السبت 06 يوليو ,2019 الساعة: 10:31 مساءً
مصطفى ناجي
ملخص تنفيذي
على عکس العديد من الدول الغربية، تحافظ روسيا على تواصلها مع جميع أطراف الحرب اليمنية، فهي تعترف بالحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، ولكنها لا تُدين جماعة الحوثيين المسلحة، وعلى صعيد متصل يؤكد دبلوماسيو الدولة الروسية، دعمهم ليمن موحدة، ولكن لا مشكلة لديهم بلقاء المناصرین للانفصال من الجنوب، وعلى الجانب الآخر، ترفض موسكو اتهامات السعودية لإيران بتسليحها جماعة الحوثيين، دون أن يؤثّر ذلك على مساعيها لكسب ود شيوخ الخليج في نفس الوقت، وترسيخ الشراكات الاقتصادية والدفاعية مع السعودية والإمارات، حليفة السعودية الأولى في حرب اليمن.
تعكس هذه المقاربة الروسية نقلة برغماتية تأخذ بروسيا بعيداً عن الاستراتيجيات التي توجهها الأيديولوجيا، حيث كانت تلك إحدى السمات التي عُرِفت بها في الحقبة السوفيتية، وكانت تحديداً ما رسم ملامح علاقتها مع اليمن، فما كان في الماضي توجهات تقودها المطامح الشيوعية بات اليوم محكوما بالواقع السياسي والانتهازية السياسية تحت رئاسة فلاديمير بوتين، كما أن الصعود الروسي الجديد كان إقراراً بأن الانسحاب من المنطقة في أعقاب الحقبة السوفيتية، ترك روسيا في موقع يصعب منه حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية المتوارثة مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية وزعزعة الربيع العربي عام 2011 لأسس التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واليوم تسعى روسيا لتقديم نفسها كوسيط دولي قوي بالتعامل مع جميع الأطراف اليمنية الداخلية والإقليمية.
لا زالت هذه الإحلام الروسية تواجه بعض التحديات، فالسعودية، الجهة الأبرز في الحرب اليمنية، قد تجاهلت حتى الآن عروض روسيا بالدخول كوسيط في الحرب اليمنية، ومن الواضح أن المملكة، أسوةً بحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، لا تزال متوجسة من علاقات روسيا الوثيقة والقديمة مع إيران، في حين تبقى الأمم المتحدة إحدى الأدوات التي تحاول روسيا توظيفها لتحقيق مآربها الاستراتيجية في اليمن، ولو أن روسيا قد عبرت عن امتعاضها مما ترى أنها جهود أمريكية خارج إطار الأمم المتحدة تسعى من خلالها لصياغة حل للیمن يتماشى مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية. يمكن أن تمثّل الجهود الروسية، في حال آتت ثمارها، مكسباً اقتصادياً، فضلاً عن الانتصار الجيوسياسي الذي يبقى في النهاية الغاية الأهم في نظر موسكو، فإذا ما كان للدولة الروسية أن تنسب الفضل لنفسها في جلب السلام إلى اليمن، تستطيع موسكو أن تستعيد شيئاً من نفوذها في أحد خطوط الشحن الرئيسية الذي يمر بالشرق الأوسط والقرن الأفريقي، وبالنظر إلى استراتيجية روسيا في اليمن في سياق سياساتها الخارجية الأعم في منطقة شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يمكن توضيح ما تستطيع روسيا تقديمه وما تستطيع الظفر به.
علاقة اليمن التاريخية مع موسكو
فرصة على جبهات الحرب الباردة
تعود جذور العلاقات اليمنية-الروسية في العصر الحديث إلى عام 1928 بتوقيع اتفاقية صداقة وتعاون بين المملكة المتوكلية، التي أقامت أسسها ذاك الوقت في شمال اليمن، وبين الاتحاد السوفيتي،، وقد استغرقت العلاقات بين الطرفين ثلاثة عقود، قبل أن تثمر عن افتتاح موسكو لبعثتها الدبلوماسية في تعز، تخللها إرسال أول شحنة أسلحة روسية عام 1956.
اشتملت مشاريع التنمية الاقتصادية التي نفذها الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت على بناء ميناء مياه عميقة للأغراض التجارية على سواحل البحر الأحمر (ميناء الحديدة)، وعندما سقطت الملكية في شمال اليمن وأعلن قيام النظام الجمهوري نهاية عام 1962، اتجه الاتحاد السوفيتي إلى إقامة علاقة دبلوماسية كاملة الأركان مع النظام الجمهوري الذي حل مكانها في شمال اليمن، وافتتحت موسكو سفارة لها في صنعاء، وعين كل بلد سفيراً له في البلد الآخر، واستمرت جهود موسكو، سواء في الحقبة المتوكلية أو الحقبة الجمهورية، بالمساهمة في مشاريع حيوية في قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية على مدار ستينات القرن الماضي في شمال اليمن.
