السبت 26 يوليو ,2025 الساعة: 04:09 مساءً
مع بدايات الاجتهاد السياسي الحديث في الفكر الإسلامي، سعى عدد من المفكرين الإصلاحيين، وفي طليعتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا، إلى تأصيل قيمة الشورى بوصفها ركيزة أساسية في شرعية الحكم. وقد تطورت هذه الجهود من التنظير لـ"شورى مندوبة" إلى الإصرار على إلزاميتها كضمانة ضد الاستبداد وتجسيد لمبدأ المشاركة.
وفي المقابل، ظل التيار السلفي التقليدي متمسكًا بمفهوم الشورى "المُعْلِمة لا المُلزِمة"، مستندًا إلى الفهم الموروث القائم على مركزية الحاكم الفرد وطاعة ولي الأمر.
شخصيًا، كنت من المتحمسين للقول بإلزامية الشورى، وعددت القول بإعلاميتها تبريرًا للاستبداد. لكن مؤخرًا، أدركت أن الجدل المحتدم حول "إلزامية الشورى" ينطلق من خلطٍ منهجي بين مفهومي الشرعية والمشروعية في الفقه السياسي الإسلامي.
شرعية السلطة ومشروعيتها: التمييز الغائب
في أصل المفهوم، ترتبط الشرعية بتأسيس السلطة: من أين تستمد حقها في الحكم؟ أما المشروعية فترتبط بممارسات هذه السلطة: هل تلتزم بالعهود والقوانين والمؤسسات التي تعاقدت مع الأمة على احترامها؟
فآية: {وشاورهم في الأمر}، مثلًا، وردت بعد تحقق السلطة وتمكينها، لا أثناء تأسيسها. أما تأسيس السلطة الشرعي، فيرتبط – كما يشير ابن تيمية – بموافقة جمهور الأمة. وقد فرّق بدقة بين بيعة الاختيار التي يرشح فيها عدد من أهل الحل والعقد شخصًا للحكم، وبين بيعة الانعقاد التي لا تتم إلا بمبايعة الجمهور.
ويقول ابن تيمية عن بيعة أبي بكر:
"لو قُدّر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة".
وقد سبقه في هذا المعنى الإمام الغزالي، حين فرّق بين بيعة عمر لأبي بكر بوصفها ترشيحًا، وبين تحقق الولاية بمبايعة الجماهير. وهذا التوجه نجده أيضًا عند أبي بكر الأصم، وجميع مدارس المعتزلة والخوارج، الذين جعلوا إجماع الجماعة هو أساس الشرعية، وإن اختلفوا في أدواته، بل إن اسم أهل السنة والجماعة يعكس موقفهم من شرعية الاجتماع السياسي، وإيمانهم بعدم جواز الخروج على الجماعة الممثلة لإرادة الأمة.
وبالتالي، فإن موافقة الأغلبية المعتبرة هي أصل الشرعية، بينما تُستدعى الشورى في هذا السياق كآلية تنظيمية لاختيار المرشح قبل انعقاد البيعة، كما يفهم من قول عمر بن الخطاب:
"من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يُتابع هو ولا الذي تابعه".
أي أن الشورى تكتسب قيمتها في تأسيس السلطة بصفتها أداة ترشيح، لا بصفتها مصدرًا للشرعية.
الشورى أساس لمشروعية القرارات لا لشرعية السلطة
بعد نيل الحاكم شرعيته من الجماعة، تصبح مشروعية قراراته مرتبطة بالتزامه بالعقد السياسي والنظام الدستوري الذي تأسست عليه ولايته. وهنا تدخل الشورى بوصفها أداة إجرائية ملزمة، عند وجود نص أو تعاقد قانوني يُلزم بالرجوع إليها.
فالشورى، بحسب القرآن، تتعلق بـ"الأمر" و"الرأي" لا بتأسيس الحكم:
{وشاورهم في الأمر}،
{وأمرهم شورى بينهم}.
