الأربعاء 26 مارس ,2025 الساعة: 01:20 صباحاً
في أتون هذه الحرب، لم ينجُ أحد من طاحونة المعاناة، تبدّلت الأحوال، وانقلبت حياة الكثيرين رأسًا على عقب. ومع ذلك، ليس كل محتاج يُرى بعين الحاجة، وليس كل فقير يمدّ يده طلبًا للعون. إن فعل الخير، كي يبلغ غايته السامية ويصل لمستحقيه الحقيقيين، يحتاج إلى تحرٍّ دقيق، إلى إعادة النظر في معايير العطاء.
المتعففون.. قلوبٌ تعاني بصمت
هناك شريحة من المحتاجين، لا يعلم بحالهم إلا الله، أناسٌ "لا يسألون اللهإلحافا" ، لا يُلحّون، يحرصون على أن يبدون في مظهرهم وظاهرهم كما اعتادوا أن يكونوا، أن لا تفضحهم الحاجة ولا تَخدش عزّتهم. يخفون آلامهم خلف ابتساماتٍ متماسكة، يُدبّرون أمورهم بصمتٍ مهيب، ولا يشكون إلا حين تضيق بهم الأرض بما رحبت.
لهم كبرياء يأبى أن يجعل أيديهم سفلى، وأنفة تمنعهم من الوقوف بباب السؤال. هؤلاء هم الأجدر بالبحث عنهم، فهم الذين يذوبون في زحام الحياة دون أن يلتفت إليهم أحد.
والحقيقة مُرّة، فنحن نحكم على الآخرين بظاهرهم، ونمنح معونتنا لمن تبدو حاجته جليَّة، أو لمن يُلحّ في الطلب. لذلك كان من الطبيعي أن يحظى المعروف بحاجته بكل عطاء، ليس لأن حاجته أشدّ، بل لأنه ببساطة مرئيٌّ أكثر، ولأننا لا نكلف أنفسنا عناء البحث عن أولئك الذين يتوارون خلف ستار العفة.
تأمّل معي.. لو أن شخصا فقيرا يعيش في حيٍّ ما، يعرف الجميع بحاله، وبجانبه شخص آخر متعفف،
وصادف أن كان في نفس الحي عشرة ميسورين ومتصدقين،
إلى أين ستذهب صدقة هؤلاء العشرة ؟!
ماذا عن ذلك الموظف الذي يتقاضى ستون أو مائة أو حتى مائتين ألف؟ ماذا يفعل له راتبه؟!
راتبه لا يكفيه لتوفير سلة غذائية،
ومع ذلك،
لم ينظر إليه أحد لأنه لا يبدو فقيرًا كما يجب!
كم من معلم، أو جندي، أو عامل بسيط، يصارع في الخفاء لتوفير أساسيات الحياة، لكن كبرياءه يحجبه عن أعين المتصدقين؟
الخير فِطنة.. لا يكفي أن نعطي، بل أن نُحسن العطاء.
قد يكون المحتاج أقرب إليك مما تتصور: أختك، قريبك، جارك، زميلك..
لكنه لا يمد يده، فهل تفطّنت لحاله؟
هل تحققت في أمره؟
إن فعل الخير لا يكفي وحده ما لم يرافقه وعيٌ ونباهة،
ما لم يصبّ في موضعه الصحيح.
ولاشك أن الأمر ليس سهلا،
كما أن ليس كل ذي خير يفطن!!
لكنه جهدٌ بقدر المستطاع، وما من خير أعظم من خير ويدٍ تمتد لتعين مُحتاج قبل تكلفهِ عناء السؤال..