بحلول عام 1967، كانت موسكو في الموقع المثالي للعب دور الأخ الأكبر للحكومة الجديدة في جنوب اليمن التي تشاركها ميولها الماركسية مع انسحاب بريطانيا من جنوب البلاد بعد استعمار دام لما يزيد عن القرن. وبالفعل أبرم الطرفان اتفاقيات أعطت الاتحاد السوفيتي الحق بوضع سفنه الحربية في عدن بالقرب من سقطرى، وهو ما كانت خطوةً استراتيجيةً سمحت لموسكو بتأمين مواقعها ومنحتها منصةً لتوسعة دائرة نفوذها في قرن أفريقيا. صارت السفارة السوفيتية في جنوب اليمن أكبر سفارات الاتحاد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط،، وصار جنوب اليمن الدولة الوحيدة في العالم العربي التي يحكمها نظام ماركسي.
لم تغفل موسكو أيضاً عن تقديم دعم عسكري للحكومة الجمهورية التي قامت في الشمال منذ البداية، واشتمل ذلك على إرسال مقاتلات حربية وعدد من الطيارين الروس الذين ساهموا في إنهاء حصار صنعاء الذي فرضه الملکیون لفترة دامت 70 يوماً. ولكن ارتباطاتها مع الجنوب لاحقا طغت على التزاماتها مع الشمال، وفي المقابل زاد اتكال شمال اليمن على السعودية والغرب.
بنهاية الثمانينات، في الفترة التي بدأت فيها شمس الاتحاد السوفيتي بالأفول، كان التعاون بين موسكو وصنعاء شبه معدوم، في حين استمر الجنوب بالاستفادة من الدعم السوفيتي الكبير الذي تجلى في مشاريع تنموية، وصفقات أسلحة، وغير ذلك من أشكال المعونات الاقتصادية، حيث شكّلت معونات موسكو المالية ما نسبته 50% من القروض الخارجية للجنوب قبل توحد شطري اليمن عام 1990.
تراجع النفوذ الروسي ودخول الجيوش الغربية
شهدت بداية التسعينات تغيرات عديدة نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي الذي خلفه اتحاد روسي ذو نفوذ جيوسياسي متواضع، وتوحد اليمنان تحت مظلة حكومة الشمال في صنعاء لتنتهي بذلك التجربة الماركسية في العالم العربي التي مثلتها عدن، لكن روسيا استطاعت أن تصون مستوى علاقاتها مع الجمهورية اليمنية الموحدة بفضل مساهماتها الكبيرة في جنوب اليمن، فأعلنت أنها أعفت اليمن رسمياً من 80% من الديون المترتبة عليها، والتي بلغت 6.4 مليار دولار عام 1999، وتوسعت مساحة التبادل الثقافي والتعاون الاقتصادي بين موسكو وصنعاء في العقد الأول من القرن الجديد، وبقيت صفقات الأسلحة عنصراً هاماً وحيوياً فيها، كما أن حجم التجارة بين البلدين، الذي شكلت الصادرات الروسية جزءا كبيراً منه، وصل إلى 178.9 مليون دولار في 2007، مقارنة بـ94.8 مليون دولار في 2006. ولكن نفوذ موسكو الجيوسياسي انكمش بعد انسحابها العسكري وتخليها عن قواعدها البحرية بما في ذلك قواعد عدن وسواحل سقطرى.
على الجانب الآخر، تعززت العلاقات الأمريكية-السعودية على أسس الاحتياجات النفطية وصفقات السلاح، بالرغم من الاختلافات الشاسعة بين القيم الأيدولوجية لكلا البلدين، منذ أن التقى الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت مع الملك السعودي عبد العزيز عام 1945، اضطر الحليفان إلى التصدي لمشكلة التشدد الإسلامي بعد تعرض المناطق السكنية التابعة للقاعدة الأمريكية العسكرية لهجوم أسفر عن قتلى عام 1996 في منطقة الخبر في السعودية، ومن ثم الهجوم الانتحاري على المدمرة الأمريكية USS Cole في عدن عام 2000، وبرزت أهمية وقوة التحالف الأمريكي-السعودي بصورة هائلة بعد هجمات القاعدة على مركز التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ الـ11 من أيلول/سبتمبر 2001، حيث كفل هذا التحالف للرياض تحاشي أي ردود فعل انتقامية بالرغم من الدور الرئيسي والمهم الذي لعبه أشخاص سعوديون في تخطيط الهجوم وتمويله وتنفيذه، وفي المقابل، لم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أي مقاومة تذكر من الرياض في تعزيز وجودها العسكري في الإقليم والمضي قدماً بما عرف “بالحرب على الإرهاب” بالشروط والكيفية التي أرادتها واشنطن.
