جبل الرَّب السامعي! (2-2)
الخميس 10 أُغسطس ,2023 الساعة: 05:31 مساءً

يقول بعض الأكاديميين، وعلى رأسهم أستاذي المرحوم الدكتور طه أبو زيد، المتخصص في أدب وتاريخ الدولة الرسولية، والمرحوم القيل مطهر الإرياني، والأكوعان، وغيرهم: إن هذا الكتاب كان من تأليف الملك الأشرف إسماعيل ملك الدولة الرسولية، صاحب المدرسة الأشرفية الكبرى، لكن من خلال قراءتي المتعددة له لا أظن أنه عائد إليه لعدة أسباب على رأسها أنه ذكر بعد الدولة الرسولية شذرات من بدايات الدولة الطاهرية، التي أتت بعده بحوالي ستين عاماً. 

المهم، أن هذا الكتاب حيّر عقلي، وأتمنى إيجاده ولو بعشرة أضعاف سعره للقراءة المتفحصة مجدداً فيه ومعرفة مصادره، ويمكننا التعرف على مؤلفه، والاحتفاظ به كنسخة نادرة ومرجعية خاصة بنا نحن أبناء سامع وصبر والأشعوب تحديداً. 

بعد ذلك الكتاب كانت المفاجأة الأكبر بالنسبة لي، ومن خلال دراستنا للغة اليمنية القديمة، عرفت حينها أن تسمية "سامع" بمعنى (شاهِد)، وأنه اسم إلهٍ من الآلهات اليمنية القديمة، وحديثاً تعرفنا على نقش يؤكد هذه التسمية والمعلومة أنه إله قديم، عبر مكيال حبوب مصنوع من البرونز من قراءة الباحث المتخصص في دراسة المسند اليمني علي ناصر صوال. 

تقول قراءة النص للمسند في المكيال/الصواع:
و د د ت/ ذ ت/ ق ي ن ن/ أ ق ن ي ت/ س م ع م
ع د ي/ ر أ س ن/ذ..../ل و ف ي/ أ ث م ر ه م و/
(ودادة القينانية أهدت الإله سامع هذا المكيال لكي يمنحها الثمار الوافرة). 

عدم معرفة مكان لقى هذا المكيال/ الصواع بالضبط يفتح المجال لتأويلات كثيرة ودراسات متعددة أيضاً.
كانت التسمية لمنطقة "سَرَّ بيت" بالنسبة لي ملفتة للانتباه، تخبئ في ثناياها الكثير من المعلومات، وكان أول سؤال تساءلته: نعرف أن الاسم مركب من كلمتين في اللغة اليمنية القديمة (سِرْ) وهو الوادي، والوادي معلوم وموجود، ولكن (البيت) مجهول؛ فأي بيت يقصد؟
كذلك نعلم أن (البيت) اسم معبد في اللغة اليمنية القديمة، ولكن أي بيت هو؟ أهو بيت الله الحرام بمكة؟ أم بيت آخر؟ فقد حُفِر في الذاكرة الشعبية المحلية وكرستها الصوفية أن الوادي وقفٌ على بيت الله الحرام بمكة، ولذلك ينسبون الوادي إليها!
بدأت البحث مجدداً حول الأمر، بالإضافة إلى المعلومات السابقة التي ربطنا بعضها ببعض، وعدنا إلى ترجمة النقش الخاص بنعيم/ة في منطقة "سربيت" أعلى، فوجدنا أنها تذكر البيت في أعلى قمة الجبل، والوادي الذي نعرفه تابع لها، فكانت معلومات بالنسبة لنا كباحثين لا تساويها أموال الدنيا. 

وأخيراً عرفنا أن البيت المقصود هو ذلك الذي يسميه الناس في ذاكرتهم الشعبية ومصادرهم التاريخية بحصن عبادي، وأن الأساس الباقي فيه هو أساس البيت؛ ذلك البيت الذي يمثل معبد الرب/الإله في قمة الجبل. 

