الشجرة التي سقطت… ولم تمت
الثلاثاء 22 أبريل ,2025 الساعة: 03:51 مساءً



في بلاد كاليمن، لا تمرّ الأحداث مرورًا عابرًا، ولا تسقط الرموز بلا أثر. فكلّ حجر هنا له ذاكرة، وكلّ ظلّ له حكاية. وقبل أيام، سقطت شجرة الغريب، المَعلَم الطبيعي البارز، الذي يمتدّ عمره لأكثر من ألفي عام. كلّ شخص، ربما، في المحافظة، له معها ذكرى. وقد شكّل هذا السقوط حدثا وطنيًا؛ كتب فيه الجميع شجونهم وذكرياتهم، إذ تحوّلت الشجرة إلى فرد من كل بيت تعزي. فهي ليست مجرد جذعٍ يابس انتهى عمره، فمن يعرف هذه الأرض، يعرف أنها لم تكن شجرة مجرّدة.

كما لم تكن مجرّد جذع باسق أو ظل وارف في زاوية المكان، بل كانت ذاكرة جماعية، رمزا صامتًا عاش في وجدان الناس. امتدّت جذورها في التراب كما امتدت في القلوب. كانت شاهدةً على تقلّبات اليمن: من صعود الدول إلى أفول السلاطين، من زهو الفصول إلى خيبات العقود.

كابدت شجرة الغريب ما كابده اليمني. أُهملت، نُسيت، جفّ بريقها كما جفّت ينابيع الأمل في النفوس، لكنها ظلّت واقفة، تناطح الريح، وتصمت في وجه الإعصار. لم تنحنِ. كانت تحاول، بصبر يشبه صبر أهلها، أن تصمد، فقط لأنّ السقوط لم يكن خيارًا.

حتى جاء يومها، وسقطت.

لكن هذا السقوط، في اليمن، لا يعني نهاية. هنا، كلّ سقوط يُخفي تحولا . كلّ رماد يُخفي جمرة. وربما، كان في سقوطها إعلانٌ صامت بانتهاء عهدٍ لم يكن يشبهنا، وزوال اسمٍ لم يكن لنا. فقد حُمّلت هذه الشجرة اسمًا دخيلًا، كما حُمّلت البلاد اسماء ومشاريع لا تُشبهها، وزرعت فيها جذورٌ غريبة، لم تُثمر إلا الخراب.

سقوط الغريب، بشارة نرجوها بسقوط كافة المشاريع الغريبة عن تربتنا، تلك التي ظننا يومًا أنها تشبهنا، وأنها جزءٌ من هويتنا. لكن التربة لفظتها. كانت تقاوم بصمت مصطلحاتها وعناوينها. كانت تقاوم عبر كل السنوات التي سقطت فيها مشاريع غريبة هنا أو هناك، وبقي آخرون. اليوم، بعد عشر سنواتٍ عجاف، آن أوان اجتثاث كل غريب في السياسة والفكر والثقافة. فاليمن هي قضيتنا أولًا وأخيرًا. نحن أَولى بها وبجذورها. نمدّ جذورنا، بينما مدّ آخرون جذورهم لتربة الخارج وتركوا تربتنا للغريب.

سقطت الشجرة التي تشبهنا، وسقطت معها رمزية “الغريب” والمرحلة بأكملها، كما سقطت “المنسأة” التي أكلتها دابة الأرض من تحتها؛ كذلك هو الحال مع كلّ ما بدا ثابتًا وهو هشّ من الداخل. آن أوان الانكشاف. آن أوان العودة. فاليمن لا تموت، كما لا تموت الأشجار الأصيلة، بل تعود، تتجدّد، وتُثمر من جديد.

إنها لحظة فارقة، لا لأن شجرةً سقطت، بل لأن الأمل بدأ يُولد من رحم الانهيار. حين تنكشف الأكاذيب، وتسقط الأقنعة، تعود الأرض لأهلها، وتستعيد البلاد اسمها الحقيقي، وتستعدّ لزمنٍ مختلف.

استبشروا؛ فلست منجما ، ولا متطيرا، لكنني أحاول أن أرى خلف الدخان ومضةَ ضوء، وفي قلب العتمة طريقًا لا يزال يتشكّل. فالشجرة منّا، ونحن منها. تمنحنا الظلال حتى بعد رحيلها، وتعلّمنا أن الحياة لا تنتهي حين تنكسر، بل تبدأ من جديد – من حيث لا نحتسب.


Create Account



Log In Your Account