الإثنين 11 أُغسطس ,2025 الساعة: 11:15 صباحاً
كامتدادٍ للجدّ عبد الوهاب محمد الطيب، الذي كان ينثر حكاياته الليلية – المستقاة من أحداث التاريخ والأساطير الشعبية – في مسمع حفيده بلال محمود الطيب، يصبّ هذا الرافد الصغير في ذات الامتداد التاريخي، كمنطلقٍ لهذا السفر، الذي شكّلت امتدادات تدفّقه كلَّ الروافد السبتمبرية وروافد الحركات الوطنية.
الحرب غير المتكافئة
يستقصي الكاتب بلال الطيب – بأسلوبه الصحفي – أسبابَ ونتائجَ هذه الحرب غير المتكافئة بين الحاكم وما كان يُعرف بـ"الرعية"؛ فالحاكم يمتلك كلَّ أسباب القوّة، بينما لا يمتلك الرعية سوى قوتِ يومهم، الذي تغيّر عليه كتائب "الخطاط" – وهم العساكر وجُباة الإتاوات، وعساكر البقاء، وجحافل "المخمّنين" و"الكاشفين" وغيرهم – الذين يداهمون القرى، ويمكثون فيها أيّامًا، لا ينتزعون لقمة العصيد من أفواه الجوعى فحسب، بل يشترطون بالقوة تقديم الذبائح لهم.
الاستشهاد الشعري
ولأن الكتاب في مجمله استقصائيٌّ بحت، لا يقتصر على المادة التاريخية فحسب، فقد عمد الكاتب – في استقصائه لهذه المرحلة الممتدة قرونًا عديدة – إلى توظيف الاستشهادات الشعرية كلسان حال شعبيّ يدوّن الحدث، ويرفده ببواعث حيّة لمشاعل الحركة الوطنية والهَبّات الشعبية، ويترك الباب مفتوحًا للدراسات الأكاديمية – التاريخية منها والاجتماعية والاقتصادية – لتسبر أغوار هذا الاستقصاء الصحفي التاريخي الثقافي الاجتماعي النضالي الاقتصادي.
المنطلق... عتبات الكتاب
يمثّل الغلاف والعنوان – الرئيس منه والفرعي – أهمّ عتبات الدخول إلى تفاصيل الكتاب، إذ إن الكتاب كائنٌ جدليٌّ استشرافي، لا يمكنه المضيّ مع قارئه إلا بعد أن يجتاز الأخير هاتين العتبتين الجدليّتين: جدلية اللوحة والتشكيلة الغلافية، بمكوّناتها ومدلولاتها الرمزية.
وأوّل سؤالٍ ينبغي أن يوجّهه القارئ: من أنت أيها الكتاب؟
فيجيب الكتاب عن هذا السؤال بإيجاز: "ها أنا بين يديك، قلْ ما تريده أنت".
ومن هنا يبدأ منطلق القراءة الجدلية، من تكاثف العنوان الذي يمثّل الصدمة النفسية الكامنة بين قوسيْ: "الحرب" و"العصيد"؛ العصيد كوجبةٍ شعبيةٍ تبحث عن سلامها الحياتي والمعيشي، وبين السخرية السياسية اللاذعة التي تشنّ هجومها على الأولى. ومن ثَمَّ يتفرّع – خارج قوسيْ هذه العلاقة – البُعدُ الجنائي، الذي يُحمّل الإمام يحيى حميد الدين المسؤوليةَ الكاملةَ عن الجرائم التي ارتكبها ضد اليمنيين، إذلالًا وجوعًا وتشريدًا؛ فمن لم يمتْ بالسيف، ماتَ مهانًا بالجوع.
ملامح حرب العصيد
كتاب "حرب العصيد" استقصائي يتمحور حول بؤرة مركزية في اسم جنس جمعي هو العصيد، باعتباره وجبة شعبية أساسية في كل المناطق اليمنية.
إنها وجبة الحياة، ومصدر دفئها ومعاشها، ومنطلق قوتها وعنفوان مقاومتها. وفي لغة الفيزياء، طاقة حيوية متجددة مخزونة في هذه الكتلة – المتكوّنة من الطحين المخلوط بالماء الساخن – وفقًا لمعادلة آينشتاين.