وبذلك، يكون الإجماع العام هو أساس الشرعية السياسية، و تكون الشورى أصل مشروعية الأمر التنفيذي الذي يجب أن ينضبط بالعقد الاجتماعي والتشريعات الصادرة عن مجالس الممثلين للشعب و مجالس الخبراء. ويبدو أن هذا التفريق بين الشورى كأصل لمشروعية الأمر وإجماع الأغلبية المعتبرة كأصل لشرعية السلطة كان واضحًا عند أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال “الدين يسر والخلافة بيعة والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ"
من الإلزام الذاتي إلى الإلزام التعاقدي
إن القول بإلزامية الشورى كقيمة إيمانية لا يُنتج أثرًا قانونيًا ما لم تُدمج في عقد سياسي أو دستور مكتوب. فالإلزام في الدولة الحديثة لا يتحقق من القيم المجردة، بل من آليات تعاقدية ملزمة. وعند تحول إلزامية الشورى إلى صيغة تعاقدية فإنها ستكتسب إلزامية دينية أكثر وضوحًا ترتبط بنص الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
وبذلك، فإن الشورى تصبح ملزمة لا لأنها قيمة أخلاقية فقط، بل لأنها بند تعاقدي منصوص عليه. كما في الشركات والنقابات والدساتير: إذا نُص على التصويت الجماعي أو على الرجوع إلى البرلمان، صار القرار ملزمًا قانونًا لا أخلاقيًا فقط. فلا نستطيع الجزم بأن الشورى لذاتها معلمة أو ملزمة.
تفكيك الجدل المثالي
حين طرحت هذه الفكرة على أحد المؤمنين بإعلامية الشورى، قلت له:
"لو أنشأنا شركة، ونصّت اللائحة على وجوب موافقة الجمعية العمومية، فهل يحق للرئيس تجاهلها؟" فقال: "لا". فقلت: "هذا هو الإلزام القانوني، وهو ما تفتقده الشورى حين تُطرح كقيمة دون تعاقد" وهو لا يتناقض مع القول بأن الشورى في الأوامر التنفيذية التي لا ينص العقد على ضرورة المشاورة حولها.
واتخيل الآن أني أسأل أحد المؤيدين لإلزامية الشورى المطلقة:
- هل نتائج استطلاعات الرأي ملزمة للحكومات الديمقراطية؟
- هل هل من المنطقي أن يُلزم الرئيس بالرجوع للبرلمان في كل صغيرة؟
- هل يجب عليه دائمًا تبني رأي المستشارين؟
ماذا تعني الإجابة بالنفي على هذه الأسئلة؟
هذا يعني أن : "الشورى لا تلزم لأنها شورى، بل تلزم إذا صارت بندًا في العقد السياسي".
عقد سياسي لا عقد أزلي
العقد السياسي في التصور الإسلامي ليس عقدًا جامدًا، بل هو عقد متجدد، هدفه تحقيق المقاصد الكبرى:
* منع الاستبداد،
* تقاسم السلطة والثروة،
* ضمان التداول السلمي،
* حماية الحريات،
* وتعزيز الرقابة والتنمية.
لذلك، فإن التمسك بإلزامية الشورى دون نظام تعاقدي واضح يجعل من الشورى شعارًا نظريًا يُجهض عند التطبيق.
نحو فقه سياسي واقعي
إن تجاوز هذا الجدل يتطلب الانتقال من:
-الشورى كقيمة أخلاقية،
- إلى الشورى كنظام قانوني مؤسسي.
ولا معنى للقول بإلزامية الشورى دون نصوص دستورية تُلزم بها، كما لا معنى للقول بإعلاميتها إذا نُصّ عليها في العقد السياسي كأداة إلزامية.
الوفاء بالعقود هو ما يجعل الشورى ملزمة، لا مجرد الاجتهاد في القول بإلزامتها، وهو ما يمنح الفقه السياسي الإسلامي أفقًا جديدًا يتجاوز:
المثالية المجردة في التنظير، والواقعية الساذجة في التبرير.
ليتطور نحو تأسيس عقد اجتماعي حديث يضبط علاقة الأمة بالسلطة، على قاعدة:
الشرعية، والمشروعية، والالتزام.
نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك