"إن بي رغبة للبكاء" يا أحمد ضيف الله العواضي
الخميس 27 فبراير ,2025 الساعة: 05:01 مساءً
فتحي أبو النصر


كيف لرجل مثل أحمد ضيف الله العواضي أن يتوارى؟
 كيف لمن حمل الشعر كما يحمل القلب أحزانه أن يلوذ بالصمت في زمن الضجيج الرديء؟
بل كيف لصوت صادق، نزيه، جمّ التواضع، شديد الرفعة، أن يتراجع إلى الظل، فيما يتصدر المشهد اليوم شعراء الاستجداء والتصفيق؟
"ان بي رغبة للبكاء" يا أحمد، لأننا أصبحنا تحت رحمة الميليشيات، ولأن بلادك التي أحببتها حتى الإنهاك باتت مسلوبة، مشوهة، ويُطلب منا أن نصمت أمام هذا الخراب العظيم!
والشاهد أنه في زمن كانت السياسة تطحن الجميع، اختار العواضي أن يكون صوتا مستقلا رغم قربه من السلطة. 
عمل في البرلمان، نعم، لكنه لم يكن كغيره، لم يبتذل، لم يبع نفسه لمصالح ضيقة، بل ظل جمهوريا حتى العظم، عروبيا حتى النخاع، شاعرا حتى آخر نبضة في روحه.
كذلك كان يدرك أن الشعر ليس ترفا، بل موقفٌ ضد الظلم، حتى وإن جاء مغلفا بالقصائد والمجاز.

هذا البيضاني، ابن آل عواض الذين سقطوا بمئات الشهداء في ثورة 1962، لم يكن يتعامل مع إرثه كثقل اجتماعي فحسب، بل كرسالة. 
وحين أصدر ديوانه الأول" إن بي رغبة للبكاء عام 1994" تهكم عليه أبناء قبيلته: "كيف تبكي وأنت رجل؟!" 
كان يضحك حين يروي لي هذه القصة، والحق أنه كان يشفق على تلك العقول التي ربطت الرجولة بالصمت عن الألم.
 لكنه لم يصمت، كتب من وجعه ووجع اليمن، كتب حتى صار الشعر في يده خنجرا مغروسا في خاصرة الخنوع.

بمعنى أدق لم يكن العواضي مجرد شاعر تقليدي، بل واحدا من أهم شعراء الثمانينات وأكثرهم نضجا. 
وأعني أن بلغ بشعره مستوى جعل اتحاد الأدباء والكتاب العرب يختاره عن استحقاق لتمثيل اليمن في المحافل العالمية، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والنرويجية والهولندية.

طبعا كان يمكن له أن يذوب في السلطة مثل كثيرين، لكنه اختار طريقا أكثر وعورة، حيث النزاهة لا تمنحك النفوذ، والشعر لا يطعمك ذهبا، لكنه يبقيك حيا في ضمائر الأحرار.

داخل أروقة البرلمان، إذ عمل مديرا عاما للعلاقات الخارجية والمراسم منذ 1983، لم يكن مجرد موظف، بل مثقفٌ يراقب، يعاتب، يرفض. 
رأيته في المؤتمر العام لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عدن 2010 حين وقف يعاتب من يوزعون الأموال لشراء الولاءات، سمعته وهو يقول لهم: "اخجلوا قليلا يا هؤلاء!" .
حقيقة لم يكن احمد ضيف الله العواضي رجل مساومات، بل لم يضعف، لم ينحدر إلى المستنقع. 
و 
وكان يدرك أن المواقف قد تكلفه كثيرا. !
في قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع صنعاء، خاض معارك، ليس دفاعا عن نفسه، بل عن الأدب، عن الحق. مرة في أحد الاجتماعات، استفزته ابتسام المتوكل، هاجمته بدبّة "شملان"، وخرجت الشائعات لتشوه الحقيقة، فكتبت عنه بما لا يليق. لكن العواضي ظل هو نفسه، نقيا كما كان، مخلصا لجوهره الإنساني النبيل، مؤمنا أن الشعر، حين يكون حقيقيا، لا يمكن تلويثه بالإشاعات. فسامحني. 

تذكيرا كان مترجما بارعا، يتنقل بين اللغات كما يتنقل بين عوالم الشعر. 
لكن كثيرا من ترجماته لم تنشر، كانت محفوظة في ذاكرته وفي ذاكرتنا حين كنا نسمعها منه في المقيل الأسبوعي في مقر الاتحاد.
كذلك لم يسعَ إلى المجد السهل، بل لم يكن ممن يطرقون الأبواب ليرفعوا أسماءهم، كان يكفيه أن يكون صادقا مع نفسه، ومع الشعر، ومع اليمن.

واليمن، يا أحمد، يا صاحبي، لم يعد يشبهك. هذا الوطن الذي كنت تكتب له، صار يضيق على أمثالك. 
نعم ، الميليشيات التي لم تؤمن يوما بالشعر، ولم تفهم يوما معنى النزاهة، أحكمت قبضتها على كل شيء، حتى الهواء صار ملوثا بالكراهية. 
فيا ترى هل تبكي الآن مثلي، كما بكيت حين كتبت ديوانك الأول؟ وهل تشعر أننا في زمن يستحق ألف ديوان من "مقامات الدهشة"، أم أن الدهشة باتت ترفا في وطن غارق في الفجيعة؟

اليوم، وأنت تتوارى خلف حزن البلاد الكبير، يا احمد ، تظل القصائد التي كتبتها شاهدة أنك كنت هنا، أنك كنت شاعرا سابقا لعصرك.
بل أنك كنت أكثر من مجرد اسم في قائمة الأدباء، كنت ضميرا حيا في زمن يمتلئ بالجثث. فلا عاش شانئوك، ولا عاش الذين أرادوا للشعر أن يكون مجرد زينة في صدر الطغاة.
و 
"ان بي رغبة للبكاء،" يا أحمد ضيف الله العواضي، لأن بلادك التي أحببتها لم تعد بلادنا، ولأن الشعراء الحقيقيين يُدفعون إلى الخلف، بينما يتصدر المشهد أراذل القوم.


Create Account



Log In Your Account