الثلاثاء 30 يوليو ,2019 الساعة: 09:58 مساءً
نبيل البكيري
أوائل يوليو/تموز 2019، أعلنت الإمارات تغيير استراتيجيتها في اليمن من الحرب إلى السلام، والبدء في تقليص حجم القوات العاملة هناك، وهو قرار -إن تمَّ على الوجه الذي أُعلن عنه- فسيترك بلا شك تداعياته السياسية والعسكرية على مجمل معادلة الصراع في هذا البلد، وكذلك على العلاقات الإماراتية-السعودية من جهة والإماراتية-الإيرانية من جهة ثانية.
يناقش التقرير التالي هذا القرار، متسائلًا عن مصداقيته، ومبيِّنًا مبرراته، ومسلِّطًا الضوء على تداعياته، سواء على الإمارات والسعودية وحلفائهما، أو على الحوثيين وإيران.
المبررات والخلفيات
بحسب الرواية الإماراتية، فإن قرار تقليص الوجود العسكري في اليمن هو "قرار نهائي، اتُّخذ بعد تفكير عميق، وبالتنسيق التام مع قيادة التحالف العربي الداعم للشرعية في اليمن" وإنه "يُدشِّن لمرحلة جديدة، للتعاطي مع واقع الحرب بعد أن حققت غاياتها من تدخلها العسكري المباشر في اليمن".
وبنظرة عامة على المتغيرات الخليجية واليمنية التي دفعت الإمارات لهذا القرار، يأتي في مقدمتها تصاعد التوتر في الخليج، وازدياد حدة الصراع بين إيران وكلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والإمارات، والذي شوهدت تجلياته في الأسابيع الماضية من خلال استهداف أربع ناقلات نفط في المياه الإقليمية لدولة الإمارات، وإسقاط الإيرانيين لطائرة استطلاع أميركية دون طيار من طراز "جلوبال هوك"، في مضيق هرمز، والضربات الموجعة للطائرات المسيَّرة دون طيار التابعة للحوثيين والتي استهدفت مطار أبها وبعض المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية، يضاف إلى ذلك التصعيد البريطاني-الإيراني الأخير والإيقاف المتبادل لناقلات النفط التابعة للطرفين.. كل ذلك أدى إلى ازدياد حدة التوتر وهو ما دفع الإمارات لإعادة التفكير في وضعها الاستراتيجي حال اندلاع حرب في المنطقة، وقد توصلت فيما يبدو إلى ضرورة تقليص قواتها في اليمن والانسحاب التدريجي من هذا المستنقع الذي يستنزفها، وكان أول المؤشرات على ذلك ما ألمح إليه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مقابلة تليفزيونية قال فيها: "إن هناك مؤشرات على أن الإمارات بصدد اتخاذ سياسات جديدة في المنطقة، وهذا يصب في مصلحة حكومتها".
من هذه المؤشرات، يمكن القول: إن فكرة إعلان الانسحاب الإماراتي من اليمن -رغم تشكيك البعض فيها كما سيأتي بيانه- لم تكن فكرة أحادية الجانب، وإنما هو قرار اتُّخذ باتفاقٍ ما بين الجانب الإماراتي والإيراني، ما يعني أن ثمَّة تفاهمات ربما تكون قد تمت لتقاسم النفوذ في اليمن بين طهران والإمارات بموجبها لا يُنازَع الحوثيون في مناطق نفوذهم شمالًا ولا الإماراتيون في مناطق نفوذهم جنوبًا.
مصداقية القرار
رغم ما سبق الحديث عنه من متغيرات جيوسياسية دفعت الإمارات نحو تقليص أعداد قواتها المتواجدة في اليمن، فإن البعض شكَّكَ في مصداقية هذا القرار واعتبره "تكتيك" يقع ضمن خطة استراتيجية إماراتية جديدة في اليمن تهدف إلى إعادة هيكلة المشهد العسكري، مستغلة ضعف سلطات الرئيس، عبد ربه منصور هادي، وانشغال السعودية بالهجمات التي يشنها الحوثيون على أراضيها. ويستدلون على ذلك باستمرار تحكم الإمارات بالأوضاع جنوب اليمن من خلال قوات الأحزمة الأمنية والنخب الموالية لها، فضلًا عن إحكام قبضتها مؤخرًا على الساحل الغربي للبلاد، واستمرار تقديم الدعم على مستوى التسليح والتدريب والتمويل لقرابة تسعين ألف مقاتل يعملون لصالح أبوظبي، وهي مؤشرات -بحسب وجهة نظرهم- تؤكد عدم جدية القرار الإماراتي خاصة وأنه قد أُعلن من طرف واحد دون تنسيق مع قوات الشرعية المعنية بالأمن والاستقرار في المناطق المحررة من سيطرة الحوثيين.
