حين لا يسمع أحد نداء المجاعة: أزمة أخلاق عربية
الأربعاء 23 يوليو ,2025 الساعة: 03:33 مساءً

“من قال هلك الناس فهو أهلكهم” – حديث نبوي عظيم، لم يكن مجرد تحذير من السخط العام، بل بيان دقيق لخطورة إغراق الناس في خطاب الهلاك والعجز دون محاولة استنهاضهم أو فهم أوجاعهم. هذا الحديث اليوم، يبدو وكأنه يصف بدقة موقف الشارع العربي تجاه غزة، حيث المجاعة الحقيقية، والحصار المطبق، والموت الذي يتحرك ببطء، بينما الكتّاب والمثقفون وبعض الجماهير مشغولون بتوبيخ الشعوب واتهامها بالسكوت والخنوع.

لكن، هل المشهد بهذه البساطة؟ وهل الشعوب العربية اليوم مجرد جماهير صامتة عاجزة بلا مبرر، أم أن خلف هذا “الصمت” قصة أكثر عمقا ، وأشد ألمًا مما يبدو على السطح؟

في كل موجة عدوان على غزة، تتجه الأنظار إلى الشارع العربي. لماذا لا ينتفض؟ لماذا لا يحاصر سفارات الدول الداعمة؟ لماذا لا يخرج إلى الشوارع بمئات الآلاف؟ ولماذا أصبحت مناصرة غزة على وسائل التواصل مجرد أداء رمزي، لا فعلا سياسيا أو تحركًا جماهيريا حقيقيا ؟ لكن قبل أن نجلد هذا الشارع وننعته بالموت، لنتوقف لحظة ونسأل: هل الشعوب تولد فاعلة؟ هل كانت كل الشعوب الناهضة في التاريخ تتمتع دوما بالكرامة والجاهزية؟ أليست الشعوب، في معظم لحظات التاريخ، منهكة، يائسة، مسحوقة؟ ولم تتحول إلى الفاعلية إلا حين ظهر مشروع نهوض ، وبرز قادة غير  أنانيين ، وقامت نخب تحترم موقعها  أوصلت الألم إلى أمل، والغضب إلى تنظيم؟ الشعوب لا تدان لأنها منهكة، بل تدان النخب حين تتخلى عنها، وتنطوي علي مصالحها الشخصية  فتعجز عن بعث الحياة في وجدانها.

التشكيك في الشارع العربي، واليأس منه، دون أن تسبقه مبادرات حقيقية، وفعل قيادي صادق، هو فعل نوع من الابتذال او الخيانة ،  وليس هناك أسهل من لوم الناس. الأصعب هو أن تنزل إلى الميدان قبلهم، تصرخ بأعلى  صوتك ضد السلم ، أن تضيء الطريق بتضحياتك ، أن تكون قدوة حسنة لهم ، و أن تعيش بينهم لا فوقهم، أن تدفع من وقتك ومكانتك من أجل أن يثقوا بك، ويستعيدوا الثقة بأنفسهم.

وماذا فعل هذا الشارع حين طلب منه أن يثور؟ في 2011 خرج إلى الميادين، وهتف، وواجه الرصاص، وأسقط الطغاة، ثم دُفع إلى الجحيم حين خانته النخب وتنافست علي مشاريعها الذاتية شخصية او حزبية ، وفشلت الأحزاب في إدارة مرحلة العبور الديمقراطي ، فسمحت للثورات المضادة أن تنقض عليها ، وتتخذها  عدوا محتمل ، وخطر دائم ، فجعلت من لقمة عيشه سلاحا ضده ، ومن صوته مبررا لتعذيبه ، فها هو بلا ماء  او رواتب في اليمن ، وبلا وطن في سوريا ، ومطحون بالاسعار في مصر ، وين تل بمقابر جماعية في السودان ، فهل ويلام اليوم على صمته، أم يُسأل أولا: لماذا سحق؟ ومن تركه وحده؟

الشعوب العربية ليست عاجزه  عن الغضب، لكنها فاقده  للثقة، متعبة من الشعارات، منهكة من التضحيات التي لم تحصد إلا الخراب. إنه شارع يعيش بين أنظمة تخنقه، ونخب تخونه، وإعلام يضلله. تحول الحلم بالتغيير إلى كابوس، وتحولت الشعارات إلى سبب للخذلان، فتحول إلى مراقب، ينتظر من يستحق ثقته، لا من يصفعه بكلمات الاتهام.