هناك قراءة لنقش نعيم في "سربيت"، الذي صار من الصعب قراءته بدقة، للباحث في نقوش سامع وقدس الدكتور بشير القدسي يقول النقش، بحسب الدكتور بشير:
بعون وتوجيه [.....] [أنـ]عم بنت قشعة من "بني عرق" التي تنتمي إلى ذي معافر[ن] قصره يافع وأربيان حفرت وسوّت وبنت واستصلحت شق ورصف وإنجاز [....] النقيل المسمى "ونب" من أسفله وحتى أعلاه وذلك من باب [محفد] ذي العشة بوادي القصر [الأصل هنا البيت وليس القصر] وامتد النقيل حتى فناء [قصره] [بيته] [....] وذلك بعون سيدهم [إله] المطر الكائن في منطقة النعرة بجبل ونب [.أ.ب رم] جزءاً من بيته بني عرق و[ع.] حفر الآبار مع مداخلها (أبواب) لوقت الجفاف [م.بم/وهر.ت]. جنوب [....] كل أحرمم وهعجزم الذي بقرب (وأضاف) ونقب وحفر مقبرة [..نم] بجبل أيون (جبل العنب)، ستفزنت [...] بيته بني عرق، وبرعاية ومساعدة سيدهم كليب بن يشمر يهحمد ذو معافر، ونفذ كتابة هذه السطور إل شرح أشوع. 

مع أن بعض الكلمات تحتاج إلى شيء من التدقيق والمراجعة لمعرفة أصولها واتفاقها مع التسميات واللهجات المحلية، وعدم التدقيق فيها عائد إلى ضآلة وتلف النقش نفسه. 

أكاد أجزم أن فاضل الربيعي لو تَعرَّف على هذه المعلومات لطار بها فرحاً ربما أكثر منا، ولوظفها ذلك التوظيف التوراتي لديه. 

فاضل الربيعي ألمح في إحدى مقابلاته المتلفزة إلى منطقة حوراء في سامع أنها المعبر الذي عبر منه إبراهيم الخليل من منطقة الضالع إلى منطقة القدس (قدس)، وأنها هي (حوران) بحسب مخيلته، وما يذهب إليه من آراء لم تقنع أياً من الباحثين الآثاريين، وهو في كثيرٍ منها يخبط خبطَ عشواء كهذه الجزئية مثلاً، فكيف لو عرف بمعلومة جبل الرب هذا؟! 

في فترة من فترات الدول اليمنية القديمة كانت تعمد بعض الدول إلى بناء المعابد في أعلى قمم الجبال حفاظاً عليها من التدمير أثناء الصراعات والحروب والغزو، ومنها هذا البيت، وبيت "المُتْخلي" القريب منه على الجبل الآخر، ولهذا الأخير قصة أخرى. 

ولأن اليمنيين القدماء كانوا يعبدون الكواكب فلربما بنوا معابدهم على قمم الجبال ليكونوا أكثر قرباً منها، أو تجلياً لمعرفة المزيد منها وتأثيراتها والنظر إليها بوضوح تام من قمم الجبال. 

لكن أشهر المعابد اليمنية على الإطلاق وهي معبد "أوام" ومعبد "برآن" ومعبد "المقه" في صرواح، أنشئوا في قلب مارب السهلاوي، وكذلك المثل معبد "الجَنَد" القريب من معبد جبل الرب في سامع، والذي يقوم جامع الجند اليوم على أنقاضه، بحسب المؤرخ مطهر الإرياني. 

يذكر لي الأستاذ المرحوم مطهر الإرياني أن مكان جامع الجند في الأساس هو مكان لمعبد قديم. (نقاش بينه وبين الكاتب ولم يدون في أيٍّ من كتبه التاريخية). 

أرجح أن الجند كانت عاصمة لدولة السكاسك القديمة، وأن معبد الجند كان معبداً لها، فلا تُذْكر السكاسِك إلا وذكر معها الجند في قلبها، ثم ماوية، ثم شعوبها المحيطة في المعافر بشكل عام، وكذلك محافظة إب السفلى حتى أسفل جبل سمارة؛ إذ لا تزال كثير من الأماكن تسمى بمناطق السكاسِك، ولا تزال هذه الدولة مجهولة التاريخ والأحداث حتى اليوم. 