التداعيات السياسية
على أية حال، فإن قرارًا كهذا، إن تمَّ بالصورة التي تعلنها الإمارات، سيكون له تداعيات سياسية وعسكرية كبيرة على القوى المنخرطة في الصراع اليمني.
سعوديًّا، سيترك هذا القرار السعودية بمفردها في هذه الحرب، وسوف يزيد العبء على قواتها المحاربة هناك وعلى القوى التي تدعمها، ولعل قرار الملك، سلمان بن عبد العزيز، الأخير باستقبال قوات أميركية إضافية لحماية المملكة العربية السعودية من هجمات الحوثيين يأتي كرد سريع على القرار الإماراتي، كما أنه سيلقي ظلالًا من الشك والريبة على علاقة السعودية بالإمارات والوثوق في تحالفاتها مستقبلًا.
وقد يدفع تقليص حجم القوات الإماراتية في اليمن السعودية لإجراء مراجعة شاملة لاستراتيجياتها في اليمن، خاصة في ظل تطور القدرات العسكرية للحوثيين واستهدافهم مناطق حيوية في المملكة، وعدم قدرة الرياض على التعامل مع هذا التهديد رغم تأكيدها سابقًا على أنها دمرت 80% من قدرات الحوثيين الصاروخية وقد يدفعها للتفكير أيضًا في الوصول عبر المفاوضات الدبلوماسية إلى الخروج بصيغة متفق عليها من هذا البلد.
وأية عملية سلام مباشر بين المملكة السعودية والحوثيين تعني الاعتراف بشرعيتهم كحكومة أمر واقع بديلًا عن الحكومة الشرعية التي تدعمها المملكة، وتعني أيضًا تسليم المملكة بالنفوذ الإيراني في اليمن، ومن ثم تحمُّل تبعات الحرب وإعادة الإعمار، فضلًا عن ذلك فإنه يعني بداية مرحلة سياسية جديدة يتراجع فيها نفوذ المملكة ويزداد الحضور الإيراني في المنطقة.
يمنيًّا، بالنسبة للحكومة اليمنية الشرعية، فإن تقليص القوات الإماراتية بهذه الطريقة المعلن عنها، دون التنسيق والتشاور معها، يُعتبر تكريسًا للعملية الانقلابية التي قام بها الحوثيون ضد شرعيتهم شمالًا وجنوبًا؛ شمالًا من خلال وجود تفاهمات مع جماعة الحوثي، إما مباشرة أو من خلال الجانب الإيراني، وجنوبًا من خلال تسليم مرافق الدولة ومؤسساتها للجماعات المسلحة المدعومة إماراتيًّا كالأحزمة والنخب المسلحة، وهذا تكريس لواقع انقلابي لا يعترف بالشرعية اليمنية المعترف بها دوليًّا؛ ما يعني أن هذه الشرعية التي جاء التحالف لاستعادتها ستكون أول ضحاياه.
حوثيًّا، فإن تقليص القوات الإماراتية يُعتبر تعزيزًا لوجهة نظرهم بخصوص التحالف وأنه عدوان خارجي على اليمن، وأنهم -أي الحوثيين- في معركة وطنية ضده، وأن معركتهم قد حققت نجاحًا كبيرًا بإجبارهم على الانسحاب.. وبغضِّ النظر عن عدم موضوعية مثل هذا الطرح، فإنه يعزز السردية الحوثية لدى أتباعهم وأنصارهم.
جنوبيًّا، سيشكِّل تقليص القوات الإماراتية، مرحلة مهمة في مشروع انفصال جنوب اليمن عن شماله، بغض النظر عن عدم صعوبة تنفيذ هذا المشروع، بالنظر إلى تعقيداته الداخلية والخارجية، لكن سيُكسبه خطوة مهمة، خاصة من خلال تمكين الإمارات العربية المتحدة للفصائل المسلحة المحسوبة على ما يُسمَّى "المجلس الانتقالي الجنوبي"، من السيطرة على المؤسسات السيادية كالمطارات والموانئ المهمة والمنشآت النفطية، فضلًا عن المعسكرات والقواعد البحرية والجوية التي تحت سيطرتها حاليًّا. لكن الأخطر في سيناريو تقليص الوجود العسكري الإماراتي في اليمن هو أن الفراغ الذي قد يشكله يمكن أن يؤدي إلى صراعات طاحنة بين الجماعات المسلحة المتنافسة في الجنوب، ويفجِّر حربًا أهلية بين هذه المجاميع مع بعضها البعض وبينها وبين الحكومة الشرعية.
