مقتل صالح: اللحظة التي عرّت هشاشة العقل السياسي اليمني
الأحد 27 يوليو ,2025 الساعة: 01:58 مساءً

في الفيلم الوثائقي الذي بثّته قناة “العربية” عن مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، بدا واضحًا أن السردية البصرية تحاول أن تصوغ لحظة النهاية في صورة بطولية مأساوية: الزعيم المحاصر في منزله، الرافض للاستسلام، الذي قرر المواجهة حتى الموت. غير أن هذا التناول الإعلامي أعاد إلى السطح نقاشا قديما وحديثا في آن: هل قُتل صالح في منزله مدافعا ، أم في طريقه إلى الفرار نحو حصنه في سنحان؟ لم يكن هذا الجدل ساذجا كما قد يبدو، بل يعكس عمق الأزمة التي يعاني منها العقل السياسي اليمني، حين ينشغل بتفاصيل شكلية، ويتجاهل السياق الكارثي الأوسع، وهو أن صالح تحالف مع الجماعة الحوثية الكهنوتية، وسلّم لها الدولة ومفاتيح العاصمة، وسهّل سقوط الجمهورية، وشارك رجاله وأقاربه في قمع وقتل كل من وقف مدافعا عنها. إن الخلل هنا ليس في اختلاف الروايات، بل في نمط التفكير الذي يجعل من موت الزعيم، لا خياناته، مركزا للجدل والانفعال.

العقل السياسي، في جوهره، ليس مجرد موقف من السلطة أو قدرة على التحليل السياسي، بل هو منظومة ذهنية تتشكل عبر الثقافة والتربية والممارسة والخبرة، وتحدد كيف يفكر المجتمع في الدولة، والمصلحة، والتاريخ، والمستقبل. في البيئات السليمة، يعمل العقل السياسي على بناء مشروع جامع، يقوم على المراجعة والاتساق والمسؤولية، بينما في البيئات المختلّة، يصبح أداة للمراوغة، وإنتاج التبريرات، وتدوير الرموز، وتقديس الأشخاص. وفي اليمن، حيث عاش البلد عقودا طويلة في ظل النظام القبلي الإجتماعي ، نظام صالح الذي يعد حالة قبلية متقدمة من قليلا  يقوم  على الولاء لا الكفاءة، والزعامات لا المؤسسات، تكرّس نمط من التفكير السياسي العاطفي والتابع، ينفق طاقته على تبرئة القريب وتجريم الخصم، حتى لو انقلبت الوقائع رأسا على عقب.

حادثة مقتل صالح، بدلا من أن تكون لحظة صادمة تستدعي مراجعة وطنية شاملة، تحولت إلى مساحة للتشظي في أوساط من أنصاره العاطفيون الذي ينظرون لكل هذا الخراب من منظور واحد ، سواء مصلحي او معيشي ،  ففي حين أن صالح كان قد وضع يده في يد من أسقطوا الدولة، وسهل تغول الجماعة الحوثية، نجد كثيرين لا يزالون يتعاملون مع مقتله  كفصل نهائي في حياته يحدد صفته كزعيم غدر بيده الحوثيون ، لا كنتيجة منطقية لخيانته الكبرى للجمهورية. لقد سحبت الأضواء من جريمة التسليم، ووجهت كلها إلى لحظة الموت، وكأن التفاصيل تلغي السياق، وكأن النهايات البطولية تطهر الخيانات  الكارثية ، هذه المفارقة تجسد أحد أخطر أوجه الأزمة: حين يصبح الحكم على الفعل السياسي قائما على اللحظة العاطفية لا على المسار السياسي الفعلي.