أنشأت واشنطن قاعدة عسكرية في جيبوتي بعد فترة وجيزة من هجمات الـ11 من أيلول/سبتمبر لترسّخ بذلك نفوذها على امتداد أحد أهم الطرق البحرية – مضيق باب المندب بين جيبوتي واليمن، وقد وسعت وطورت الولايات المتحدة مخيم ليمونيه بصورة كبيرة منذ ذلك الحين، حيث يتمركز اليوم في المخيم ما يزيد عن 3 آلاف عنصر من أفراد القوات الأمريكية وحلفائها المختلفين. وكان هناك أيضاً المساعي الرامية للتصدي لانبثاق القرصنة الصومالية، فبدأت القوى البحرية الغربية بخفر البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، ونجحت هذه الجهود بإنهاء أزمة القراصنة الصوماليين في الفترة 2008-2012، وبقيت هناك لضمان العبور الآمن للسفن التجارية، ليستحوذ الغرب، بذلك، على ما كان في يوم من الأيام منفذاً بحرياً هاماً للغاية للسوفييت.
برر وجود تهديد القاعدة، ومن ثم ما عرف باسم “الدولة الإسلامية”، أو (داعش)، تدخل أمريكا بصورة مباشرة في الشؤون اليمنية لفترة وصلت إلى عقدين، وتخلل ذلك الكثير من الضغط الدبلوماسي وهجمات نفذتها طائرات بلا طيار، وصحيحٌ، في المقابل، أن روسيا صانت بل وحتى طورت علاقاتها الاقتصادية والثقافية مع اليمن، إلا أنها لم تعد لاعباً جيوسياسياً فيها.
روسيا تتبنى استراتيجية جديدة
لم تكن موسكو هي الوحيدة التي تفاجأت بحدة موجات الربيع العربي عام 2011، فالاحتجاجات الشعبية قد نقضت أسس المعادلات الجيوسياسية في كثير من البلدان وأسقطت أنظمة أوتوقراطية استحوذت على مقاليد الحكم منذ الحقبة السوفيتية، فقد انهار حلفاء موسكو القدماء، في حين يصارع من تبقى منهم في سوريا واليمن ومصر وليبيا للبقاء في السلطة، وفي ظل ذلك، كان لا بد من بلورة استراتيجية جديدة للتعامل مع هذا الواقع السياسي المتغير، استراتيجية، في حال آتت ثمارها، لها أن تهدي موسكو ما يكفي من نفوذها العالمي القديم لتستطيع إعادة فرض تأثيرها في هذه الحقبة الجديدة.
تتسم مقاربة روسيا اليوم بالبراغماتية والانتهازية، والتركيز أولاً وقبل كل شيء على المصالح الاستراتيجية طويلة المدى، ومنها الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية التي أبرمتها في السنوات الأخيرة، والتي تعزز أهدافها الجيوسياسية، فتبرم روسيا اليوم شراكات مختلفة، في قطاعات متنوعة مثل الطاقة والتصنيع والزراعة والأسلحة وغيرها، مع دول واقعة على امتداد الطرق التجارية عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر مررواً أيضاً بالمحيط الهندي، وكثيرٌ من هذه الدول تُعد من حلفاء للولايات المتحدة الأمريكية، أو تأثرت بتوسع النفوذ الأمريكي في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي.
لقد نأت روسيا بنفسها عن سياسات المعسكر الواحد لصالح مقاربة أكثر توازناً في سياق شركائها الإقليميين، فصحيحٌ بأنها وفيةٌ بالتزاماتها مع إيران حليفها التقليدي في سوريا، على سبيل المثال، ولكن هذا لا يثنيها عن محاولة موازنة هذه الميول بعرض خدماتها على السعودية أو الإمارات، واليمن، أحد نقاط المحيط الهندي على أهم المنافذ البحرية في العالم، ما هي إلا محور آخر تحرص موسكو على وضع قدم لها فيه.
البداية مع الأصدقاء القدامى
شكل التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 بداية جديدة لموسكو بعباءة صانع القرار السياسي في الشرق الأوسط، فقد شنت روسيا هجمات جوية استهدفت قوى المعارضة في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015، استجابةً لنداءات المساعدة العسكرية من الرئيس بشار الأسد، الذي كان يواجه ضغطاً هائلاً على الجبهات السياسية وأيضاً على الأرض.
استصلحت روسيا قاعدة حميميم في اللاذقية كمقر رئيسي لها وقت دخولها النزاع السوري بصورة فاعلة، بعد أن كان مركزها عبارة عن قاعدة بحرية سوفيتية قديمة في طرطوس أبقت عليها روسيا واستعملتها بصورة زهيدة كنقطة بحرية، وفي عام 2017، أعلنت موسكو بأنها مددت إيجار القاعدة مع تحديث مرافقها لتصبح قاعدة دائمة بسعة تصل إلى 11 سفينة حربية بعد أن كانت سعتها لا تتجاوز سفينة واحدة، كما حصلت موسكو، بموجب اتفاقيتها مع دمشق، على امتياز غير مشروط لاستخدام قاعدة حميميم الجوية. توجّه روسيا اليوم أيضاً التوجهات الدبلوماسية في الدولة السورية، فهي تعمل على تهدئة الجبهات العسكرية، وإعادة تأهيل الأسد على الساحة العربية، وتوسع استثماراتها في سوريا أيضاً بصفقات لإعادة بناء قطاعي النفط والغاز.
