ابتسم أنت في تعز..!
الجمعة 14 يوليو ,2023 الساعة: 06:14 مساءً


نتذكر الكثير من الأشياء في طفولتنا عن تعز وريفها والحياة الخالدة والبهية فيها.
لكن مخيلتي لم تبارح أبداً تلك اللوحة الدعائية بعد نقيل الإبل في مدخل الحوبان لمدينة تعز، والتي نحمل عبارة "إبتسم أنت في تعز".
كانت أول عبارة تقع عليها عيناي وأنا ابن الريف المتجه لأول مرة إلى المدينة لأتعرف عليها في سن الثامنة من العمر.
كان كل شيء في المدينة مختلفاً عما ألفناه في حياتنا الريفية البسيطة، لكنك تشعر وأنت في المدينة بحياة فسيحة لا متناهية ولا يحدها حدود، ولا يعيها وصف ولا يسبرها غور.
كانت الحياة تنضح ابتساماً وألقاً لتعز أرضاً وإنساناً بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962.
كل شيء فيها يسير بسرعة كبيرة نحو النهوض الحضاري؛ علماً وثقافة وأدباً واجتماعاً، وحتى بنية تحتية وعمراناً وغيرها.
أخذ الناس يتسابقون في إعمار المحافظة في كل شيء؛ التعاونيات، شق الطرقات، بناء المدارس والمعاهد، بناء الوحدات الصحية، إنشاء المنتديات والاتحادات الثقافية والعلمية، المسابقات والمهرجانات، التنافس في التحصيل العلمي وبلوغ الريادة. الآباء يدفعون بصغارهم نحو التعليم وارتياد المدارس ليس بشكل عفوي بل باندفاعة مستميتة وكأنها بعد فكاك من حصار وكسر من أغلال، والطموح يحدو بالجميع نحو الآفاق العالية.. هكذا كنا نرى الحياة وقتئذ.
كانت الأغلال الإمامية في استهداف المدارس والتعليم عن عمد، وحصار الشعب من التعليم الذي ينهض بالوطن، وحصرت التعليم في ثلة من القوم هم الحاشية ومن احتك بهم لا أكثر. لذلك خرج اليمنيون بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر متعطشين نحو التعليم، وسلكوا كل طريق في الحصول عليه.
تشعر في تعز حينها وكأنك في سباق مع الزمن؛ كل شيء فيها ينهض وكأنه ينبعث بعد قيامة، وحتى حركة الناس وأعمالهم ومهنهم كأنها الروح تنبعث في جسد ثراها الطاهر؛ روح وثابة ومرحة ومتألقة وسرور عجيب تلحظه من معاملات الناس اليومية.
أنتج كل ذلك سرعة صاروخية في التوسع العمراني، والتوسع العلمي، والتنافس المهني في أوجه في إنشاء الحرف المختلفة دون تعييب أو تحقير لأية مهنة كما تفعله قبائل الشمال، لذلك نشأ جيل حرفي في كل المجالات غزا بحرفيته كل المحافظات الأخرى. فالطالب فيها صباحاً في المدرسة ومساءً في العمل، وليلاً في مراجعة الدروس، والمصانع تنشأ وتشيد من الصفر، والرأسمال الوطني يتدفق من كل مكان للاستثمار والعمل، والمغتربون يمضون على قدم وساق في تحويل مدخراتهم إلى البناء وفتح المشاريع الصغيرة المختلفة، حتى نشأ جيل ثقافي متشبع بالعلم والمعرفة كأنك في بغداد الرشيد، أو أندلس الداخل، وتعز المظفر الرسولي، تزدحم المساجد والمجالس بحلقات العلم والمساجلات العلمية والمباريات الشعرية والمسابقات الهادفة.
ظلت المدينة وجه اليمن المشرق والحضاري المتقدم وموئلاً لكل الزائرين من بعثات دبلوماسية وغيرها، على عكس ما كانت عليه صنعاء من قبل، وخاصة أيام الرئيس الشهيد الحمدي الذي أولى المحافظة الكثير من الاهتمام.
لم تعد تلك اللوحة على مدخل المدينة مجرد عبارة وضعت من باب الدعاية الإعلانية، بل صارت فعلاً مترجماً لكل مناحي الحياة.
لم تكن تلك الأشياء هي الصورة الوردية الكاملة للمدينة، فقد كانت هناك منغصات حياتية ولا شك بفعل التنافس السياسي والصراع الحزبي الذي شهدته المحافظة كرافعة للعمل السياسي في اليمن بشكل عام؛ كون معظم قيادة الثورة المدنية كانت من محافظة تعز، الأمر الذي لم يرق لأعداء الثورة والنجاح فأرادوا تحويل كل شيء فيها إلى كابوس مظلم من خلال الاغتيالات والتصفيات السياسية، ثم الاستهداف المناطقي العنصري وامتصاص تلك النهضة الحضارية التي كان يمكنها أن تكون رافعة حضارية لكل اليمن.
بدأ الاستهداف التدريجي والممنهج ضد المحافظة كعقاب لها وقتل الروح الوثابة فيها لأنها تمثل روح اليمن الحقيقي غير المعتل، كما يحدث اليوم، وتم تفريغها من كل شيء عبر العمل المركزي في صنعاء، وكان كل ذلك التفريغ يجري بوجه قانوني عبر مؤسسات الدولة حتى لا يشعر به المعارضون فتنشأ المشاكل المختلفة.
ذلك الوجه المشرق لتعز قديماً أغرى عليها الناقمين، وأصحاب المشاريع المختلة من إمامية وعنصرية مناطقية، ولم تدخر جهداً ولا وسعاً إلا واستعملته ضد المحافظة الفتية.
يتضح اليوم جلياً بعد الانقلاب الحوثي المشؤوم وحلفائه كل ذلك التركيز المستخدِم كل أدوات التنكيل والجريمة ضد المحافظة عقاباً لها لمحاولة إعادة تصحيح المسار ونفض غبار الأزمات والتخلف عن اليمن بشكل عام.
لم تستهدف محافظة من المحافظات اليمنية بعشر استهداف محافظة تعز من كل النواحي؛ تدمير مسلح، وحصار خانق ومطبق، وتمزيق مفتت، كل ذلك للفت في عضد المحافظة التي ينظر إليها كحامل لمشروع النهضة.
يأتي استهداف المحافظة بوجه طائفي، وحقد عنصري، وغلٍ مناطقي، حتى لا تقوم للبلاد قائمة.
غيرت الأزمة الأخيرة من وجه تعز، وغدت ابتسامة تعز المشرقة دمعة حزينة، ووجهها ظلاماً دامساً، وزاد من قتامة المشهد وكمد كبدها خذلان قيادتها التي لم تكن عند مستوى التحدي والمسؤولية، وسوّدت وجوه أبنائها بكل ذلك التراخي والتماهي مع مشاريع الحقد والكراهية للإمامة البغيضة.


Create Account



Log In Your Account