الإثنين 19 فبراير ,2024 الساعة: 09:36 مساءً
عندما ثار اليمنيون في الــ26 من سبتمبر 1962م كان هدفهم تحويل بلادهم إلى دولة ووطن، وهذا التوجه والطموح الثوري نجده في الأهداف الستة التي أعلنتها ثورة سبتمبر. فالدولة لم تكن موجودة في حياة اليمنيين ولم تشكل كيانا سياسيا ودستوريا وحتى قانوني ناظم لليمنيين في ظل الإمامة التي تولت مقاليد السلطة الحاكمة بفكر سياسي -سلالي- ممانع لفكرة الدولة.
لهذا استمرت القطيعة التاريخية والثقافية مع فكرة الدولة في شمال اليمن مع تولي الإمامة مقاليد السلطة السياسية الحاكمة على إثر انسحاب القوات العثمانية وحتى سقوط الإمامة 1962م مع قيام ثورة الجمهورية في صبيحة الـ26 من سبتمبر على يد تنظيم الضباط الأحرار.
في جنوب اليمن كانت الأوضاع لا تفرق كثيرا بخصوص غياب دولة اليمنيين، فقد كان جنوب اليمن خاضعا لسلطة الاستعمار البريطاني مع حرص هذا الأخير على منح العقل السياسي التاريخي، سلطات سياسية متعددة قُسم بموجبها جنوب اليمن إلى 22 سلطنة ومشيخة خاضعة مركزياً إلى سلطة الاستعمار البريطاني الحاكم في العاصمة عدن.
استمرت القطيعة التاريخية مع فكرة الدولة في الجنوب حتى تمكن اليمنيون من طرد قوات الاستعمار البريطاني وإسقاط السلطنات والمشيخات 1967م على إثر ثورة الـ14 من أكتوبر التي فجرتها الجبهة القومية عام 1963م.
مع ثورة الجمهورية والتحرير في اليمن (سبتمبر وأكتوبر) كان لا بد أن يخوض اليمنيون معركة بناء الدولة الوطنية من نقطة الصفر لا سيما في شمال اليمن، الذي لم يترك فيه نظام الإمامة شيئا يذكر مما يتعلق بأسس بناء الدولة على المستوى السياسي والثقافي بعكس واقع الحال مع مدينة عدن التي اختلفت بعض الشيء في ظل سلطة الاستعمار.
فالثورة اليمنية أو ثورة الجمهورية كانت معنية في تحويل فكرة الجمهورية ومحتواها التقدمي، إلى كيان سياسي واجتماعي وحتى اقتصادي يجسد سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية في حياة اليمنيين على مستوى الشطرين، خصوصاً بعد أن تمكنت ثورة 14 أكتوبر من طرد المستعمر البريطاني وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م.
إلا أن التدخل الرجعي الإقليمي والهادف في الأساس إلى عودة الملكية الإمامية في شمال اليمن، جعل الثورة بدلاً من أن تتوجه إلى معركة بناء الدولة الوطنية توجهت إلى الحرب العسكرية التي استمرت ثماني سنوات مع قوات الملكية الإمامية المدعومة بالمال والسلاح.
ناهيك أن الاحتشاد اللاثوري (المكثف) داخل معسكر الثورة، قد أدى إلى إضعاف وتغييب سلطة الفكرة الثورية، لصالح سلطة الاستحقاق التاريخي داخل معسكر الجمهورية، وتحديدا بعد انسحاب قوات مصر عبد الناصر، وانقلاب 5 نوفمبر وما تلا ذلك من صدامات مسلحة في أحداث اغسطس 1968م، لا سيما مع ما ترتب على الانقلاب والأحداث من نتائج سياسية وعسكرية ممانعة لأهداف وتطلعات ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م.
كل ذلك قد جعل تسوية الصراع السياسي وإيقاف الحرب العسكرية بين الملكيين والجمهوريين، تتم على أساس التخلص من فكرة التغيير الثورية (تحقيق التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي)، بمعنى آخر وقف الحرب والاعتراف بالجمهورية على حساب الملكية مقابل تولي القبيلة السياسية الجهوية مقاليد السلطة السياسية للجمهورية في الشمال على حساب سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية التي يجب أن تكون نتاجا لثورة سبتمبر.
خصوصا وأن انضمام مشايخ القبيلة إلى معسكر الثورة لم يكن بدوافع الخصومة والثأر من بيت حميد الدين فحسب، بل إضافة إلى ذلك كان هذا الانضمام يأتي في سياق طموحات سياسية، تتمثل في اعتقاد القبيلة السياسية (الجهوية / الزيدية) بأنها وحدها صاحبة الحق في وراثة سلطة الإمامة الزيدية، الأمر الذي جعل القبيلة السياسية "الجهوية" تحكم شمال اليمن بعد الثورة وفي ظل الجمهورية، على حساب مصادرة وتغييب سلطة الدولة الوطنية حتى قيام الوحدة اليمنية.
صحيح أن الرئيس صالح عمل في 1982م، على تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام الذي بدأت فكرة تأسيسه مع الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، إلا أن المؤتمر الشعبي العام ظل حزبا سياسيا بيد السلطة الحاكمة ويعبر عن توجهها وليس قائداً أو موجهاً لها.
فمسألة القيادة السياسية لزمام السلطة الحاكمة في الشمال ظلت بيد العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن وليس بيد العقل السياسي الحزبي.
في جنوب اليمن كان لثورة 14 أكتوبر مسار سياسي واجتماعي وحتى اقتصادي وثقافي مغاير.
