الإثنين 07 يوليو ,2025 الساعة: 03:23 مساءً

تقرير - عبدالعزيز الابارة
في منتصف عام 2015، كانت الساحة اليمنية تعيش واحدة من أكثر مراحلها تعقيدًا واضطرابًا، بعد أشهر من انطلاق عملية "عاصفة الحزم" التي قادتها المملكة العربية السعودية ضمن تحالف عربي واسع النطاق.
ومع نهاية "عاصفة الحزم" وتحولها إلى "إعادة الأمل"، انتقل التحالف من مرحلة الهجوم الكثيف إلى مرحلة التثبيت والدعم الميداني للسلطة الشرعية، غير أن المشهد العسكري ظل ضبابيًا في عدد من المناطق، خصوصًا في محافظات مأرب وشبوة وحضرموت، حيث تداخلت الولاءات، وتفاوتت درجات التنسيق بين وحدات الجيش اليمني وقوات التحالف.
وفي خلفية هذا المشهد، كانت تدور شكوك متزايدة حول أدوار متباينة داخل غرفة العمليات المشتركة للتحالف العربي، التي أُنشئت لتنسيق الضربات الجوية والعمليات البرية. وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية كانت تتزعم هذه الغرفة رسميًا، إلا أن الشراكة العسكرية مع دولة الإمارات العربية المتحدة أفرزت واقعًا ميدانيًا أكثر تعقيدًا؛ إذ بدت الإمارات وكأنها تتحرك وفق أجندة ميدانية خاصة، تركز على دعم التشكيلات غير النظامية في الجنوب والساحل، مع موقف غير منسجم تجاه بعض الوحدات العسكرية الرسمية، خاصة تلك التي ترتبط بأطراف سياسية لا تروق لأبوظبي.
في هذا السياق المتوتر، جاءت الضربة الجوية التي استهدفت معسكر اللواء 23 ميكا في 7 يوليو 2015، لتثير عاصفة من التساؤلات والاتهامات. فرغم أن التحالف العربي لم يعلن رسميًا الجهة التي نفذت الغارة، إلا أن العديد من المصادر المحلية والناشطين العسكريين ألمحوا بشكل واضح إلى احتمال تورط إماراتي في العملية، فيما ذهب البعض إلى التحدث عن "استهداف مقصود"، بدعوى أن المعسكر كان يضم قيادات لا تدين بالولاء الكامل لأبوظبي، أو أن الضربة كانت رسالة مبطنة لإعادة ضبط خارطة النفوذ داخل القوات الحكومية.
ما عزز هذه الشكوك، أن الضربة وقعت بعد أيام قليلة من تزايد التوترات السياسية بين مسؤولين يمنيين والإمارات، كما أن معلومات غير رسمية تم تداولها، أفادت بأن التوجيه بالضربة لم يصدر من قيادة الشرعية اليمنية في مأرب، بل من داخل غرفة العمليات المشتركة دون تنسيق كافٍ مع الميدان. ورغم أن السعودية – كقائدة رسمية للتحالف – لم تصدر أي توضيح مفصل بشأن الحادثة، إلا أن مراقبين رأوا في صمتها "موافقة ضمنية"، أو على الأقل "تغاضيًا محسوبًا" لتجنب التصادم مع شريكها الأقوى ميدانيًا في الجنوب.
هكذا، يمكن القول إن الضربة الجوية لمعسكر اللواء 23 ميكا لم تكن حدثًا معزولًا، بل جاءت في إطار مشهد معقد تتشابك فيه الحسابات السياسية والعسكرية، وتبرز فيه التباينات داخل التحالف نفسه، وهو ما يجعل من فهم خلفية الحادثة ضرورة لفهم ما تلاها من تطورات، سواء على مستوى العلاقات بين القوى المحلية، أو على صعيد شكل التدخل العسكري العربي في اليمن.
يوم الضربة الجوية – 7 يوليو 2015
في مساء يوم الثلاثاء 7 يوليو 2015، تعرض معسكر اللواء 23 ميكا في منطقة العبر بمحافظة حضرموت لغارات جوية نفذتها طائرات تابعة للتحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية. مثّلت هذه الضربة الجوية نقطة تحوّل خطيرة في مسار العمليات العسكرية، حيث استهدفت 3 طلعات جوية المركز المتقدم لوزارة الدفاع اليمنية التابعة للحكومة الشرعية وقوات نظامية مؤيدة للشرعية، وأسفرت عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، بينهم ضباط بارزون كانوا يتناولون طعام الإفطار لحظة وقوع الغارة.
الضربة أسفرت عن مقتل وجرح مئات الجنود والضباط، بينهم العميد المتقاعد أحمد يحيى الأبارة، أحد أبرز المنضمين إلى صفوف الشرعية، بالإضافة إلى إصابة العقيد علي الحوري، أركان حرب اللواء 21 ميكا.