وفي ظل هذا السياق المعقد، يأتي حصار غزة ليضع الجميع أمام المرآة. مجاعة كاملة تنفذ على مرأى العالم، والأنظمة صامتة، والمجتمع الدولي شريك، والشارع العربي يكتفي بالتفاعل الرقمي: وسمٌ هنا، مقطع مؤثر هناك، ثم يعود الجميع إلى حياتهم وكأن شيئا لم يكن. حتى المناسبات التي يُفترض أن تتحول إلى لحظة احتجاج جماعي – مهرجانات، مباريات، زيارات رسمية – تمرّ دون صوت. فلماذا؟ لأننا اختزلنا القضية في خطابات عاجزة، وفعلنا “مناصرة غزة” أصبح طقسا شكليا . كم مثقفا أو إعلاميا وقف فعلا أمام سفارة تطبّع في الخارج ، كم نقابة عربية أعلنت الإضراب أو نظمت مسيرة غاضبة الي سفارات الدول الشركية في الحصار ؟ كم برلمان تحرك وعبر عن غضبة السياسي ؟ كم حزبا قدّم مبادرة قانونية أو سياسية ضد ما مرتكبي الجريمة ؟ إن الصمت الجماهيري في كثير من الأحيان، ليس خيانة، بل انعكاس لفشل النخبة.

هل تعتقدون أن الشعوب التي نهضت يوما كانت في الأصل فاعلة؟ أم  كانت، في لحظة من تاريخها، محطمة، يائسة، بلا كرامة، بلا قدرة على الفعل؟  لم تتحول تلك الشعوب إلى حركة وتغيير إلا بمشروع وقيادة، سواء عبر أنبياء أو مصلحين أو سياسيين. الطعن في الشعوب والتيئيس منها دون فعلٍ قائدٍ هو جريمة مزدوجة: أخلاقية ومعرفية.

الدرس العميق الذي يغيب عن كثير من المحللين هو أن الشعوب إذا شُبعت لومًا، شبعت عجزًا. وإذا تكرّس في وعيها أنها متروكة، عاجزة، خائنة، فإنها تصمت لا لأنها لا ترى، بل لأنها لم تعد تؤمن أن لرؤيتها وزنًا. وهنا الكارثة الأخلاقية والفكرية التي يجب مواجهتها. لأن صمت الشعوب، إذا استمر، لن يكون فقط هروبًا من الفعل، بل تخليًا عن الذات.

من قال “هلكت الشعوب العربية” دون أن يتحرك لنهضتها، فهو أهلك نفسه قبل أن يُهلكهم. ومن قال “أين الشارع العربي؟” دون أن يكون في طليعته، فهو جزء من الصمت. غزة لا تُعاتب، بل يُعتذر منها. والشارع العربي لا يُلام لأنه لا يتحرك، بل يُسأل: من الذي أفقده القدرة على الحركة؟ ومن الذي جعله يائسًا حتى من الأمل؟ إن الفعل يبدأ من الآن: أن تخرج النخب من مكاتبها، أن تقترب من الناس، أن تصوغ خطابًا جديدًا يعيد بناء الثقة. فغزة لا تزال تنادي، لا بالغضب، بل بالجوع. لا بالهتاف، بل بالصمت المر. ومن لم يسمع النداء اليوم، قد لا يجد صوتًا يسمعه غدًا، حين تتحول المجاعة إلى موت صامت، بلا أثر، وبلا شاهد.


Create Account



Log In Your Account