في نفس الوقت الذي عملت وتعمل فيه روسيا على إرساء أسس استقرار نظام الأسد من جديد وتأمين وجودها العسكري في سوريا، تفاوض موسكو أيضاً مصر للسماح لطائراتها العسكرية باستخدام الفضاء الجوي والقواعد المصرية. وكان ذلك بالفعل ضمن اتفاقية التعاون العسكري بين روسيا ومصر الذي تم الإعلان عنها عام 2017، حيث منحت الاتفاقية روسيا حق استخدام الفضاء الجوي والقواعد المصرية لمدة خمس سنوات، وفي المقابل وقعت شركات روسية اتفاقات لبناء أول مفاعل نووي مصري والتكفل بتوفير الوقود لهذا المشروع، وهي أيضاً خطوة أخرى في مساعي روسيا لتعزيز مصالحها في قطاع الطاقة في منطقة شمال أفريقيا.
يُضاف إلى ذلك موافقة القاهرة على بناء منطقة صناعية روسية في بور سعيد على طول قناة السويس، سيتم فيها تصنيع آلات زراعية وغيرها من المنتجات للأسواق الأفريقية والأوروبية، وأيضاً أسواق الشرق الأوسط. ويُتوقّع انتقال 20 شركة إلى هناك بحلول العام 2023، بحيث تنتج هذه الشركة ما تصل قيمته إلى 3.6 مليار دولار من البضائع سنوياً بحلول عام 2026، إذ تشير التكهنات إلى وصول حجم الاستثمار إلى 7 مليار دولار في المراحل المتقدمة من المشروع.
تجمع مصر وروسيا أيضاً مصالح مشتركة في الحرب الأهلية الدائرة على حدود مصر الغربية في ليبيا، فكلا البلدين، ومعهما أيضاً الإمارات، يدعمان زعيم الميليشيات الليبية خليفة حفتر الذي أحكمت قواته سيطرتها على شرق ليبيا بالرغم من أن موقف موسكو الرسمي هو الحياد، بل إنها لا تزال تملك علاقات على مستوى رفيع مع الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس. وما يهم روسيا في تلك الحرب هو عقود الطاقة طويلة الأمد التي تقوم روسيا حالياً بالتفاوض عليها مع المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، إضافةً إلى فرصة بناء قواعد عسكرية على امتداد البحر الأبيض المتوسط. تؤكد عدد متزايد من التقارير أن فرقاً روسية عسكرية تقوم بتدريب قوات حفتر، بل وشاركت أيضاً في بعض العمليات. وتم أيضاً رصد طائرات عسكرية روسية في حقل عسكري ليبي في منطقة تحت سيطرة حفتر كانت الإمارات قد استخدمتها عام 2016.
تستمر مساعي موسكو في ترسيخ مصالحها في شمال أفريقيا، مع عملها على التوصل إلى اتفاقية لبناء قاعدة في السودان بعد أن نجح البلدان في التوصل إلى تفاهم في شهر كانون الثاني/يناير الماضي حول زيارة موانئ بحرية. الجهود الرامية لبناء قواعد عسكرية ليست بالأمر الجديد على هذه المنطقة، فقد بدأ التنافس على بناء قواعد عسكرية في مكان قريب، على طول خط مضيق باب المندب، بعد التخلص من تهديد القرصنة، وفي جيبوتي وحدها، أنشأت إسبانيا وألمانيا مرافق لهما في قواعد فرنسية، وهناك اليابان التي ساهمت في عمليات مكافحة القرصنة من مخيم ليمونيه، حيث أنشأت طوكيو أول قاعدة دائمة لها وراء البحار منذ الحرب العالمية الثانية عام 2011 على موقع مجاور للقاعدة الأمريكية، وأنشأت إيطاليا أيضاً قاعدة لها عام 2013، ومثلها الصين التي أنشأت قاعدتها مؤخراً عام 2017.
أفادت بعض التقارير أن جيبوتي رفضت طلباً روسياً عام 2016 لتأجيرها قطعة من الأرض لبناء قاعدتها عليها. ولكن روسيا وقعت اتفاقية اقتصادية استراتيجية مع أرتيريا في أيلول/سبتمبر 2018 لإنشاء مركز لوجستي في الميناء الواقع جنوبي أرتيريا، ومن المفترض أن تمكن هذه الاتفاقية السفن العسكرية الروسية من استخدام الميناء كجزء من اتفاقيات تعاون في التنقيب والزراعة والتعليم.
كسب ود اللاعبين الإقليميين
شدد وزير الخارجية الروسي في أكثر من بيان رسمي، على أن السبيل الوحيد للسلام في اليمن سيكون عبر الحوار مع الأطراف الأساسية في النزاع، وذلك بعد اكتساب موسكو شيئاً من الزخم بفضل انتصاراتها العسكرية والدبلوماسية في سوريا، مؤكداً في نفس الوقت استعداد موسكو لتمهيد الطريق لمحادثات في هذا السياق. ولكن ذلك يستلزم موافقة من السعودية المتوجسة من علاقة روسيا مع إيران، والتي تميل أكثر إلى التماشي مع مواقف الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تستجب الرياض حتى الآن لعروض الوساطة الروسية المتكررة.