دخل هذا العقل السياسي الشعبوي اليمني بعد مشاهدة الفلم في معركة علي وسائل التواصل الإجتماعي ،  بين من يقدس صالح كزعيم وبطل من جهة، ونكاية بالمعارضين من جهة أخرى. لم يكن الانقسام حول مصير الدولة، بل حول صورة الزعيم نفسه، الذي رغم تحالفه العلني مع الجماعة الحوثية، ظل بعضهم يراه حامي الجمهورية، بينما هاجموا من فروا من صنعاء خشية السقوط في فخ الانقلاب، أو رفضوا الاصطفاف مع المشروع الإمامي. لم يعد المهم كيف سقطت العاصمة، ولا من سلّمها، بل كيف يمكن إخراج صورة الزعيم وقد “تطهّر” في خاتمته البطولية. بهذا المنطق، غاب النقاش حول الكارثة السياسية والعسكرية التي مثّلها تحالف صالح مع الحوثي، ليحلّ مكانه جدل سطحي حول طريقة موته، كأن النهاية تمحو المسار، وكأن الدم يغسل الخيانة. ينسى هؤلاء أن التاريخ مليء بالخونة الذين اختلفوا مع شركائهم لاحقا ، واقتتلوا فيما بينهم، لا لأنهم تابوا أو استيقظت ضميرهم، بل لأن الصراع على السلطة لم يسر كما خطط له. لكن العقل الذي يصوغ سرديته من الحنين والانتماء، لا من الوعي والمساءلة، لا يرى في ذلك خيانة متكررة، بل بطولة متأخرة.

لم تكن صنعاء لتسقط فجأة، ولم يكن الحوثي ليصل إلى قلب الدولة دون أن تُمهد له الطريق خلافات القوى الجمهورية ذاتها ، فقبل اجتياح العاصمة، كانت الانقسامات تحتدم بين القوى السياسية والمناطقية، تتصارع على النفوذ والتمثيل، وتخوض معارك جانبية لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية، بل احيانا نكاية ببعضها البعض. بدل أن تتوحد الجبهة الجمهورية في لحظة تهديد مصيري، انشغلت المكونات السياسية بتغذية الشكوك، واستدعاء الهويات الفرعية، والتخندق خلف تقسيمات إقليمية وجهوية، جعلت من الوطن ساحة لتصفية الحسابات. هذا الفشل في عبور الخلافات، وتحويلها إلى تنوع بناء، سمح للخصم الإمامي أن يتقدم على أرض منهكة، نخرتها الأنانية السياسية، وأعماها السعي للمكاسب السريعة، ولو على حساب الدولة ذاتها. لقد كانت تلك اللحظة اختبارا حاسما للعقل السياسي اليمني، فسقط فيها كثيرون، ليس أمام قوة الحوثيين، بل أمام هشاشتهم الفكرية وولاءاتهم الضيقة، وغياب الشعور الحقيقي بالمشروع الوطني الجامع.

لعل أخطر ما يكرّس هذه الأزمة هو البيئة التي تغذي العقل السياسي اليمني. فقد تشكّل هذا العقل في تربة قبلية، تشدّد على الولاء للزعيم أكثر من الولاء للوطن، حيث تقدم“الخدمة للشيخ” باعتبارها عملا وطنيا ، ويختزل الوطن في “رمز”. كما ساهم النظام التعليمي والإعلامي السلطوي، الذي حكم اليمن لعقود، في ترسيخ ثقافة التبرير والتصفيق، بدل ثقافة النقد والمساءلة ، تسرب ثقافة " ال البيت" التي تقسم المجتمع بين سيد وقبيلي ، فنشأ جيل من النخب في بيئة تجرّم النقد، وتكافئ المديح، فصار المنتمي للسلطة لا يرى خطأ فيها، والمنتمي للمعارضة لا يرى فيها خللا، وكل طرف يتعامل مع الحقيقة بوصفها ملكية خاصة، لا مسؤولية مشتركة.