فهي في المقام الأول، أي الثورة، قد اندلعت ضد الوجود الاستعماري البريطاني، وفي المقام الثاني نجد أن العقل السياسي الحزبي (الجبهة القومية) هو من فجر الثورة وقاد مسارها السياسي الوطني بشكل مباشر، حتى تحقق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م،
ثم تحولت الجبهة القومية المسلحة بعد الاستقلال إلى تنظيم سياسي حزبي يقود سلطة الاستقلال الوطني وتوجهها السياسي والاجتماعي في جنوب اليمن، وهذا بحد ذاته كان يعبر ويعكس وجود أسباب ونتائج إيجابية تتعلق بمسار الثورة وأحداثها السياسية على المستوى الوطني مقارنة مع مسار ثورة سبتمبر وأحداثها السياسية والعسكرية في شمال اليمن التي كانت على حساب فكرة التغيير.
وعطفا على ذلك إذا كان العقل السياسي الحزبي في الجبهة القومية قد جعل الفعل الثوري في أكتوبر خاليا من مسألة الاحتشاد اللاثوري، فإن ذلك قد جعل معسكر الثورة وسلطتها السياسية خالية من وجود حلقات تواصل مع القوى الرجعية المعادية للثورة، لا سيما في مساعيها الرامية إلى دعم قوى أو تكتلات سياسية تتصدر المشهد السياسي في الجنوب وتعمل على تعطيل المحتوى السياسي والاجتماعي للجمهورية الوليدة في الجنوب من داخل معسكر الثورة.
وبرغم الصراع السياسي والاقتتال العسكري الذي كان يتكرر بين الحين والآخر داخل قيادة الحزب والسلطة، إلا أن فكرة الثورة لم تتعرض للانقلاب التاريخي من داخل سلطة الثورة، لان الصراع لم يكن يتعلق بالحفاظ على جوهر الماضي الذي استهدفته الثورة أو من أجل حضوره في ظل الجمهورية، بل كان صراعا في ظل توجهات أيديولوجية كما حدث مع قحطان، وصراعا سياسيا على مقاعد السلطة كما حدث مع سالمين وعلى ناصر.
صحيح أن الصراع والاقتتال أثر على فكرة التغيير في الجنوب لكنه لم يكن انقلابا عليها بالمعنى الذي حدث في شمال اليمن، كما أن مقاليد السلطة السياسية «وهذا الأهم» ظلت دائما بيد العقل السياسي الحزبي برغم تكرار الصراعات والاقتتال، لأن العقل السياسي الحزبي لم يتحالف مع أي مكون من مكونات العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن ولم يسمح له بموطئ قدم داخل معسكر الثورة.
فقد قضى العقل السياسي الحزبي (للجبهة القومية) على السلطة السياسية والاجتماعية للمشيخيات والسلطنات وثقافتها واعتبرها من مخلفات الاستعمار، كما لم يعمل على استدعاء القبيلة السياسية ويشرعن لها وجود ومهام سياسية بقرارات جمهورية هي في الأساس من اختصاص سلطة الدولة كما حدث في شمال اليمن، لا سيما القرار الجمهوري الصادر عام 1963م.
إذن، من مآلات ذلك نستطيع القول إن مسار الثورة في جنوب اليمن قد جعل الجمهورية تعبر عن نفسها بدولة النظام والقانون والعدالة الاجتماعية، ما يعني أن النظام السياسي الحاكم كان يعبر عن المحتوى السياسي والاجتماعي للجمهورية في الجنوب، غير أن هذه الدول على المستوى السياسي الوطني كانت تعني دولة الحزب الحاكم التي أقصت الآخر ولم تعترف بوجوده السياسي، وفي المقابل نجد أن مسار الثورة في الشمال قد جعل الجمهورية تعبر عن نفسها بسلطة القبيلة السياسية الجهوية، ما يعني أن بنية النظام السياسي الحاكم في الشمال كان نقيضا سياسيا واجتماعيا لمحتوى الجمهورية.
ما كان يعني في نهاية المطاف النتيجة، أن الدولة الوطنية الديمقراطية بقدر ما أن جذر المشكلة اليمنية وأسبابها تكمن في غيابها ككيان سياسي واجتماعي، بقدر ما يعني ذلك أن السلطة السياسية لهذه الدولة الوطنية الديمقراطية، كانت هي السلطة الغائبة في حكم الشمال والجنوب على حد سواء منذ ثورة الجمهورية وحتى دولة الوحدة اليمنية.
لهذا ذهب الشمال والجنوب (في ظل المراجعات النقدية للعقل السياسي الحزبي) إلى دولة الوحدة اليمنية 1990م بناءً على التزام أطراف الوحدة بمرجعيات سياسية وحدوية/ دستورية وقانونية / تؤسس لقيام الدولة الوطنية الديمقراطية، على حساب سلطة القبيلة السياسية الحاكمة في الشمال وعلى حساب دولة الحزب الحاكم في الجنوب.
بحيث كان لزاماً بأن تتحول اليمن في ظل هذا التحول السياسي والاجتماعي إلى وطن يلغي ماضي التشطير السياسي، وفي المقابل يتحول معه اليمنيون في الشمال والجنوب إلى مواطنين في ظل الحرية والعدالة والكرامة.
السؤال الكبير والمركب يقول : لماذا لم تتحول دولة الوحدة اليمنية بناءً على مرجعياتها السياسية إلى دولة وطنيه ديمقراطية تلغي ماضي التشطير وفي نفس الوقت تلغي حاجه اليمنيين للثورة الثالثة ؟