الأحد 24 أُغسطس ,2025 الساعة: 01:05 صباحاً
فيينا وجدت نفسها مؤخرا أمام حكم قضائي غير اعتيادي، حين أقرت إحدى المحاكم المدنية إنهاء نزاع مالي عبر التحكيم بمرجعية الشريعة الإسلامية. تباينت الأراء حول الحكم ، بين من يراه خرق لعلمانية الدولة واخر انتصارا لحق المسلمين في اختيار قانونهم في قضايا محمية بموجب الدستور النمساوي ، والحقيقة بعيدا عن الجدل لم يكن حكم المحكمة انقلابا على علمانية الدولة أو خروجا على الدستور، بل تأكيدا لمبدأ راسخ في القانون النمساوي: حرية الأطراف في اختيار القانون التي يحتكمون إليها، حيث يعترف النظام القانوني النمساوي بالتحكيم القائم على الرضا بوصفه طريقا مشروعا لإنهاء النزاعات.
فالقضاء النمساوي يستند هنا إلى قاعدة أساسية: أن العدالة لا تعني فقط الاحتكام إلى المحاكم الرسمية، بل تعني كذلك تمكين الأفراد من تسوية نزاعاتهم عبر آليات بديلة إذا ما ارتضوا ذلك ، وفقا لقانون الإجراءات المدنية ، فاتفاق التحكيم بوصفه إحالة نزاعات حالية أو مستقبلية إلى هيئة خاصة، والقوانين في الغالب تجيز للأطراف تعيين القانون الذي يطبق، بينما تمنح القضاء حق الرقابة عبر مبدأ النظام العام الذي يمثل الحد الدستوري الفاصل. بهذا التوازن، يصبح التحكيم القائم على الرضا جزءا أصيلا من المنظومة القانونية، وليس استثناء يهددها.
فلسفة القانون في جوهرها تقوم على البحث عن التوازن بين الحرية والنظام، بين إرادة الأفراد وسيادة الدولة. ومن هنا يبرز التحكيم بوصفه أداة تجسد هذه الفلسفة؛ فهو يقوم على رضا الأطراف وحرية اختيارهم للقواعد التي تنظم معاملاتهم، لكنه لا يتحول إلى نظام مستقل أو بديل عن الدولة، لأن القضاء يظل حاضرًا كحارس للعدالة ، وظيفة القاضي في هذا السياق ليست إعادة الفصل في جوهر النزاع، بل مراقبة سلامة الإجراءات وصيانة المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها الدستور. فإذا التزم التحكيم بضمانات الدفاع والمساواة ولم يمس مبدأً أساسيًا من النظام العام، فإن العدالة تكون قد أُنجزت لا عبر حكم الدولة وحدها، بل عبر تكامل بين الحرية الفردية والرقابة القضائية.
ولا يمكن فهم هذا الحكم بعيدا عن السياق التاريخي للعلاقة بين النمسا والإسلام. فالنمسا كانت من أوائل الدول الأوروبية التي اعترفت رسميًا بالإسلام دينًا معترفًا به عام 1912 بموجب قانون الاعتراف بالإسلام، بعد انضمام البوسنة والهرسك إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية. وقد عزز هذا الاعتراف لاحقًا في قانون الإسلام لعام 2015، الذي منح المسلمين وضعًا قانونيًا كمجتمع ديني مع حقوق تنظيمية في التعليم والشؤون الدينية. هذا الإطار يعني أن الإسلام في النمسا ليس مجرد واقع اجتماعي، بل حقيقة مؤطرة في القانون، ما يفسر استعداد القضاء لعدم استبعاد المرجعيات الإسلامية من المجال القانوني، خاصة في نطاق التحكيم القائم على الرضا. وهكذا فإن حكم فيينا يجد بيئة تشريعية وأخلاقية مهيأة للاعتراف بخيارات الأطراف المسلمين، دون أن يُفهم ذلك على أنه خرق للعلمانية، بل كتجسيد للتعددية التي رسّختها الدولة منذ أكثر من قرن.
الأثر المستقبلي لهذا الحكم يتجاوز النزاع المالي المحدد، فهو يفتح المجال أمام خبراء القانون والمحاكم لتطوير فقه قضائي يوضح الحدود الفاصلة بين حرية اختيار القانون والنظام العام. قد نشهد في السنوات القادمة تزايدا في لجوء الأقليات الدينية إلى التحكيم بمرجعياتها الخاصة، ليس فقط في القضايا المالية، بل ربما في مجالات أخرى قابلة للصلح. وفي كل مرة سيبقى السؤال حاضرًا: إلى أي مدى يمكن السماح بحرية الاختيار قبل أن نصطدم بجدار النظام العام الذي يحمي المساواة والكرامة؟
وإذا كان هذا هو الحال في النمسا، فإن التجارب الأوروبية المجاورة تقدم صورا متباينة. ففي فرنسا مثلا ، ورغم اعتراف القانون المدني بالتحكيم، إلا أن تقاليد العلمانية الصارمة تجعل القضاء أكثر تحفظا تجاه أي إشارة للتحكيم الديني، إذ يرفض القضاة أي أثر يُدخل قواعد الشريعة أو غيرها إلى المجال العام ولو عبر التحكيم، ما دام هناك مساس محتمل بالمساواة. على النقيض، تبدو ألمانيا أكثر انفتاحًا؛ فهي، مثل النمسا، تسمح بالتحكيم القائم على رضا الأطراف، لكنها تشدد على رقابة النظام العام وتحظر أي حكم يتعارض مع الحقوق الأساسية المنصوص عليها في القانون الأساسي.
هذا يعني أن حكم فيينا، وإن بدا استثنائيا، ليس معزولا عن نقاش أوروبي أوسع حول التعددية القانونية في ظل الدولة العلمانية. وبين النموذج الفرنسي المتشدد والنموذج الألماني المرن، تقف النمسا اليوم في موقع وسط: تسمح بحرية اختيار القانون في مجال التحكيم، لكنها تبقي النظام العام دستوريًا خطًا أحمر. وهكذا فإن مستقبل هذا الحكم سيُقاس بمدى نجاح القضاء في الموازنة بين الحرية الفردية وصيانة المبادئ التي يقوم عليها الدستور.
يبقى السؤال في النهاية أكبر من نزاع مالي أو حكم قضائي في فيينا: هل تستطيع الدولة العلمانية في أوروبا أن تتسع لتعدد المرجعيات القانونية دون أن تفقد وحدتها الدستورية؟ إن الاعتراف بحرية الأطراف في اختيار القانون، حتى لو كان مرجعية دينية، هو اختبار حقيقي لقدرة الأنظمة الحديثة على التوفيق بين الخصوصيات الثقافية والالتزامات الدستورية. فإما أن يتحول هذا الاعتراف إلى فرصة لترسيخ العدالة بروح أكثر شمولا، أو أن يقرأ بوصفه تهديدا يفاقم التوتر بين الدين والدولة. في كل الأحوال، يبدو أن حكم فيينا أعاد فتح الباب أمام نقاش سيظل حاضرا في قلب أوروبا اليوم أو غدا ،فهل تكفي مراقبة النظام العام لحماية الأسس الدستورية، أم أن التعددية القانونية ستفرض على العلمانية أن تعيد تعريف نفسها؟ الحكومة النمساوية أمام تحدي حقيقي في التعاطي مع هذه السابقة القضائية ، سواء احترامها كجزء من التطبيق القانون ، أمام ستسعي الي إحداث تعديل يمنع تحرارها.