تملك روسيا أرضية مشتركة كبيرة مع المملكة، والإمارات حليفة المملكة الأولى في الحرب اليمنية، يمكن لها البناء عليها، وعلى النقيض من الولايات المتحدة الأمريكية، فإن نفور روسيا من الكثير من القيم التي أججت الاحتجاجات الشعبية جعل منها بطبيعة الحال أميل إلى الوقوف في صف الأنظمة العربية وقت اندلاع موجات الربيع العربي عام 2011، فالسردیة الروسية لا تتمحور حول قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمسؤولية الاقتصادية والشفافية، بل تؤمن أكثر بصون الهوية الوطنية والوحدة الجغرافية وبسط قواعد النظام الوطني، وكان هذا العامل الأخير تحديداً هو مبرر روسيا لتدخلها في سوريا. لقد ساندت روسيا الأسد، على عكس أمريكا التي لم تتورع عن التخلي عن الرئيس المصري حسني مبارك خلال الربيع العربي، وكان في ذلك رسالة تنبهت لها دول الخليج.
تأثرت روسيا أيضاً بالتطرف الإسلامي على غرار عدد من الأنظمة العربية، فقد راقبت موسكو كيف خلقت الاحتجاجات الشعبية مناخاً من الفوضى أعطى مساحة استغلتها الميليشيات الإسلامية للصعود والتحرك، وهو ما فرض على الولايات المتحدة أن توغل أكثر في تدخلاتها لمحاربة هذه الموجة.
كانت تلك الميليشيات وما قد تشكله من تهديدات على أمن روسيا الداخلي ومصالحها الحيوية في باقي دول الاتحاد السوفيتي السابق هماً أرق الدولة الروسية لفترة طويلة، فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي فقط، حاربت روسيا الثوار المسلمين في الشيشان وإقليم شمال القوقاز، وقد انضم كثير من هؤلاء المحاربين إلى الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا والعراق، وفي بعض الحالات مهدت أجهزة الأمن الروسية لهم الوصول إلى تلك المناطق. وكان محاربة التشدد الإسلامي إحدى الذرائع التي صرحت بها روسيا لدخولها الحرب. ففي شباط/فبراير 2017، قال بوتين إن الاستخبارات العسكرية الروسية تعتقد أن عدد الروس الذين يحاربون مع الميليشيات الإسلامية في سوريا قد بلغ أربعة آلاف روسي، وأن هناك خمسة آلاف مقاتل آخرون انضموا للميليشيات الإسلامية من دول الاتحاد السوفيتي السابق. وعلى غرار الأنظمة العربية، فإن أحد أهم المشاكل التي تسعى روسيا لمعالجتها هي مشكلة المقاتلين العائدين إلى بلادهم من سوريا.
إذاً هذه هي النقاط المشتركة التي تستطيع موسكو البناء عليها متى ما أفسحت الولايات المتحدة الأمريكية لها المجال لكي تحاول التأثير في التوجهات السعودية والإماراتية وتوافقهما مع الرغبات الأمريكية، فقد شاركت روسيا، على سبيل المثال، في المنتدى الاستثماري “دافوس الصحراء” الذي نظمته السعودية في تشرين الأول/أكتوبر 2018، عندما أعلن عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين انسحابهم من المنتدى على إثر مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي كان يكتب مقالات دورية لصحيفة الواشنطن بوست، بالقنصلية السعودية في إسطنبول، فاستغلت روسيا هذه الفرصة سريعاً لتكبير حجم وفدها التجاري وقامت بتوقيع عدد من العقود فيما كان في الواقع خطوة هدفت إلى إثبات استعداد موسكو لمساندة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أكثر من كونها رغبة منها بعقد الصفقات.
يعود القرار الأول في اليمن إلى السعودية بلا شك، إلا أن جهود روسيا على هذا الصعيد لم تهمل الشريك الثاني في التحالف الذي تقوده السعودية، فقد وقع الروس والإماراتيون اتفاقية دفاع بلغت قيمتها 2 مليار دولار في شباط/فبراير 2017، وتبع ذلك إعلان شراكة استراتيجية في حزيران/يونيو 2018، عززت العلاقات الاقتصادية في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، ولا تحتاج الإمارات إلى إثبات فائدتها لروسيا في سياق تحقيق الأخيرة لأهدافها، فقد كانت الإمارات هي الوسيط في المصالحة بين إريتريا وأثيوبيا في تموز/يوليو 2018، والذي مكن روسيا من المضي قدماً باستثماراتها في أرتيريا وخططها التوسعية في أثيوبيا. وكانت الإمارات من أوائل الدول العربية التي أعادت فتح سفارتها في دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2018 بعد مقاطعة دبلوماسية عربية دامت ما يقارب السبعة أعوام، وهو ما مثل خطوة أخرى نحو هدف روسيا المتمثل بإعادة الأسد إلى الساحة العربية.