يبدو للبيت/ المعبد في قمة ذلك الجبل أهمية كبيرة في التاريخ اليمني القديم، وخاصة تاريخ المعافر، قبل الفترة الحميرية بكل تأكيد، وهي الفترة المعافرية أولاً، ثم القتبانية ثانياً التي ترجع معظم نقوش المنطقة ولُقاها الأثرية إليهما، عدا نقش نعيم العريقية في "سربيت" الذي يعود لمنتصف القرن الأول قبل الميلاد لعهد سبأ وذي ريدان بحسب الإرياني؛ فهو حدد الشخصيات بوضوح، وهي كليب شمر يهحمد حاكم المعافر، وكاتبه إل شرح أشوع، ونعيم العريقية. 

وكذلك فقد ذكر إله المطر الكائن في أعلى الجبل في منطقة تسمى النّعْرة من جبل "و ن ب"، وهذا النقش والوصف يعزز من ذكر الإله في نقش المكيال السابق.
أما نقش الصلو ونقش العروس في قمة جبل صبر، ونقش حبيل سلمان، فهم واضحون للدولة القتبانية في القرن الخامس قبل الميلاد، وكذلك بعض نقوش ماوية والتي تبدو أنها لفترة متأخرة أيام يوسف أسأر أثأر الملقب بذي نواس الحميري. 

تكمن أهمية المكان أن الأمكنة التاريخية المحيطة بالجبل كانت حصوناً؛ كقمة العروس في جبل صبر كان حصناً معروفاً، وقد ذكرها نقش حصن العروس بوضوح، و"الدملؤة" كان خزانة ملوك اليمن وحصنهم المنيع لكافة الدول والذي أسسه المعافريون وورثه القتبانيون، وأما الذي يسمى "قرن نعيمة" فهو حصن فرعي لحاكمة المعافر في عهد سبأ وذي ريدان نعيم العريقية صاحبة نقش سربيت، وكذلك حصن مطران في قدس من حصون المعافريين القدامى؛ أي إن الجميع كان يحج إلى ذلك البيت ويتعبد فيه في قمة الجبل، وثمة معلومات كبيرة ناقصة يمكننا أن نردم فجوتها في يومٍ ما- إن شاء الله. 

في ندوة احتفائية بتوقيع كتابي "اللغة اليمنية في القرآن الكريم" في مؤسسة السعيد عام 2013م ذكر لي أحد مشايخ بني النعمان أن رجلاً سامعياً في نهاية التسعينيات (هو يعرفه شخصياً)، ويبدو بعد السيل الذي اجتاح أسفل ذلك الجبل وكشف عن أشياء كثيرة، وجد نقوشاً مسندية قديمة مرقومة على ألواح من البرونز، وأراد إهداءها إلى الرئيس علي عبدالله صالح، ولأنه لا يستطيع الوصول إليه ذهب إلى مدير مكتبه علي الآنسي عبر شخصية معروفة وأعطاه إياها، ولم يظفر بلقاء الرئيس ولا بشيء من المكافأة، وبعدها ضاعت هذه الألواح ولم يعرف عنها أحد شيئاً، وذهبت إلى المجهول، كما ذهب غيرها الكثير. 

لكم أن تتخيلوا مقدار هذه المعلومات التاريخية التي دُونت في هذه الألواح وفائدتها المعرفية للبلاد وتعزيز الهوية اليمنية. 

من هنا، وعبر هذه الأسطر، أوجه نداءً وطنياً للواء علي الآنسي أن يكشف عنها ويمنحها للجامعة والمتخصصين لدراستها ومعرفة كنهها وسبر أغوارها، فربما كشفت لنا عن شعوب تلك المنطقة، وكثيراً من أسرارهم.



Create Account



Log In Your Account