الأثر العسكري
سيضاعف تقليص الوجود العسكري الإماراتي في اليمن من كلفة الحرب بالنسبة للمملكة العربية السعودية والشرعية معًا، وسينعكس إيجابًا على جماعة الحوثي التي ستستفيد من تفكك التحالف المناوئ لها، ومن شأن خطوة كهذه أن تعمل على عزل السعودية وإبقائها وحيدة في حرب اليمن، وربما يوتِّر العلاقات بين الإمارات والمملكة التي شعر مسؤولوها "بخيبة أمل كبير" جرَّاء القرار الإماراتي.
وما يزيد الأمر صعوبة من الناحية الميدانية بالنسبة للمملكة العربية السعودية أن قوات الدعم السريع السودانية العاملة في اليمن بتنسيق ودعم إماراتي ربما تنسحب هي الأخرى، وهو ما سيشكِّل ضربة ثانية للمملكة.
وبهذه التطورات، يتفكك التحالف السعودي/الإماراتي في اليمن، وهو ما يُعدُّ هزيمة للمملكة سياسيًّا وعسكريًّا، على الأقل فيما يتعلق بإنهاء المعركة دون تحقيق الأهداف المعلن عنها، والأخطر، أن المملكة وهي تحاول أن تملأ هذا الفراغ الذي ستتركه قوات الإمارات ستركز على حماية حدودها الجنوبية من خلال الدفاع وليس الهجوم الذي ستستمر مبادرته بأيدي الحوثيين من خلال القصف الصاروخي والهجمات بالطائرات المسيَّرة، ما يؤثر سلبًا على معنويات الجيش السعودي وقياداته التي ترى أن الانسحاب الإماراتي، كشفها أمام العالم، وتركها وحيدة في معركة، كانت الإمارات وسياساتها هي المتسبب في طول أمدها حينما حولتها من حرب ضد جماعة الحوثي الانقلابية إلى حرب ضد حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي كان هو الطرف الأقوى في مواجهة الميليشيات الحوثية ما أدى لهذه الإخفاقات السياسية والعسكرية بالنسبة للمملكة والشرعية اليمنية على حد سواء.
لكن، ثمة فرضية لا ينغي إهمالها وهي أن قرار تقليص الإمارات قواتها في اليمن ربما يمثل فرصة سياسية للشرعية للخروج من حالة العجز الراهنة فيما لو تم استغلاله من أجل إعادة رسم علاقة واضحة مع المملكة العربية السعودية والإمارات على حد سواء، فيما يتعلق باستعادة الشرعية لقرارها وسياداتها على كامل التراب اليمني المحرر، وتمكينها من إدارة معركتها بنفسها، ودمج الفصائل المسلحة تحت سلطتها من أجل استكمال معركة إسقاط الانقلاب.
خاتمة
سواء أكان الانسحاب الإماراتي من اليمن كليًّا أم جزئيًّا فهو يشكِّلُ ضربة للحليف السعودي وللشرعية اليمنية على حد سواء، ومن شأنه أن يزيد من عزلة المملكة، ويقلِّص نفوذها في المنطقة على حساب النفوذ الإيراني الذي سيتزايد. وسيترتب على قرار الإمارات كذلك تأزُّم بالنسبة للجماعات والأحزمة الأمنية والميليشيات التابعة لها، وسيزيد من حالة الصراع والانقسامات بينها، وقد يدفع المملكة للبحث عن صفقة سياسية مع الحوثيين؛ ما سيمكِّنهم من فرض شروطهم التي تجعلهم يحتفظون بكامل أسلحتهم كجماعة والاعتراف بهم كسلطة سياسية في الآن معًا؛ ما يعني وضع السعودية تحت التهديد الإيراني من خلال أذرعها المسلحة في اليمن جنوبًا والعراق شمالًا.
*نقلاً عن مركز الجزيرة للدراسات