تعليقاً علي رد احمد الشرع ...ترسيخ مكتسبات الثورات: بين فلسفة اللون الواحد والمحاصصة
الثلاثاء 31 ديسمبر ,2024 الساعة: 05:49 مساءً


شهدت المنطقة العربية تحولات سياسية كبرى مع اندلاع موجة الربيع العربي، حيث أصبحت الشرعية الثورية محورًا أساسيًا في إدارة المراحل الانتقالية التي تلت الثورات. ومع ذلك، فإن غياب هذه الشرعية أو استبدالها بحلول توافقية أدت في كثير من الحالات إلى إجهاض أهداف الثورات، وفتح جراح لم تندم سياسيا ونفسياً واجتماعيا حتي هذه اللحظة ، وفتح  تساؤلات عميقة ، وجوهرية حول قدرة هذه الدول على تحقيق التغيير المنشود ، دور المحاصصة السياسية في تعقيد المشهد العربي بعد نجاح الثورات، حيث سهّلت اختراق قوى الثورة المضادة للمشهد السياسي وإضعاف مكتسبات الثورات.

غياب الوعي 

ضعف الوعي السياسي وعدم الاتعاظ بالتجارب الثورية السابقة كان عاملًا أساسيًا في فشل العديد من ثورات الربيع العربي، حيث أدت المثالية في التغني بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان قبل ترسيخ أسس الثورة إلى انقسامات داخلية عميقة وصدامات دموية. هذا النهج تجاهل أهمية تفكيك المصطلحات الدولية السياسية وفهم طبيعة المراحل الانتقالية، ما أدى إلى الانشغال بقضايا هامشية على حساب القضايا الجوهرية، وإلى استنزاف الطاقات في نزاعات لا تخدم أهداف الثورة.

النموذج السوري الذي عبّر عنه أحمد الشرع في مقابلة مع قناة العربية، أو ما سماه "اللون الواحد"، يعكس وعيًا سياسيًا ناضجًا استُمد من دراسة أخطاء التجارب السابقة. هذا النموذج يركز على بناء قيادة موحدة ومنسجمة خلال المرحلة الانتقالية، بعيدًا عن التوافقات الهشة التي غالبًا ما تؤدي إلى تعطيل مسار التغيير. إنه طرح عملي يعكس فهمًا عميقًا لمتطلبات إدارة المراحل الانتقالية وتجنب الفوضى التي قادت إلى العنف في تجارب أخرى.

مفهوم الشرعية الثورية وفلسفتها

تشير الشرعية الثورية إلى الوضع القانوني والسياسي الذي ينشأ عقب الإطاحة بالنظام القديم، إذ تُمنح القيادة الثورية صلاحيات استثنائية لإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مبادئ الثورة. على سبيل المثال، نجحت الثورة الفرنسية (1789) في تجريد النظام الملكي من شرعيته وإعادة صياغة الدولة بالكامل على أسس جديدة تعكس مبادئ الثورة.

فلسفيًا، تعكس الشرعية الثورية حالة من القطيعة مع الماضي، حيث تصبح السلطة بيد الشعب الذي يملي إرادته من خلال القيادة الثورية. على النقيض، غياب هذه الشرعية يؤدي إلى تعقيدات سياسية واجتماعية، كما حدث في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، حيث افتقرت البلاد إلى قيادة موحدة تستمد شرعيتها من الثورة، ما أدى إلى صراع داخلي بين الأطراف المسلحة وتدخل خارجي واسع.

الفرق بين الشرعية الثورية والتوافق

التجربة التونسية بعد ثورة 2011 تُظهر محدودية التوافق السياسي كوسيلة لإدارة المرحلة الانتقالية. فرغم نجاح الثورة في الإطاحة بالنظام، إلا أن التوافق بين الأطراف السياسية أدى إلى بطء في تنفيذ الإصلاحات وإبقاء مؤسسات الدولة العميقة دون تغيير جذري.

على النقيض، اعتمدت الثورة البلشفية (1917) على شرعية ثورية واضحة، حيث ألغت النظام القيصري واتخذت قرارات جذرية مثل تأميم الأراضي، مما ساعدها على تأسيس نظام جديد يتماشى مع مبادئها. في اليمن، أدى اعتماد نموذج التوافق بعد ثورة 2011 إلى الإبقاء على نفوذ رموز النظام القديم داخل مؤسسات الدولة، والدخول في خلافات عميقة حول قضايا كان يمكن مناقشتها في مرحلة لاحقة لتعميق جذور الثورة ، مما خلق حالة من الرخاوة ، مهدت الطريق أمام الحوثيين للسيطرة على العاصمة صنعاء في 2014.

 
المحاصصة وأثرها على الثورات العربية

ساهمت المحاصصة السياسية في إدخال الربيع العربي في صراعات معقدة وسهلت اختراق الثورات من قبل قوى الثورة المضادة. في لبنان، على سبيل المثال، فإن نظام المحاصصة الطائفية الذي تأسس بعد اتفاق الطائف (1989) أصبح أداة لتكريس الانقسامات الداخلية واستمرار سيطرة النخب التقليدية، مما منع البلاد من إجراء إصلاحات حقيقية.

