الخميس 19 يوليو ,2018 الساعة: 04:47 مساءً
سامي الكاف *
انتقلت مجموعة كبيرة من النازحين من مدينة الحديدة التي تقع على البحر الأحمر وتبعد من العاصمة اليمنية صنعاء مسافة تصل إلى نحو 226 كيلومتراً، إلى مدينة عدن، العاصمة المؤقتة الآن لليمن.
النازحون حاولوا الهرب من المواجهات المسلحة التي تعصف بالمدينة، بين قوات الجيش الوطني المدعومة من التحالف العربي بقيادة السعودية، وبين الحوثيين في حرب مستمرة في هذا البلد المنكوب منذ 2015، لكن عدداً منهم لم يُسمَح لهم بمواصلة نزوحهم إلى عدن، فقد قامت مجموعة أمنية تتبع ألوية الحزام الأمني التي تم تأسيسها وتمويلها ودعمها من قبل دولة الإمارات، بمنع هؤلاء النازحين من مواصلة طريقهم باتجاه عدن.
عدد منهم بقوا في العراء أكثر من يومين على مدخل عدن، وتلقى بعضهم الشتائم من قبل الجنود. ومن سُمِح لهم بمواصلة طريقهم عانوا من عدم وجود سياسات إيوائية فاعلة.
أعاد هذا السلوك تسليط الضوء مجدداً على عدن ومدنيتها التي عُرفت بها من قبل. بدا لهؤلاء النازحين من الحديدة إلى عدن وكأن الأخيرة مدينة تحمل لهم ضغينة، وكُرهاً بلا مبرر. يقول عدنان جمّن، وهو فنان تشكيلي من عدن وهو في عقده السادس، “أهل الحديدة عانوا من ظلم سكان الهضبة طوال تاريخهم وسكنوا مدينة عدن آمنين منذ زمن بعيد… اليوم هناك من يشهر أنيابه بكراهية عمياء أمام أطفال ونساء هربوا إلى مدينة (أم اليتيم)، المدينة ذاتها التي فتحت ذراعيها لأجدادهم ذات يوم”.
بفعل تداعيات الحرب الأخيرة لم يعد اليمن كله كما كان من قبل وعدن كذلك بالضرورة.
وفق تقرير لمجموعة الأزمات الدولية صدر أخيراً فإن عدن، “مدينة مأخوذة رهينة في لعبة شد حبال متداخلة: هناك أنصار حكومة هادي من جهة، وخصومهم في المجلس الجنوبي المؤقت من جهة أخرى”.
ويضيف التقرير: “ثمة نزاع بين مصالح وطنية ومحلية متعارضة يسعى فيه الجميع إلى السيطرة على الموارد لكن ليس هناك قوة تحكم بشكل فعال”.
تبدو مدينة عدن، في تصور كثيرين من أبنائها، مجرد صورة باهتة الآن لمدينة فاضلة عاش سكانها في زمن فائت في تعايش اجتماعي كما لم تعش مدينة أخرى مثلها من قبل.
وعدن هي موطن ومقام للسفن، وكلمة عدن تعني أقام بالمكان فكلمة “عادن” تعني: مقيم، ويقال “عدن البلد” أي توطن البلد.
عصام خليدي: علينا إعادة إعمار الإنسان وبنائه سلوكياً وأدبياً وأخلاقياً
في أربعينات القرن الفائت وخمسيناته، كانت مدينة عدن قبلة لكل للقاصدين من مشارب وجنسيات مختلفة. كان سكان المدينة، “يتعايشون في ما بينهم في سلام ووئام لأنهم كانوا ينظرون إلى الآخر من باب التنوُّع والتعدُّدية والاختلاف والتعاون والتفاعل”، يقول العدني نديم حزام، عندما زرته في منزله في قلب مدينة كريتر بعدن.
شردت عينا نديم الذي يقترب من عقده التاسع، عندما كان يتحدث عن تلك الفترة؛ بدا وكأنه يعود بذاكرته إلى أيام جميلة لم يعد لها وجود.
عُرفت المدينة بمساجدها وكنائسها ومعابدها، وتعايشها الديني والاجتماعي بين سكانها.
تغير الأمر تماماً في العقود الأخيرة، ولا يعرف كثيرون لماذا صارت عدن على هذا النحو غير المتوقع، على رغم كونها صارت عاصمة مؤقتة للجمهورية اليمنية.
