يقاتل ومن "يتزين بالمذهب"، فأنت لست أمام مشهد سياسي طبيعي. بل أنت أمام رواية مذهبية لها منطقها الخاص، تحكمها سيكولوجية "الحاكم المعصوم" و"الشعب الزاهد في حريته"، وتديرها جهات تتقن لعبة الثأر و"تقديس الجُبّة" أكثر مما تتقن إدارة مزرعة دجاج.

طبعا صعدة وصنعاء وعمران وحجة والجوف… تلك ليست مجرد محافظات، بل ممالك صغيرة يديرها الهاجس الزيدي. من صعدة، تأتي فكرة أن الولاية حق مقدس، وأن السلالة لا تتساوى مع بقية الناس، ولو في الرغيف أو الكفن.

صنعاء، من جهة أخرى، تجيد التعايش مع كل حاكم طالما يحكم باسم "الله"، حتى وإن كان أقبح من إبليس. أما عمران وحجة، فهما مزيج عجيب من القبيلة والإمامة، تحركهما الغنيمة أكثر من القضية.

أما الجوف، فهي نسخة عن صعدة، لكن مع نزعة صحراوية أكثر فوضوية، ترى في المذهب هوية بديلة عن غياب الدولة، وتقدس اللصوصية ما دامت بعمامة.

وفي الزاوية الأخرى، تأتي المحويت، ذراع "الإبلاغ والتجنيد الأخلاقي"، فهناك ترى تاريخا حافلا بـ"رجال يخبرون عن رجال"، صحافيو ظل، أدباء وشعراء مُكرسون لتزيين الجريمة السياسية بقصائد مديح رديئة ومواويل تمجد إماما لا يعرف الفرق بين الكهرباء والبرق.

أما ذمار؟و آه من ذمار… مصنع الزوادة والزاد، ليس فقط للمقاتلين، بل للمثقفين الذين يبيعون مقالاتهم لمن يدفع أكثر. مدينة أنتجت أعظم الشعراء وأعظم البائعين. كما فيها تختلط  المقابر بالمقابر، فيما تخرج المليشيات من الجامعات كما يخرج الدخان من البراكين.

لكن حين تُطل على مأرب والبيضاء، فثمة شيء مختلف. هناك لا مكان للانبطاح والاستلاب .
مأرب، مدينة صنعت ذاتها خارج حسابات الولاية، وفيها يقف التاريخ الحديث ليقول: لا لكل ما له علاقة بالسلالة. مأرب، حيث القائد يرفض منطق العمامة السوداء العنصرية، والناس يقاتلون للدفاع عن كرامتهم وحريتهم.

أما البيضاء، فهي في موقع الوسط، لكنها لا تسقط في الفخ، تارة تقاتل الح..وثي، وتارة تحاربه بالذاكرة، فلا تنسى كيف دخلت قبائلها في حروب ضد الإمامة منذ عقود.

كل هذه الصورة تقودنا إلى نقطة جوهرية: المذهب الزيدي ليس مجرد طائفة، بل مشروع سياسي بامتياز. لا يطلب المشاركة، بل يطلب الوصاية. لا يقبل المواطنة، بل يُصر على الاصطفاء الوراثي. بل هو ليس فقها،  قدر ما هو هوية سلطوية تتجسد في سلوك الحاكم والمحكوم على حد سواء.

بمعنى أدق فإن السيكولوجية الحاكمة في شمال اليمن ليست ناتج نظام جمهوري حقيقي ولا تراكما ديمقراطيا بل هي بقايا من تراث نفسي عتيق يقول: الحاكم ابن "سيد"، والمعارض مجرد "قبيلي غاضب".

هذه العقلية تجعل من الثورة "فتنة"، ومن المقاومة "ردة"، ومن الجمهورية "كذبة نرددها كي لا نحترق".!

لكن أغرب ما في الأمر أن من يزعمون الثورية من أبناء الشمال غالبا ما ينتهون إلى خدمة نفس المشروع الإمامي، ولكن بـ"هاشتاغات" جديدة. 
يرتدون البدلة بدل العمامة، لكنهم يُقسمون على الولاء لـ"الحق الإلهي"، بشكل ما، ولو من خلال صمتهم عن الجريمة.

والسؤال المنطقي الذي يتكرر: لماذا لا نرى مأربيا أو بيضاويا أو تعزيا ينادي بـ"الإمام"؟ الجواب في الهوية لا في السياسة. لأن مأرب والبيضاء وتعز ترى اليمن وطناً، بينما يراه آخرون "ملكية خاصة". لأن مأرب والبيضاء وتعز البيضاء تتذكر الجمهورية، بينما نسيها الشمال تحت أنقاض "ولاية الفقيه بصنعاء". 

أما الحقيقة المُرّة هي أن الإمامة لم تهزمها البنادق، بقدر ما هزمها الضمير. !
وأن من يُقاتل اليوم لاستعادة الجمهورية، لا يفعل ذلك من صنعاء ولا من المحويت، بل من مأرب والبيضاء وتعز… من الأطراف التي كانت مهمشة، لكنها بقيت شريفة، ولم تنبطح لمركب "العرق الطاهر".

وللتذكير ففي إب، حاولوا إخضاعها كما أخضعوا كل شيء. جعلوها أوقافا لهم، ورجالها الاحرار ملك يمين في فقه فاسد لا يعرف للحرية معنى.
أي أنهم حاولوا تدجينها بمزاج زيدي يتقن الالتفاف على الكرامة باسم "الرضا"، لكنها بقيت حرة، كجبالها، كصباحها المبلل بالشعر. 
ذلك أن إب لا تُباع، ولا تُشترى، ولا تُضم في سجلات الأئمة مهما حاولوا.

أما تعز، فهي الخنجر في خاصرة الولاية. لا تُقاتل من أجل الرغيف، بل من أجل الكرامة. هي روح الجمهورية، وسُم المذهب الزيدي، ذاك المذهب الذي لا يحتمل من يرفع الصوت ويكتب القصيدة ويقرأ كتاب الفقه بعيون ناقدة. تعز، التي كسرت شوكة العمامة، لا تزال شوكة في حلق الكهنوت، لا تعرف الانبطاح، ولا تركع إلا لرب واحد.

لنخلص إلى أنه ،ما لم يتحرر الشمال من وهم "الحكم السلالي"، فكل نصر سيكون مؤقتا. فيما لا تحتاج صنعاء إلى جيوش، بل إلى جرأة أن تنظر في المرآة وتقول: "كفى خرافة، وكفى عبودية للقبيلة الهاشمية الوافدة المقدسة".


Create Account



Log In Your Account