في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، أدى نظام المحاصصة الطائفية إلى تفاقم الانقسامات وتعطيل بناء مؤسسات الدولة. أما في السودان، فإن اتفاق تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين في 2019 أدى إلى تعثر المرحلة الانتقالية، حيث استغل العسكريون الانقسامات الداخلية للانقلاب على الحكومة المدنية واستعادة السيطرة ،هذه النماذج تؤكد أن المحاصصة تسهم في فتح المجال أمام قوى الثورة المضادة لاختراق المشهد السياسي وإجهاض مشروع التغيير.

حكومة اللون الواحد: فلسفة الانسجام الثوري

طرح أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية السورية، فكرة حكومة اللون الواحد كخيار لإدارة المرحلة الانتقالية في سوريا. هذا النهج، الذي استُخدم بنجاح في الثورة الجزائرية بعد الاستقلال (1962)، يتيح للقيادة الثورية صلاحيات واسعة لتنفيذ إصلاحات جذرية دون الحاجة لإرضاء أطراف متباينة المصالح.

في المقابل، الحكومات التوافقية كثيرًا ما تؤدي إلى شلل في عملية اتخاذ القرار، كما حدث في العراق وفي تونس بعد ثورة 2011. حكومة اللون الواحد، المستندة إلى شرعية ثورية صلبة، تُظهر قدرة على سرعة اتخاذ القرارات الجذرية ، تقليل فرص النزاع الداخلي ، تعزيز قدرة الحكومة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية.

الثورات المضادة واختراق المحاصصة

التجربة المصرية بعد ثورة 2011 تُظهر كيف تمكنت قوى الثورة المضادة من استغلال التوافق السياسي لإعادة تنظيم صفوفها. في البداية، تم تشكيل حكومة توافقية ضمت أطيافًا مختلفة، لكن غياب شرعية ثورية واضحة أتاح للجيش العودة إلى السلطة من خلال انقلاب 2013.

في اليمن، أدى التوافق السياسي الذي أعقب الثورة إلى بقاء نفوذ القوى التقليدية داخل النظام، ما أفسح المجال أمام الحوثيين لإضعاف الدولة والانقلاب عليها. هذه النماذج تؤكد أن المحاصصة تسهم في فتح المجال أمام قوى الثورة المضادة لاختراق المشهد السياسي وإجهاض مشروع التغيير. 

دروس التاريخ: نجاحات وإخفاقات

التجارب التاريخية تقدم دروسًا غنية حول أهمية الشرعية الثورية. في كوبا (1959)، أسس فيدل كاسترو نظامًا جديدًا قائمًا على شرعية ثورية صارمة، مما ساعده على مقاومة الضغوط الخارجية وبناء دولة اشتراكية استمرت لعقود. بالمقابل، في تونس، أدى الاعتماد على توافق هش إلى تأخير الإصلاحات وفتح المجال أمام القوى المناهضة للثورة لإعادة تنظيم صفوفها.

في السودان، أدى غياب وضوح الشرعية الثورية وظهور التوافق مع المجلس العسكري إلى انقسامات أضعفت مسار الانتقال الديمقراطي، ما أدى لاحقًا إلى انقلاب عسكري أعاق تحقيق أهداف الثورة.

التحديات والضغوط الدولية

رغم أهمية الشرعية الثورية، تواجه تحديات كبيرة، أبرزها الضغوط الدولية التي تدفع غالبًا نحو حلول توافقية تُضعف قدرة القيادة الثورية على اتخاذ قرارات جذرية. في ليبيا، أدى التدخل الدولي إلى تعقيد المشهد السياسي ومنع تحقيق الاستقرار. كما أن عدم اعتراف المجتمع الدولي بشرعية بعض الحكومات الثورية، كما حدث مع حكومة طالبان الأولى في أفغانستان (1996)، يعيق تنفيذ أجندتها الوطنية.

الخاتمة

الشرعية الثورية ليست مجرد وسيلة لإدارة المرحلة الانتقالية، بل هي الضامن الأساسي لتحقيق أهداف الثورة وبناء نظام سياسي جديد يتماشى مع تطلعات الشعب. مقارنةً بالتوافق والمحاصصة، أثبتت الشرعية الثورية قدرتها على مواجهة التحديات وإعادة صياغة النظام السياسي.

التجارب التاريخية تؤكد أن غياب هذه الشرعية أو تمييعها تحت مظلة التوافق يؤدي إلى تعثر الثورات وفتح المجال أمام قوى الثورة المضادة. لذلك، فإن التمسك بشرعية ثورية صلبة وتشكيل حكومة متجانسة يمثل الخيار الأمثل لضمان نجاح المرحلة الانتقالية وبناء دولة قادرة على تحقيق العدالة والاستقرار.

 



Create Account



Log In Your Account