ووقعت الغارة عقب عودة قوات عسكرية تابعة للواء كانت قد خرجت صباح ذلك اليوم مدعومة بدبابات ومدرعات للتصدي لتقدم مليشيات الحوثي وصالح باتجاه منطقة العقلة بمحافظة شبوة، ومنعها من التقدم باتجاه صافر بمحافظة مأرب، ما يدل على حالة استعداد ومشاركة نشطة في العمليات الميدانية ضد الانقلابيين.
ورغم فداحة الحادثة، فقد فُوجئت الأوساط العسكرية والرأي العام بعدم صدور أي توضيح رسمي من قيادة التحالف العربي بشأن أسباب الغارة أو ملابساتها. وبدلاً من ذلك، بدأت بعض المواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي بترويج روايات غير رسمية تزعم أن كتيبة داخل اللواء تمردت، وهو ما أثار موجة غضب واستنكار داخل أوساط منتسبي اللواء وقياداته.
وقد نفى مصدر رفيع في قيادة اللواء 23 ميكا بشكل قاطع تلك المزاعم، واصفًا إياها بـ"الأكاذيب التي تهدف إلى التغطية على جريمة قصف اللواء". وأوضح الضابط – الذي يحمل رتبة عقيد وطلب عدم ذكر اسمه – أن اللواء بجميع كتائبه كان ولا يزال مواليًا للشرعية، ويعمل وفقًا للتوجيهات العسكرية الصادرة عن قيادة الجيش الوطني، مؤكدًا أن الحديث عن "تمرد" أو "تنسيق مع الحوثيين" ليس إلا محاولة لتبرير الضربة، وصرف الأنظار عن الجهة التي قدمت معلومات مضللة لغرفة عمليات التحالف.
وأشار المصدر إلى أن اللواءين 23 و21 ميكا كانا على تنسيق مستمر مع رئاسة هيئة الأركان، التي كانت قد انتقلت مؤقتًا إلى المعسكر المستهدف في العبر، وأشرفت خلال الشهرين السابقين للضربة على إعادة تأهيل اللواء وتجنيد مئات الأفراد، تمهيدًا لدفعهم إلى جبهات مأرب والجوف، ضمن عمليات دعم الجيش الوطني.
كل هذه المعطيات تضع الضربة الجوية في موقع تساؤل سياسي وعسكري بالغ الحساسية، وتطرح علامات استفهام كبيرة حول المعلومات الاستخباراتية التي بُنيت عليها، وطبيعة التنسيق داخل غرفة العمليات.
وفي سياق موازٍ، كشفت معلومات لاحقة وشهادات ميدانية عن خلفيات أكثر تعقيدًا قد تفسر الدوافع وراء استهداف المعسكر، وهو ما يفتح الباب أمام روايات ترى في الضربة أكثر من مجرد خطأ استخباراتي، وتثير المعطيات الميدانية والسياسية المحيطة بمجزرة معسكر العبر مزيدًا من التساؤلات حول دوافع الضربة، وتُعزز الروايات التي ترى في الغارة عملاً يتجاوز مجرد "الخطأ الاستخباراتي". فالموقع الذي استُهدف يبعد أكثر من 350 كيلومترًا عن أقرب نقطة اشتباك مع ميليشيا الحوثي، ولم تُسجل في حينه أي تحركات أو نشاطات عسكرية معادية في المنطقة، ما يُضعف فرضية "التمويه" أو الخطأ في التقدير.
وبحسب مصادر عسكرية، كان لدى قيادة اللواء 23 ميكا خطة عسكرية لإسقاط صنعاء عبر محور ذمار، وتم حينها التنسيق مع قيادات في المقاومة الشعبية في ذمار وعنس وريمة، التي أبدت استعدادها لرفد الجيش بالمقاتلين حال وصول القوات إلى تخوم محافظة ذمار. هذا التخطيط أثار، وفقًا لشهادات لاحقة، تحفظًا من بعض أطراف التحالف، التي لم تكن متحمسة لعملية تحرير صنعاء من قِبل الجيش النظامي التابع للشرعية.
وفي هذا السياق، كشف اللواء محسن خصروف، رئيس دائرة التوجيه المعنوي سابقا في مقابلة تلفزيونية، أن ضابطًا رفيعًا هُدد بـ"فضح ما حدث في العبر" وتحديد المسؤول عن الضربة، وذلك بعد اتهامه في حادثة استهداف الصالة الكبرى بصنعاء عام 2016. وأكد خصروف أن الضابط قال صراحة: "إذا لم تعتذروا، سأُفجر ملف العبر من جذوره"، في إشارة إلى أن هناك أسرارًا لم تُكشف بعد بشأن خلفية الضربة.
من جانبه، قال خصروف إن اللواء 23 ميكا كان يُعد لواءً نوعيًا ومتميزًا من حيث الثقافة العسكرية، والوعي الوطني، والتدريب عالي المستوى، وإن هذا التميز جعله محل ريبة لدى بعض القوى داخل التحالف، التي رأت فيه "خطرًا على خططها في اليمن"، بالنظر إلى استعداده للعمل ضمن أجندة وطنية خالصة.