وتبدو الصورة الباهتة التي آلت إليها المدينة في الوقت الحاضر، والتي تقع جنوب شبه الجزيرة العربية، أكثر قساوة في ظل تنامي الكراهية والمناطقية على نحو لافت ومفزع. فضلاً عن ذلك، تعاني المدينة من تطرف ديني تغلغل في بنيتها الاجتماعية بشكل جلي.
بالنسبة إلى عدنان جُمّن فإن الواقع الحالي يناقض تاريخ المدينة، “كان يطلق عليها أجدادنا أم اليتيم منذ فجر التاريخ، كانت حضناً حنوناً لكل من ضاقت به الحياة في بلده وصارت وطناً له”.
تقع عدن على ساحل خليج عدن وبحر العرب جنوب اليمن، وعمرها وفق عدد من المراجع يمتد إلى ما قبل الميلاد. وقد ورد ذكرها في “سفر حزقيال” في العهد القديم كإحدى المدن ذات العلاقة التجارية مع مدينة صور اللبنانية، كونها كانت من المحطات المهمة لتجارة التوابل التي انتعشت لمدة ألفية كاملة.
احتلّت بريطانيا عام 1839 عدن وخرجت منها في 1967، إثر ثورة مسلحة بدأت في 1963. وتشير معلومات إلى أن ميناء عدن كان في أربعينات القرن الفائت يحتل المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد ميناء نيويورك.
يزيد عدد سكان عدن الآن عن مليون نسمة، وتعتبر أهم منفذ طبيعي على بحر العرب والمحيط الهندي فضلاً عن تحكمها بطريق البحر الأحمر، لكن سكان هذه المدينة صاروا في سنوات ما بعد الحرب التي حلت في 2015، يعيشون في أوضاع مأسوية كما لم يعهدوها من قبل، وقد نزح إليها كثيرون من المواطنين من محافظات أخرى لكن الحرب مستمرة ولا أحد يعلم متى يمكن لها أن تتوقف.
لم تعد عدن تعيش كما كانت في السابق في الأربعينات والخمسينات من القرن الفائت، فقد اختفت الكنائس والمعابد عن المدينة بعد أن كانت من أهم معالمها. وبدأت مؤشرات مناطقية تتجلى في تصرفات عدد من قادة الدولة الوليدة في جنوب اليمن بعد 1967 وبدأت الكراهية بين أفراد المجتمع تنتشر تدريجياً في ظل صراع سياسي محتدم على السلطة في كثير من جوانبه يقوم على أساس مناطقي عميق، وأسفر عن أحداث دموية ما برحت تتكرر كل بضع سنوات، أثّرت في النسيج الاجتماعي وبنيته المجتمعية.
بعد ذلك بسنوات كثيرة، بدأت ملامح ظهور جماعات دينية متطرفة وأخذت تنتشر بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 على نحو تصاعدي واضح، وتم تغيير المنهج التعليمي العلماني السائد في عدن، من قبل حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) بفعل سيطرته على العملية التعليمية في الدولة الجديدة، وكانت تداعيات ذلك عاملاً لما ستبدو عليه المدينة من تشدد ديني لاحقاً: انتشر التطرف الديني في أوساط معظم شرائح المجتمع في عدن بعد أن كانت مثالاً للتعدد الديني.
لم تكن هوية عدن من قبل على هذا النحو من الحياة اللاغية لهويات الآخرين، لكن الآن ثمة من يرى أن على عدن استعادة هويتها التي لطالما تميزت بها.
انتشار التطرف حدث بالتزامن مع اختفاء دور العرض (السينما) والمسارح أيضاً، وتراجع ملحوظ في الاهتمام بالفن عموماً إلى حد التلاشي. حتى المتحف الوحيد في المدينة طاوله التدمير.
لكن الأمر بالنسبة إلى سالم الكثيري، وهو من أبناء عدن، مختلف من وجهة نظره. فهو يرى، “تنامي الكراهية في عدن أساسه سياسي وليس اجتماعياً؛ لأن الساسة هم من استدعوا هذه النزعات لكي يحققوا مكاسب سياسية”. يظن الكثيري وهو في الأربعينات من عمره، و ينتمي إلى حزب الإصلاح، أن “بداية الكراهية كانت مع الأزمة السياسة التي سبقت حرب صيف 1994”. وهي حرب اجتاحت فيها قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح جنوب اليمن في 1994، وكان الشطران الشمالي والجنوبي قد توحدا في 1990.
