ورطة مزدوجة.. ما بعد مذكرة المحكمة
السبت 23 نوفمبر ,2024 الساعة: 05:24 مساءً

تأسس النظام الدولي القائم على مجموعة قيم لتفتح الباب أمام مرحلة منافية لما سبق. 
وأهم هذه القيم الحق والعدل. كان النجاح نسبياً في تحقيق هذه القيم وإنزالها إلى أرض الواقع. مع هذا ظهر انكفاء كبير عن الاعتراف بنتائج الحرب وفرض واقع سياسي جديد يقوم على القوة والقوة لا غير. 

واتسم العهد الجديد عقب الحرب العالمية الثانية بعلو مقام الغطاء القانوني أمام أي فعل في العلاقات الدولية. 

شُيدت مؤسسات لهذا الغرض لتنهض بتحديد الشرعية القانونية لفعل ما. مع الوقت انسحب القانون من تحديد العلاقة بين الدول إلى العلاقة داخل الدولة للحد من الحروب المدمرة والإبادة وكبح الجرائم بحق الإنسانية والامتثال لقانون الحرب. 

ما تزال النتايج بعيده عن المأمول إلا أنها كبحت كثيرا الحروب المفتوح وقلصت القتل المباشر الكثيف. 

وحرصت الدول المنشئة وذات اليد الطولى في النظام الدولي الجديد على اكتساب غطاء قانوني لأفعالها بما فيها الأفعال المجنونة والحربية وأفعال الهيمنة.

وعندما نقول "قانون" فاننا على نحو ما نقصد الأخلاق وأن كانت اخلاقا غير إطلاقية وتهدف إلى عدل متواضع عليه يؤطّر نشاط الفاعلين. 

اثبتت المواقف السياسية تباعا حدود هذا النظام حين تبنت بعض القوى مواقف مزدوجة وسمحت بتجاوز محددات النظام الدولي وقوانينه. خصوصا عندما يصب ذلك في مصلحة طرف ويناسب خطابه وادعاءاته القيمية. 

كان أكثر اختراق يتمثل باحتكار تعريف مفهوم الإرهاب وفي ظل لبس كبير ميداني. 

لكن الحرب الدائرة في غزة كشفت حدود هذا الغطاء بشكل فج وادخلت الشعوب والدول في أزمة قيمية وحضارية وظهرت الانقسامات والتباينات في الإرادات داخل المجتمع الواحد حيث تذهب الحكومات إلى تبني خيارات منعزلة عن الإرادة المجتمعية تحت غطاء سياسي. 

مرة أخرى كانت تعليلات الحكومة المساندة للكيان دون شرط هي مكافحة الإرهاب وحق الدفاع (من عدو داخلي). لم تستخدم كلمة فرض الأمن والنظام. 

إلا أن جر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والعربي  إلى أروقة المحكمة الدولية أضاف بعداً آخراً للورطة (الغربية ولكن العربية أيضا) وكلما تقدم الملف اشتدت حدة الورطة لأنها هذه المرة تمس الغطاء القانوني - الأخلاقي الذي تحرص عليه الدول. 

ماذا الآن وقد صدرت مذكرة اعتقال بحق نتنياهو وغالينت وقادة فلسطينيين من الحركة أغلبهم قد مات مقتولاً؟ 

من الممكن المناورة سياسياً والتلاعب بالغطاء القانوني الأخلاقي لكن يصعب التلاعب على المدونة القانونية التي اسمهت الدول الداعمة للكيان في صياغتها.

الدول الرافضة لمذكرة المحكمة الآن تقف ضد القانون وضد العدالة. انقشع الغطاء السياسي ولن يكون من السهل طمس ادعاءات جرائم إنسانية وجرائم حرب تصل إلى مستوى الإبادة. 

كلما علت نبرة الرفض لمذكرة الاعتقال بدت الدول الرافضة مارقة وقوضت شرعيتها الدولية. لكنها تسهم في تقويض النظام الدولي الراهن ليظهر نظام بديل لا تهيمن عليه بالضرورة أو على الأقل مكانها داخله سيتغير قيمياً وعملياً. 

ستجد الدول نفسها في موقف حرج أولا مع مواطنيها والحركات السياسية المعارضة لها. ستكون مواقفها بلا شرعية وسينقسم الغطاء "الحضاري" الذي تتدثر به في حروبها أو موالاتها غير المشروطة لجرائم الكيان مفتوحة.

سيكون للقرار أهمية أكبر إذا تلقفته منظمات وحركات ومجاميع شعبية وجعلته معيارا في التعامل الاقتصادي والعلمي والمالي والسياسي مع الكيان.

صحيح أن القرار يمس أشخاصا بعينهم لكنهم يمثل هزة كبيرة للسرديات المؤسسة وشرعية الوجود لكل من الكيان المحتل وحركة المقاومة وهذا وجه الخطورة فيه. 

قرار المحكمة بأمر القبض مكسب معنوي مهم في مسارات العدالة ويمكن أن يشكل لبنة أمام حالات الإستبداد المختلطة بقتل وجرائم في بلدان عديدة ليست بالضرورة طرفاً في المحكمة. 

القرار يعيد الاعتبار للمسارات العدلية والعمل النضالي للتحرر من الاحتلال. ويمثل دافعا معنويا للأصوات المناهضة لهذه الجريمة التي يتم إسكاتها بأشكال متعددة منها معادات السامية أو التشجيع على الإرهاب أو الاسلاموية. 

لا أتوقع التطبيق السريع للمذكرة لكن القرار يطعن في الفوقية المطلقة للدول الديمقراطية لمجرد أنها ديمقراطية فإنها في مأمن من الانزلاق في اثام القوة وزلات البشر. 

ثم أي ديمقراطية تلك التي يدوم رئيسها ثلاثة عقود. إنها ديمقراطية لا تختلف عن النظم الشمولية حيث تأييد الحاكم وحاشيته.

نقلا عن صحفة الكاتب على منصة إكس


Create Account



Log In Your Account