في اليمن: تحدث مع الکل، ولا تثق بأحد
وسعت جماعة الحوثيين المسلحة، وحلفائها من القوات الموالية للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، رقعة سيطرتها عام 2014 بنجاحها بالسيطرة على العاصمة صنعاء، وفي بدايات 2015، فرض الحوثيون على الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وعدد من أفراد حكومته الإقامة الجبرية، وفي الوقت الذي حزمت العديد من السفارات الأجنبية أمتعتها ورحلت عن البلاد، قرر الروس البقاء في اليمن، وعقدوا اجتماعات متكررة مع سلطات الحوثيین وأعضاء حزب صالح، المؤتمر الشعبي العام، وقد كان الطرفان يتقاسمان السلطة حينها، وكان صالح هو وسيلة التواصل الرئيسية مع المسؤولين الروس قبل أن تقوم قوات الحوثيين بقتله في ديسمبر/كانون الأول 2017، على إثر انضمامه لصف التحالف ضدهم الذي تقوده السعودية، وسرعان ما أغلقت روسيا سفارتها في صنعاء بعد أسبوع واحد فقط من مقتل علي عبد الله صالح.
لقد أثبتت روسيا بالفعل مهارتها في صون درجة ما من العلاقات مع جميع الأطراف الإقليمية والمحلية في النزاع اليمني، ويصب ذلك بكل تأكيد في مصلحة روسيا في ظل الضبابية التي تطغى على ما سيؤول إليه الوضع السياسي مستقبلاً في اليمن، فهي تتعامل بصورة مؤسساتية ورسمية مع الحكومة اليمنية، ولكنها أيضاً تلتقي مع ممثلين لمجموعات يمنية أخرى مثل سلطات الحوثيین والمجلس الانتقالي الجنوبي، وأيضاً المؤتمر الشعبي العام بما تسمح به أدنى مستويات البروتوكولات الدبلوماسية.
إن هدف موسكو هو حماية ورعاية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في اليمن، وهذا لا يختلف أبداً عن هدفها في المنطقة بصفة أعم، وقد أرست لجنة اقتصادية روسية-يمنية عام 2014 أولويات مشاريع مختلفة في قطاعات استخراج النفط والغاز، وإنتاج النفط، والتنقيب، والزراعة، وبناء محطات الطاقة في عدن والمخا. وكشف السفير الروسي في اليمن، ففلاديمير ديدوشكين، أن الجيولوجيين الروس قد وجدوا بالفعل كميات من النفط والغاز والحديد في اليمن، ولكنه نوه إلى أنه من غير الممكن البدء بتنفيذ المشاريع التي تم الاتفاق عليها بسبب تداعيات ثورة 2011 والحرب القائمة حالياً.
تحرص موسكو على ألا تبالغ في الاعتماد على الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في إعانتها على حماية مصالحها الاقتصادية المستقبلية في البلاد، فحكومة هادي غير قادرة على تأمينها، وبدلاً من ذلك تسير روسيا في درب دبلوماسي منفصل، فقد فرضت ظروف الحرب، بصورة غير مسبوقة، علاقات دبلوماسية تخللها تمرير اقتراحات إلى قوى عالمية مثل روسيا أو الصين عبر بوابة السعودية، ومنذ عام 2012، لم يزر هادي روسيا سوى في مناسبة واحدة، وفي ذلك الوقت، عام 2013، كان هادي يملك هامشاً أكبر للتحرك على صعيد إدارة سياساته الخارجية مقارنة بالوضع اليوم، ولعله يريد اليوم أن يعطي روسيا مساحة أكبر في المشهد اليمني، ولكنه غير قادر على ذلك.
التحرك عبر الأمم المتحدة
يبقى مجلس الأمن إحدى قنوات روسيا لتوجيه المآلات السياسية في اليمن على الساحة الدولية في ظل عدم وجود موافقة من السعودية على مقترحات موسكو بالدخول كوسيط بصورة مباشرة.
في نيسان/أبريل 2015، سمحت روسيا على مضض باعتماد قرار مجلس الأمن 2216، حينما امتنعت عن التصويت على القرار، الذي ينص على مطالبة قوات الحوثيین بتسليم أسلحتهم والانسحاب، تحت ضغط سعودي كبير، وقد وجه فيتالي تشوركين، السفير الروسي السابق إلى الأمم المتحدة، انتقادات للقرار على أساس أنه غير متوازن بعدما تم اعتماده، منوهاً إلى أن رعاة القرار رفضوا أخذ وجهة نظر روسيا بعين الاعتبار، بأن على جميع أطراف النزاع التوقف عن إطلاق النار والبدء بمحادثات السلام، إضافة إلى غير ذلك من الانتقادات.
