عبدُ الرحيمِ البُرعيّ وخرافةُ القبرِ المُتحرّك
الثلاثاء 27 مايو ,2025 الساعة: 08:46 مساءً



    في موسم الحج كان يروق لوالدي -رحمه الله -الترنم بقصيدة ذائعة لعبد الرحيم البرعي، وكان يشفعها -دوما -بحكاياته الخرافية التي ننصت إليها بشغف كبير.

سأرويها، و لكن لي وقفات مع ( عبدالرحيم البرعي ) :

 أولها قبل عقد من الزمن، مع أستاذ من السودان يعمل محاضرا في التربية الإسلامية، حيث سمعته يترنم بانشودة ِ ( أغيب وذو اللطائف لا يغيب) استمتعت بأدائه وصوته ، و بعدها اختلفنا في أصل الشاعر و بلده ، حيث زعم هو أن الشاعر سوداني وأنا أُصرُّ على أنه يماني و بعد بحث وتقصٍّ استطعتُ أن أؤكد له رجحان قولي و سداد رأيي بأن ( عبدالرحيم البرعي ) يماني فأقر الأستاذ السوداني بذلك و أخبرني أن ثمةَ شاعرًا سودانيًا متصوفًا انتحل اسم البرعي من فرط إعجابه به ، لكن الغريب في الأمر أن شهرة البرعي في السودان الشقيق أكثر من شهرته في اليمن وبقية الأقطار العربية.

  الوقفة الثانية كانت مع المنشد العدني الرائع ( عبدالرحمن عبدالكريم ) وكنت أدرِّسُهُ النقد في كلية الآداب ، و كان له موقف سلبي من البرعي ، ربما لنزعته السلفية ، فأعطيته ديوان البرعي وبعض التراجم له ليكون بحث تخرجه ، لكنه عاد إليَّ منكرا شطحات ( البرعي) بعد أن قرأ ديوانه .

( اقرأ بروحك لا بعقلك ) هذا ما قلته له، و بعد مدة ليست بالطويلة تعجبت منه إذ تغير موقفه و جعل ينشد - في كل محاضرة لي -من شعر البرعي وأنجز بحث تخرج مميز.

و لسيدي عبدالرحيم قصيدة عزيزة على قلبي، تلك التي ترنم بها والدي، وبصدد الحديث عن مناسبتها- من فرط إعجابي بها كنت أجعلها مقررة على طلابي في كل عام و في جميع المراحل، و أطلب منهم إنشادها بأداء جماعي و فردي، و أنا على يقين أنهم يتذكرونها إلى اليوم.

 و هذه الوقفة الثالثة و لن أطيل عليكم ، وإلى حكايته

  (مناسبة القصيدة) :

 البرعي شاعر و متصوف ربَّانيٌّ عاش قبل حوالي ستمئة و ثمانية و ثلاثين عامًا في ( بُرَع ) في محافظة الحديدة ( حاليا ) في قرية النيابتين، و تقول الخرافة : أن قبره يتحرك من مكانه بمقدار شبر أو ذراع صوب مدينة رسول الله _ صلى الله عليه و سلم _ شوقًا و حبًا لأنه حرم من وصال حبيبه وزيارته وزادت المخيلة الجمعية أن وضعت حديثا لا أصل له و نسبته للرسول صلى الله عليه و سلم - يقول فيه : ( لا تقوم الساعة إلا وقبر البرعي عند قبري ) !!! وأصل الحكاية - كما سمعناها من عامة الناس _ أن البرعي كلما عزم على الحج يصاب بالمرض أو أنه يحج ولكنه يمرض وهو في طريقه إلى المدينة ، ويعود مهمومًا حزينًا في كل مرة إلى ( بُرَع) و لكن في آخر مرة يعقد النية على الزيارة مهما كلفه ذلك ، و يداهمه المرض في الطريق كالعادة لكنه يمضي غير مبال ٍ بآلام المرض حتى أنه حبا على يديه و ركبتيه حبوًا و زحف على بطنه زحفًا حتى تقطع بطنه و خرجت أمعاؤه ، و قيل أن هذه القصيدة هي آخر ما قاله ، و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، و تذكرُ الأسطورةُ أنَّ أناسًا زاروا قبره بعد سنين ورأوا أنه قد تحرك بالفعل !

أما سبب تداول الناس لتلك القصيدة وازدهارها عند العامة قبل الخاصة فهو أنهم قد أضافوا للأسطورة بُعدًا دينيًّا قائلين : (( أن من يحفظ القصيدة عن ظهر قلب ويرددها فكأنما حج البيت وزار قبر الرسول عليه الصلاة و السلام ، أو أنهم بالفعل يجدون أنفسهم في مكة ، و المدينة .

ربما أدركتم كثيرًا من الآباء يحفظونها يترنمون بها ، و خاصة عند اقتراب موسم الحج مثلي ، لكن _ سبحان الله ! _ عندما كادت تندثر بُعثت من جديد .

يا راحلين إلـى مِنـى بقيـادي *** هيّجتمو يوم الرحيـل فـؤادي

سرتم وسار دليلكم يا وحشتـي *** الشوقُ أقلقني وصوت الحـادي

وحرمتمو جفني المنام ببعدكـم *** يا ساكني المنحنـى والـوادي

ويلوح لي مابين زمزم والصفـا *** عند المقام سمعت صوت منادي

ويقول لي يا نائمًا جـد السُـرى *** عرفات تجلو كل قلبٍ صـادي

من نال من عرفات نظرة ساعةٍ *** نال السرور ونال كل مـرادي

تالله ما أحلا المبيت على منـى *** في ليل عيدٍ أبـرك الأعيـادي

ضحوا ضحاياهم وسالت دماؤها *** وأنا المتيم قد نحـرتُ فـؤادي

لبسوا ثياب البيض شارات اللقا *** وأنا الملوع قد لبسـت سـوادي

يارب أنت وصلتهم صلني بهـم *** فبحقهـم يـا _رب _ فُـك قيـادي

فإذا وصلتـم سالميـن فبلغـوا *** مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي

قولوا لهم عبـد الرحيـم متيـمٌ *** ومفـارق الأحـبـاب والأولادِ

صلى عليك الله يا علـم الهـدى *** ما سار ركبٌ أو ترنـم حـادي


Create Account



Log In Your Account