في السياق ذاته، كشف نجل العميد أحمد يحيى الأبارة، قائد اللواء الذي استشهد في الغارة، أن ملاسنة حدثت بين والده وضباط إماراتيين، أثناء عرض الأبارة لخطة تحرير صنعاء. وأوضح أن أحد الضباط سأله: "ما علاقتك بالموضوع؟"، فأجابه الأبارة: "أنا ضابط في الجيش الوطني وأسعى لتحرير بلادي". وأشار إلى أن الضباط الإماراتيين غادروا الاجتماع وهم في حالة من الاستياء البالغ، في موقف قد يُفسَّر لاحقًا ضمن سياق التحفظ على تحرك اللواء في مسار مخالف للتوجهات الميدانية للتحالف.
التداعيات الميدانية والمعنوية
تركت الضربة أثرًا عميقًا على مستوى الثقة داخل المؤسسة العسكرية اليمنية، حيث رأى كثير من الجنود والضباط أنها طعنة غير مبررة من "الجهة الصديقة" التي جاءت لدعمهم لا لاستهدافهم. وقد أدى ذلك إلى حالة من الإرباك النفسي والعملياتي، خصوصًا في وحدات المنطقة العسكرية الأولى والثالثة، التي كانت تعتمد على دعم التحالف في المهام اللوجستية والغطاء الجوي.
ورغم عودة الانضباط إلى مسار العمليات لاحقًا، فإن الحادثة بقيت نقطة سوداء في سجل علاقة الجيش اليمني بغرفة عمليات التحالف، ولم تُمحَ آثارها من الذاكرة المؤسسية للوحدات المتضررة.
أثارت الضربة موجة من التساؤلات حول الأساس الاستخباراتي الذي استندت إليه، خاصة أن المعسكر لم يكن في حالة تمرد أو انحراف، بل كان ضمن خطة دعم الجبهات، ويخضع لبرنامج إعادة تأهيل وتشغيل بإشراف هيئة الأركان.
رئيس هيئة الأركان، اللواء محمد علي المقدشي، أعلن تشكيل لجنة تحقيق، وتعهد بأن "ما جرى لن يمر دون مساءلة"، غير أن هذا الوعد بقي دون تنفيذ معلن حتى اللحظة، ما عزز الشكوك حول وجود أطراف نافذة داخل غرفة العمليات تلاعبت بالإحداثيات لأهداف تصفوية أو سياسية.
وتعززت هذه الشكوك بما كشفه أحد مسؤولي الحكومة في شهادة وثّقها الكاتب مروان الغفوري، إذ أشار إلى أن الضربة "أفقدت الجيش أكثر من 85 من خيرة قادته"، وأن التحالف كان قد اطلع على المشروع العسكري في العبر قبل تنفيذ الغارة، بل أرسل مندوبين عسكريين زاروا القادة واطلعوا على خطة إعادة بناء الجيش، مما يضع الضربة في سياق أكثر من مجرد خطأ استخباراتي.
أسر الضحايا والمطالبات المتكررة بالتحقيق
منذ اللحظة الأولى، عبّرت أسر الضحايا عن صدمتها من الصمت الرسمي، وطالبت بكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، وواصلت إصدار بيانات سنوية تطالب بالعدالة والإنصاف.
كما بدأت منظمات حقوقية محلية بالمطالبة بتعويضات، واعتبرت أن تجاهل الحادثة يمثّل انتقاصًا من حقوق الضحايا.
ورغم مرور عقد كامل، لم تُعلن أي نتائج رسمية للتحقيق، ولم تصدر اعتذارات أو تعويضات، ما دفع الأسر إلى القول إن الخذلان لا يقل فداحة عن القصف نفسه.
الذكرى العاشرة للضربة – ما الذي تغيّر؟
في الذكرى العاشرة، لا تزال الأسئلة بلا إجابة، والملف بلا نتائج، والدماء بلا عدالة. لم يُحاسب أحد، ولم تُكشف الملابسات، وظلت آثار الضربة حاضرة في الوعي العسكري، كجريمة غير مفهومة في قلب معركة يفترض أنها ضد الانقلاب لا ضد الشرعية.
تغيّرت الجبهات، وتبدلت الولاءات، ولكن ذكرى معسكر العبر ظلت جرحًا مفتوحًا لا يلتئم في ذاكرة وحدات قاتلت يومًا تحت راية الشرعية، وسقطت بنيران التحالف.
بعد عشر سنوات، ما زالت الحادثة معلقة بين صمت رسمي وغضب شعبي وعسكري. لم تكشف الحقيقة، ولم يُنصف الضحايا، في وقت تستمر فيه المؤسسة العسكرية في القتال وهي تحمل على ظهرها لحظة لم تجد لها تفسيرًا حتى اليوم.
لم يكن ما جرى في العبر مجرد خطأ كما هو الرأي السائد، بل فصل مؤلم من فصول الحرب، أسس لسلسلة لاحقة من فصول حرب بلا ملامح والموجع أكثر أنه جرى طي صفحة الجريمة، على حساب الحقيقة والحقوق والبلاد والضحايا.