لا يبدو أن الروس في عجلة من تحديث القرار أو محاولة البناء عليه بالرغم من النقاشات الدائرة حول ذلك، فهم ليسوا حريصين على الدخول في مواجهة مفتوحة مع السعوديين حول ملف اليمن، ويفضلون، على غرار العديد من الدول الأخرى في مجلس اليمن، الانتظار إلى حين تقديم المبعوث الأممي إلى اليمن مارتين غريفيث لشيءٍ يمكن الاعتماد عليه من خلال تأمين تقدم ملموس على الأرض، ومن ثم تقديم المشورة بما يقتضيه الواقع على الأرض، ويعمل غريفيث حالياً على إقناع الأطراف بالإيفاء على الأقل بأبسط الشروط المنصوص عليها في اتفاق ستوكهولم الذي تم عقده كانون الأول/ديسمبر 2018، وباستثناء إطلاعه الأمم المتحدة على أن وقف إطلاق النار في الحديدة، أحد بنود الاتفاق، قد ساهم في تقليل نسبة الضحايا المدنيين بنسبة 68% خلال خمسة أشهر مضت منذ عقد الاتفاق مقارنة بالخمسة الأشهر التي سبقت ذلك، حيث انخفض عدد الضحايا من 1300 إلى 400، لم يكن هناك أي تقدم ملموس يُذكر رفعه غريفيت إلى الأمم المتحدة.
يُلاحظ وجود نقلة في مقاربات روسيا الدبلوماسية بما يتعلق بالملف اليمني في الأمم المتحدة بعد زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في تشرين الأول/أكتوبر 2017، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها أي ملك سعودي على الإطلاق، فقبل الزيارة، شددت روسيا علانية على أنها ستحرص على تعديل أي مواد يصدرها مجلس الأمن، من بيانات صحفية إلى قرارات، لتضمن عدم هيمنة الرواية الأمريكية-البريطانية عليها، وعندما سعت واشنطن إلى تحصيل تقارير عن الوضع الإنساني في سوريا، وهو ما كان له أن يفتح أبواب الانتقادات على الأسد، نادت روسيا بالقيام بإجراءات مماثلة في الملف اليمني في محاولةٍ منها لصرف الانتباه عن سوريا وإعادة توجيهه من جديد إلى اليمن، وهو ما أدى إلى تسليط الضوء على أفعال التحالف بقیادة السعودية، ولكن منذ الزيارة السعودية في 2017، خفتت المطالبات الروسية تاركة مهمة موازنة بيانات مجلس الأمن لأعضاء آخرين مثل السويد وهولندا.
بالرغم من كل ذلك، يظل هناك خط أحمر واحد هو إيران، فمن خلال العمل عبر مجلس الأمن، تمتلك موسكو موقعاً مواتياً يمكنها من رعاية مصالح حليفها التقليدي بصورة أفضل ولو أن روسيا قد عمدت إلى التقرب من إسرائيل، خصم إيران الأبرز.
في 2018، اعترضت روسيا على مشروع القرار 2402 الذي اقترحته بريطانيا، بالرغم من أن الهدف منه كان تمديداً روتينياً للعقوبات المفروضة على أشخاص يعرقلون العملية السياسية، إلا أنه جاء في وقت كانت فيه الأمم المتحدة تحاول الضغط على إيران من خلال ربطها بعمليات تهريب أسلحة لجماعة الحوثيين المسلحة، وهو ما سبق انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران بعد أن كانت قد وافقت عليه عام 2015. وتضمنت صيغة القرار المقترحة اتهامات بحق إيران تعلقت بإمدادها الحوثيين بالسلاح، واستخدمت روسيا وقتها حق الفيتو واقترحت صياغة مختلفة أعادت القرار إلى صيغته الروتينية الأصلية، أي دون تطرقها لإيران، وهي النسخة التي تم اعتمادها في النهاية.
لم تخفِ موسكو اعتراضاتها على محاولات الولايات المتحدة الأمريكية بناء إطار متعدد الأطراف حول اليمن خارج إطار الأمم المتحدة، وهو ما يمكن واشنطن من إقصاء موسكو، ففي عام 2016، أسست واشنطن المجموعة الرباعية التي تألفت من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات بغية فرض ضغط دبلوماسي لإنهاء الحرب، ونظمت المجموعة الرباعية مؤتمر وارسو للسلام والأمن في الشرق الأوسط في شباط/فبراير 2019، والذي خلص إلى أن إيران تلعب دوراً يزعزع استقرار اليمن من خلال تزويد قوات الحوثيین بالمال والصواريخ البالستية والأسلحة المتطورة، وهو موقف نجحت روسيا في إبقائه خارج قرارات الأمم المتحدة حتى اللحظة. وأبدت روسيا أيضاً اعتراضات أكثر عمومية، واصفة المؤتمر بأنه محاولة لتسويق “رؤية أحادية الجانب” خارج إطار الأمم المتحدة ضمن مساعي الولايات المتحدة لتسيير إرادتها الجيوسياسية في المنطقة.