بوابة المتن
ما إن يفتح القارئ هذه البوابة حتى يجد نيران الحرب المستعرة – بالأسلحة التقليدية، أو بفلول العساكر الذين يداهمون القرى – تلفح وجهه. يتبعها زخات من نسائم عنفوان التحرر من هذا الاستبداد.
هشاشة متعالية
الكتاب – من عنوانه وعبر فصوله ومصادره ومراجعه – يوثّق هذه الحرب التي ترى في "تماسك العصيد واستقرار حقولها" هشاشةَ وضعها كسُلطةٍ تزعم أنها خُلقت متعالية على كل ما عداها.
وعي جماهيري
كتاب "حرب العصيد" – في استقصاءاته التاريخية واستشهاداته الشعرية، بفصيح قولها وشعبية حكمها ورؤاها – يؤسّس لوعي جماهيري شعبي طال انتظاره. وهو يستدعي، من مقدمة ابن خلدون، العصبيات التي يتموسق على جذورها نظام الحكم العربي، ويعزو الصراعات إلى سيادة عصبية واحدة تكون لها الغلبة.
الإمامة والقبيلة.
يستدعي الكاتب الجدلية الخلدونية التي "أعادت إنتاج كوارثنا السياسية وقضت على حلمنا (حلم اليمن الاتحادي الكبير)".
ومن منطلق مقولة محمد جابر الأنصاري: "فتّش عن القبلية"، يفتّش الكاتب في مناطق اليمن الشمالية، التي قوّضت بنيتها التراتبية وثقافتها التمييزية إمكان بناء الدولة الحديثة، ليبيّن أن العلاقة بين الإمامة والقبيلة هي علاقة شركاء، لا علاقة حاكم برعايا، وهي القواعد التي أسّس عليها الأئمة جيوشهم.
وقد أدّى هذا "الزعم المقدس" – كما يورد الكاتب – إلى خلق مبررات عقائدية جعلت الفيد دينًا، والتسلط رجولة، وأغرقت المناطق بالجهل المقدس، من خلال تسيدهم على كل شيء واحتقارهم للأعمال الزراعية، التي لا يألون جهدًا في انتزاع لقمتها من أفواه الجوعى حتى هذه اللحظة.
فصول الكتاب الأربعة
في فصول الكتاب الأربعة، ثمة تشابه – قصد إليه الكاتب أم لم يقصد – مع دورة التقويم الزراعي. فمن وجهة نظري، يؤصّل هذا التقسيم صورة الحرب التي يشنها من يزعم أنه الحاكم المقدس على دورات الحياة بكاملها. وكما تتغيّر أحوال المناخ في الطبيعة، تتبدّل أحوال الناس، فيبتكرون الأدوات اللازمة لمواجهة الفناء، ويتشبّثون بالحياة بعزّةٍ وإباء.
الكتاب في فصوله الأربعة يوثّق هذا الصراع، بدءًا من صراعات المناطق الوسطى – إب، تعز، الجُحرية – في الفصل الأول، مرورًا بصراعات المناطق الجنوبية والشرقية – الضالع، لحج، البيضاء، أبين، شبوة – في الفصل الثاني، ثم صراعات المناطق الغربية والشمالية – ذمار، ريمة، المحويت، الحديدة، حجة، صعدة، نجران، عسير، جيزان – وصولًا إلى صراعات لقمة العيش التي تُشنّ على الرعية (المواطنين) عبر جحافل "الخطاط" و"التنافيذ"، من الحسبة والقباض والتخمين، إلى آخره.
الكتاب يدور بنا في دوائر هذه الحرب، حرب العصيد، كجناية يتحمّل مسؤوليتها الإمام يحيى حميد الدين على اليمنيين، وما يزال هذا الصراع محتدمًا حتى اليوم.
خاتمة
إن مكر التاريخ – بالمفهوم الهيغلي – وفناء الدولة المرتبطة بالقبائل، وفقًا لمقولة بول دريش التي أوردها الكاتب، يؤكّدان اليوم – أكثر من أي وقت مضى – أن الدولة المرتبطة بالقبيلة مآلها الزوال.