في ظل هذه التربة، غابت أدوات التحليل المتماسكة، وصار الحكم على الوقائع يتم عبر بوابة الهوية والانتماء، لا عبر أدوات المعرفة. فحين يخطئ “الرمز”، تبرر أفعاله وتحمل على نوايا حسنة أو ظروف قاهرة، وحين يصيب الخصم، يتهم بالمكر والخديعة. وهكذا، أصبح من الطبيعي أن يُحتفى بصالح شهيدا، لا أن يُسأل كيف ولماذا سلّم عاصمة الجمهورية للإمامة. تحوّلت الواقعة الكبرى إلى “تفصيل محايد”، وتحولت النهاية إلى ملحمة تطمس فيها كل سياقات الجريمة الأصلية.

ولعلّ ما يكشف  خطورة هذا النمط هو أن له سوابق تاريخية مريرة تتكرر كلما غاب الوعي وانهارت القيم السياسية. واحدة من أبرز هذه النماذج ما حدث في سقوط بغداد عام 1258م، حين تحالف الوزير ابن العلقمي مع القائد المغولي هولاكو وسهّل له دخول العاصمة العباسية. كان ابن العلقمي، الذي شغل منصب وزير الخليفة المستعصم بالله، مدفوعًا بالرغبة في الانتقام من خصومه داخل الدولة، وتحقيق مصالح طائفية ضيقة على حساب الأمة. وبعد أن نفّذ دوره في التمهيد للغزو، لم يشفع له “خدماته” للمغول، بل تم التخلص منه، ومات منبوذا ، بينما بقي الخراب الذي ساهم في صنعه شاهدا عليه إلى اليوم. تلك القصة، برغم  بعدها الزمني، تشبه تحالف صالح مع الحوثيين، حيث تلاقت المصالح على إسقاط الخصوم، ثم تفجرت الصراعات الداخلية، وقتل من سعى للتحكم بالمشهد، بينما بقي من استقدم باسم الشراكة يفرض سلطته كاملة على حساب الدولة والمجتمع.

إن أخطر نتائج هذه الأزمة ليست في تضليل الرأي العام فحسب، بل في تعطيل أي مشروع وطني جامع. فعقل لا يرى في الخطأ خيانة ما دام من ارتكبه من طائفته، ولا يعترف بالحق إن جاء من خصمه، هو عقل ينتج الطغيان، ويعيد إنتاجه بأشكال متعددة. وعقل كهذا لا يمكنه أن يبني دولة، لأنه يفرغ مفهوم الدولة من مضمونها، ويملأه بالشخص، والقبيلة، والانفعال. ولذلك، يبقى الوعي الجمهوري لدي كثير من السياسين في اليمن هشا ، متذبذبا ، ينهار عند أول صدمة، ويعيد التشبث بذات الوجوه التي قادت إلى الهزيمة.

الخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بإعادة تشكيل العقل السياسي اليمني على أسس جديدة. ولا نعني هنا إعادة إنتاج خطاب نخبوي جديد، بل تأسيس ثقافة سياسية تقوم على المعرفة، والمساءلة، والنقد الداخلي، والانتماء للمشروع لا للفرد. لا بد من التخلص من عقدة الزعيم المنقذ، واستبدالها بفكرة “الدولة الضامنة”. لا بد من أن نتعلم كيف نقيم الناس بخياراتهم لا بنهاياتهم، فصالح لم يمت شهيدا للجمهورية، بل سقط ضحية لخياراته الخاطئة التي أودت بها.

إن تحرير العقل السياسي من أسره الرمز والقبيلة والحزب  هو أولى معارك التحرير الوطني في اليمن. وإن النضال من أجل الجمهورية لا يكتمل بالقتال في الجبهات فقط، بل يبدأ أولا من تحرير الفكر من تقديس الأفراد، ومن إعادة الاعتبار للموقف لا للهوية. فدون هذا، سنظل ندفن كل مشروع وطني تحت ركام الأساطير، وننتظر خلاصًا لا يأتي.


Create Account



Log In Your Account