صعود روسيا الثابت
ورث الروس خارطة المصالح السوفيتية، دون روح أسلافهم الأيدولوجية، ولكن روسيا، بالرغم من ذلك، لا تبحث عن شريك أيديولوجي، فلا يوجد أي جدوى وراء محاولات كهذه بالنظر إلى القوى المتصارعة في اليمن اليوم. بل إن سياسة موسكو الخارجية في السياق اليمني ما هي إلا جزء من الاستراتيجية الجيوسياسية البراغماتية التي ترتكز عليها روسيا اليوم، والتي تهدف إلى استعادة النفوذ الروسي في المنطقة، ووقتها فقط سيكون بإمكان موسكو ضمان حماية طويلة الأمد للمصالح الاستراتيجية التي تركها لها الاتحاد السوفيتي ومصالحها الاقتصادية المتنامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد تبين مدى هشاشة وضعف موقعها عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية عام 2011 وما آلت إليه من فوضى في سوريا واليمن ومصر وليبيا.
تختلف مقاربة روسيا للملف اليمني عن منهجية إدارتها للملف السوري، حيث اتخذت موقفاً تعارض مع الموقف الغربي ودول الخليج، فقد حرصت روسيا على تعطيل مشاريع قرارات مختلفة في مجلس الأمن ضد الأسد وتدخلت عسكرياً لقلب الكفة لصالحه، إلا أن موسكو تعي جيداً أن الملف اليمني هو ملف تتحكم به السعودية أكثر من أي طرف آخر، بغض النظر عن عدد الدول التي تحاول التأثير في الوضع في اليمن، كما أن روسيا تعتبر الحكومة اليمنية التي تحظى بدعم من المملكة ومن الولايات المتحدة الأمريكية حكومة شرعية، تماشياً مع سياساتها بالحفاظ على النظام الوطني، سواءً في تحركاتها على مستوى الأمم المتحدة أو على مستوى الإقليم، وتتحرك روسيا بحذر وتأن للحفاظ على علاقاتها مع الأطراف اليمنية المختلفة في توجه من شأنه أن يرسخ مكانتها كقوة مؤثرة في المنطقة.
إن رغبة روسيا باستعادة نفوذها، إضافة إلى العلاقات الروسية-الإماراتية المتنامية، يمكن أن يؤثر على إجراءات موسكو المستقبلية مع الفصائل اليمنية المختلفة، فموقف روسيا الرسمي لا يزال يتمثل في تأكيدها على ضرورة الحفاظ على وحدة اليمن، ولكن الإمارات تدعم المجلس الانتقالي الجنوبي، ولعل ذلك هو خيار تأخذه روسيا بعين الاعتبار من خلال تعزيز وضع المجلس الانتقالي الجنوبي وحزب المؤتمر الشعبي العام، مع تجاهل المكونات الأخرى مثل حزب التجمع اليمني للإصلاح.
لا يزال على روسيا أيضاً تسوية أمورها في سوريا، حيث تطمع كلٌّ من موسكو وطهران بحصة أكبر من مشروع إعادة الإعمار في سوريا، وعلى الطرف الآخر، تريد السعودية أن تتخلص من التهديد الأمني المتمثل بالحوثيين، وهنا تملك روسيا نظرياً فرصة، بإعطاء إيران دفعة اقتصادية قوية إذا ما قبلت بتلطيف موقفها في اليمن ومحاولة إقناع سلطات الحوثيین بعملية سلام ترضي السعودية، ولو أنها لم تعلن عن أي مبادرات في اليمن حتى اللحظة، وبنظر الرياض، فإن الضمان الأمني الوحيد هو نزع السلاح من قوات الحوثيین.
ستواجه روسيا تحدياً صعباً إذا ما أرادت الاستحواذ على دور الوسيط الذي منت به النفس طويلاً، ما دامت السعودية تعد إيران تهديداً وجودياً وملتزمةً بعدم معارضة الموقف الأمريكي. مع ذلك، ستستمر موسكو في تحين أي فرصة قد تسنح من زلة أمريكية يمكن استغلالها أملاً في تلطيف الممانعة السعودية، وفي الوقت الحالي، تستمر المساعي الروسية على جبهات الأمم المتحدة وإقليمياً وداخل اليمن، فنجاح جهود موسكو قد يضعها في موقف قوة يسمح لها بإعادة إنشاء قواعد عسكرية على الأراضي اليمنية أو على جزرها، ويُضاف إلى ذلك تعاونها الوثيق مع الإمارات، حيث يعزز هذان الأمران تقدم موسكو الثابت نحو هدفها الأوسع، وهو تأمين موضع قدم لها على خط الشحن الاستراتيجي عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وخليج عدن.
إن المنجزات التي حققتها موسكو في سوريا وتعزيز وجودها العسكري الدائم هناك أيضاً هما انتصاران تسعى روسيا لتكرارهما في كل من السودان وأثيوبيا، ومع كل خطوة تقطعها موسكو، متسلحة باستثماراتها الاقتصادية وقوتها العسكرية، تقترب الدولة الروسية أكثر وأكثر من استعادة نفوذها العالمي وضمان قدرتها على حماية إرثها السوفيتي.
*نقلاً عن مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية
مصطفى ناجي هو دبلوماسي وباحث يمني، تترکز أبحاثه على المصالح الجيوسياسية الروسية وعلاقات التعاون متعددة الأطراف في البحر الأحمر.