يوضح الكثيري أن “من نتائج حرب 1994 ممارسات عنصرية ونهب واستعلاء ربما خلقت أجواء الاحتقان وزادت الشعور بالكراهية”. ويضيف: “الغريب أن الحياة السياسية والاجتماعية سارت بشكل طبيعي لا سيما من عام 1997 إلى 2007، إلى أن ظهرت قضية المتقاعدين العسكريين فأخذت طابعاً حقوقياً مطلبياً بداية الأمر، إلا أن تدخل السياسة مرة أخرى ولد تنامي الشعور بالنزعات العنصرية من جديد بعدما كانت الأمور مستقرة نسبياً”.
راح كثر من الساسة يستغلون احتجاجات عام 2007 المطالبة بحقوق المتقاعدين العسكريين في جنوب اليمن وحولوها إلى مطالب سياسية في ظل تجاهل النظام السابق النظر إلى هذه المطالب والإصرار على عدم حلها.باشر عدد من هؤلاء السياسيين الترويج لهوية جديدة قائمة على العداء مع المختلف فيصنفونه عدواً يتعين القضاء عليه من خلال خلط المطالب الحقوقية بالمطالب السياسية وبث روح الكراهية والمناطقية تجاه المنتمين إلى شمال اليمن باعتبارهم يمتلكون هوية مختلفة.
لم تكن هوية عدن من قبل على هذا النحو من الحياة اللاغية لهويات الآخرين، لكن الآن ثمة من يرى أن على عدن استعادة هويتها التي لطالما تميزت بها، غير أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يمكن تصورها.
قبل أيام أحرقت مجموعة مسلحة يُعتقد أنها من الجماعات المتشددة دينياً، أحد المقاهي الحديثة في المدينة بحجة أنها تسمح بالاختلاط بين الرجال والنساء. لم تقم الأجهزة الأمنية بما عليها تجاه الأمر. وبدت الحكومة غير مهتمة هي الأخرى.
نشرت عهد ياسين، وهي فتاة من عدن في العشرينات من عمرها، على صفحتها في موقع التواصل “فيسبوك” صورة قديمة (بالأبيض والأسود) يعود تاريخها إلى الخمسينات من القرن الفائت للشابة لطيفة يعقوب من عدن باعتبارها فازت بلقب أجمل فتاة وهي مسابقة كان يقيمها نادي المرأة العربية تلك الفترة وهذا أمر لم يعد له وجود.
كتبت عهد تعليقاً على الصورة: “فتاة من عدن شاركت في مسابقة الجمال وفازت. هذه عدن قبل التخلف والزحف الديني المتطرف”.
والآن لا يقتصر الأمر على أن المدينة لم تعد تتقبل التعدد الثقافي والديني بمختلف طوائفه؛ بل أيضاً ثمة قوى تحاول منع الاختلاط حتى في الأماكن العامة مثلما تفعل في المدارس.
والكنيسة الوحيدة الباقية في مديرية التواهي بعدن كمعلم دال على هوية عدن تم إقفالها وسرقة ما في داخلها، وتعرضت لمحاولة تفجير، لكن أهالي المنطقة حالوا دون ذلك.
من أجل إعادة عدن إلى مكانتها السابقة، يقول عصام خليدي وهو فنان وشاعر وملحن: “علينا إعادة إعمار الإنسان وبنائه سلوكياً وأدبياً وأخلاقياً. هذا الأمر في غاية الأهمية وأصعب ما يمكن مواجهته في حياتنا في قادم الأيام والسنين”.
يوضح عصام خليدي وجهة نظره بصفته أحد أبناء مدينة عدن قائلاً: “إعادة بناء الإنسان من الداخل تربوياً وتعليمياً وأخلاقياً تكمن في اتباع نظرية أنسنة الإنسان”. ويضيف: “من وجهة نظري ذلك هو المحك الحقيقي والعملي للنهوض بالأمة من كبوتها وفسادها وسقوطها المدوي في الوقت الراهن”..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نقلاً عن موقع درج