بلد قيد "التشليح"!
الخميس 10 أبريل ,2025 الساعة: 10:21 صباحاً

على وقع الحملة العسكرية الأمريكية على الحوثيين في الشمال، هناك هجمات متبادلة بين طرفي التحالف في الجنوب.

مظاهر هذه الأزمة تبدو واضحة من خلال الصراع الصامت الذي يجري الآن في حضرموت والمناطق الشرقية من البلاد.

مقابل تصعيد رئيس المجلس الإنتقالي بنبرته المتوترة أثناء زيارته لحضرموت، نهاية مارس، يقود عمر بن حبريش تصعيداً مضاداً من خلال حلف قبائل المحافظة.

الأول عاد من الإمارات متوعداً بإخضاع الحضارم، والثاني استدعته السعودية فعاد من هناك رافضاُ لمشروع الانتقالي، ويحمل دعماً سعودياً لمطالب بالحكم الذاتي لحضرموت!

هذا التنازع بين الحليفين المتنافسين يجري على أرض الكيان القانوني للجمهورية اليمنية، وعلى حسابها، وضداً على وحدة أراضيها، وعلى مرأى ومسمع من قيادتها ونخبها وأحزابها السياسية ومكوناتها المختلفة!

يبدو أن الحفر العميق للحليفين لإحياء صراعات الماضي، والاستثمار فيها، لن يتوقف عند إعادة السلاطين والمشيخات كما يبرز في مشروع الانتقالي، بل سيبعث تطلعات قديمة للمزيد من التقسيم، وتحقيق أطماع الدولتين.

لم تغضب السعودية عندما شكلت الامارات المجلس الانتقالي الذي يدعو إلى تقسيم البلاد في قلب معركة "استعادة الدولة من الانقلابيين الحوثيين "، كما زعمت الدولتان، وفي ذروة الخطاب السعودي الممجد لوحدة أراضي اليمن!

حصل الانتقالي وقتها على تسهيلات سعودية، ثم سمنته أبو ظبي على عين الرياض، حتى إنه سيطر على العاصمة المؤقتة عدن، وطرد حكومة الرئيس الشرعي برعايتهما لاحقاً في أغسطس 2019.

في أعقاب ذلك، منحت الرياض أبو ظبي امتياز السيطرة على مختلف المحافظات الجنوبية بما في ذلك "أرخبيل سقطرى"، وسعت لترسيم ما يشبه حدود نفوذ لكلا الدولتين في تلك المناطق.

ما يغضب الرياض الآن هو اقتراب الانتقالي كقوة نفوذ إماراتية من حدودها الجنوبية الشرقية، لذلك تحاول اللحاق بالإمارات، وتقويض وجود أبو ظبي هناك، أو الحد منه؛ ليس بدعم الدولة اليمنية المفترضة، بل بوضع السكين على رقبتها.

هناك ما يمكن وصفها بعملية " تشليح" تتعرض لها اليمن شعباً وموارد وجغرافيا؛ تشليح لا يتحرج المتدخلون الإقليميون والدوليون من ممارسته، ولا يثير ذلك حفيظة أيِّ من قوى البلاد ونخبها ومكوناتها.

تفاخر الإمارات بأنها درّبت 200 ألف جندي في اليمن؛ ليس بين هؤلاء جندي واحد يتبع وزارة الدفاع، ولا وزارة الداخلية اليمنية الرسمية.

تلك  الأعداد الهائلة من الجيوش والتشكيلات المسلحة استخدمتها أبو ظبي لبسط نفوذها في المحافظات الجنوبية والشرقية، وتصفية الحكومة الشرعية، أو السيطرة على الشريط الساحلي الطويل من المكلا إلى ما بعد الخوخة.

هي قوات فرض امتثال وإخضاع لأجندة من يدفعون مرتباتها، تشبه تلك التي جندتها بريطانيا أثناء استعمار الجنوب، وتؤدي وظائف مشابهة.

أما الرياض فتحاول تدارك ما فاتها بعد إخفاقها في احتواء الانتقالي، وتسابق الزمن لبناء تشكيلات عسكرية موالية، نشرتها في حضرموت والمهرة، وها هي تلعب بورقتها القبلية الأخيرة.

ما هو لافت أن الدولتين اللتين تبطشان بالجماعات الدينية في البلدين، تعملان على استنبات نسخ أكثر تشدداً في اليمن.

هناك سعي مشترك لكلا الحليفين لبناء جيوش"سلفية"، ولكلٍ منهما نسخته، والغريب أن هذه التشكيلات تحظى برضا أحزاب علمانية، وبعضها تلقت دعماً علنياً من هذه الأحزاب في أوقات سابقة!

ذلك لا يخرج عن كونه جزءاً من مهمة "تشليح" علني لليمن.

يشيع استخدام مفردة "التشليح" في دول الخليج، وينصرف معناه اللغوي والتداولي إلى اللصوصية والسرقة، وأخرى تعني "التعرِّي".

بدقة أكبر، هذا المصطلح غالباً ما يُستخدم في التداول اليومي للتعبير عن تفكيك المركبات والسيارات المتهالكة، وبيعها قطعاً لإعادة استغلالها في سيارات مستعملة، وصهر حديد ما تبقى منها.

شخصياً أميل إلى استخدام وصف "تشليح" في هذه المقالة بمعناه المنصرف نحو تفكيك المركبات، وإعادة استخدامها قِطعاً، فاللصوصية والسرقة دائما ما تُوحي بالتخفي، بينما هذا التشليح في الحالة اليمنية يحدث بصورة علنية، وعلى مرأى أصحاب "الحلال"!

اقتطع الحوثي جزءاً من البلاد، وحوَُله إلى مِنصة إيرانية كاملة. لاحقاً صار ترساً في آلة حربية يديرها الحرس الثوري لحماية نفسه ونفوذه في المنطقة.

في الجهة المقابلة، طوَّعت الشرعية نفسها لتكون لافتة يختبئ خلفها التحالف ومشاريعه التمزيقية قبل أن يمسخها إلى قِطع متنافرة يستخدمها كلا الحليفين لمصلحته.

تبسط الإمارات سيطرتها على الجُزر وتبني القواعد، وتبرم اتفاقات تعاون عسكرية باستخدام الأراضي اليمنية مع دول دون أن يُشاركها أحد.

كما، من خلال هذه الهيمنة، تسيطر على الموانئ والمنشآت الحيوية والإستراتيجية دون أن يرتفع في وجهها صوت واحد ممن يسمون أنفسهم "القوى الوطنية".

من جانبها، تعيد الرياض بناء نفوذها من خلال الأذرع العسكرية السلفية على الأرض، فيما لا يعرف أحد ما الذي تفعله بالضبط على حدود برية مترامية تصل الى 1500 كيلو متر.

هذه المساحات الشاسعة من البلاد تقع تحت السيطرة المباشرة أو غير المباشرة  لدولتي التحالف، وهي متنوّعة تتوزَّع بين السهول والجبال والسواحل والجُزر الإستراتيجية.

لاشك أن هذه المناطق غنية بالثروات المختلفة، والموارد والمعادن، وهي بعيدة عن أنظار اليمنيين، أو يتقاضى بعضهم فتاتاً من المصالح لقاء غضّ النظر، ولا أحد يعلم ما الذي حدث فيها طيلة عشر سنوات من الحرب!

إن "التشليح"، الذي تتعرض له البلاد، لا يقتصر على مساعي فصل الجنوب عن الشمال، بل تشليح الجنوب نفسه إلى مناطق وجهات ومشاريع، وتشليح الشمال أيضاً بعد النجاح، بواسطة الحوثي وحلفائه، في تقسيمه طائفياً.

تتجلى صوة هذا التشليح في حالة الجنوب الآن، والتباينات داخل الانتقالي نفسه بمكوناته العسكرية المحلية ذات الطابع المناطقي والقوى المناوئة له، وفي قوى الشمال المنقسمة بين السعودية والإمارات وإيران.

وفي أقصى الشرق، تتحيَّن عُمان فرصتها بولاءتها القبلية ومخاوفها الأمنية من التمدد السعودي الإماراتي.

لقد كنا أكثر الشعوب ادعاءً ومفاخرة بالكرامة القومية. تغنينا دوماً بأن اليمني لا ينام على ضيم، وأنَّ أنفته وكبرياءه يجعلاه عصياً على الخضوع. فضحتنا الحرب، وبيَّنت أن ذلك لم يكن سوى نرجسية مُدّعاة.

عندما قُتل حسن نصر الله، قال الحوثيون إنهم مستعدون للتضحية باليمن عن بكرة أبيها؛ "فداءً" له.

ولا زالت صورة ذلك القيادي، الذي حاول "التبرك" بتقبيل يد حارس الصريع حسن، تحدثنا عن ابتذال وتبعية شخصية الحوثي، وعن اعتداده بعلاقة التبعية بأسياده الذين يزدرونه، ومنحوه وأنصاره صفة "شيعة الشوارع".

وفي مطلع السنة الثانية للحرب، ظهر ضابط وشيخ كبير من الجنوب في اجتماع موسع مع ضابط في القوات الإماراتية بعدن بوضع مخزي.

ربما لم يخطر ببال الضابط "الضيف" ما سيسمعه، لعله توقع أن يتلقى كلمات شكر، أو شيئا من هذا القبيل؛ لكنه سمع العبارة التالية من الضابط اليمني الجنوبي: "شلوا الجنوب للإمارات"!

قالها هكذا بكل بساطة، كما لو كان هذا الجنوب مجرد كبش يُنحر، ويُقدم حنيذاً  للضيوف!

منذ ذلك الوقت، وقبله، تعرَّفت أبو ظبي والرياض أكثر على صنف الرجال الذين تتعامل معهم، وافتتحت شهيتهما أكثر للمزيد. لا فرق هنا بين قيادات عليا يؤجِّرون مواقعهم وصفاتهم، ولا ناشطين مبتذلين على الشبكات الاجتماعية، يبيعون كل شيء بحُفنة ريالات.

نقلاً عن موقع قناة بلقيس


Create Account



Log In Your Account