الإثنين 11 أُغسطس ,2025 الساعة: 04:48 مساءً
ما عدت أطير، بعد سنوات من الطيران والتحليق الليلي توقفت رحلاتي الجوية الحالمة، كنت أطير كل ليلة، ما إن أغفو حتى ينهض الرجل الطائر صوب الاعالي مجنحا في السماء مزهوا بنظرات الارض المفتونة بمعجزته الخارقة..
كنت سوبرمان يمني يجنح في السماء من دون أي مهمات .
رجل الأحلام فسر طيراني في النوم ، تفسيرا رأيته مرضيا أكثر من كونه مقنعا لمحشور مثلي كبرت بداخله الهاوية وهرمت عزيمته في البواكير،
عده طموحا محلقا. تفسير طامن نفسي قليلا، ولم ألبث أن شيدت منه ما يشبه يقين بائس يوشك على السقوط.
كانت سنوات جهمة مرهقة أفرطت في قسوتها عاملتني كمعاقب منذور للشقاء آوي ممزقا منتفا بروح متألمة وجسد مثقل متصدع مشدود إلى القاع بألف سبب وسبب، مقيد حتى النخاع من أخمص قدمه إلى فمه موثق القلب مغلول اللب في درب لا يسعه ولا يكفيه أو يكافئه، يلتهم أيامه وأحلامه وهو عليه ضنين ، لا يسخو بغير الفتات والندم الكثير.
لم أكن سعيداً في استمراري طائراً في النوم، طامحاً في الحلم.. أمر مرهق ومؤرق أن تبيت والريح سابحاً في فضاء مجهول يفلتك عند أول انتباهة ويرمي بك الى هاويتك اليومية السحيقة، حيث ينتعلك الواقع ماسحاً بك كل رصيف مذل.
هي الروح المشلولة في الواقع الكسيح .. الروح المنضغطة "في حيز لا يكفي نملة"- بحسب طه الجند- هي الروح تعبر عن نفسها بطريقتها الخاصة، تثأر لسقوطها في جسد هامد وواقع اكثر همودا ومواتا ..
الطيران الليلي بعض احتجاج الروح السجينة .. هي أشواقها المصادرة، آمالها المكبوتة ، توقها المقيد.
أنا اليوم أطمح أن أطير في نومي فقط كما كنت .. أخاف من أن أكون فقدت طموحي ، خسرت روحي المحلقة حتى في النوم لأن الفقر يعلمنا التقشف في الآمال والزهادة في الطموح ، بل يضطرنا للتخلي عنها كما نتخلى عن كثير من ضرورات الحياة.
كلما ازدادت اليمن انحدارا وتربعا في ذيل قائمة الدول الفاشلة والأكثر فشلا تراجع منسوب الطموح لدى الغالبية، كلما تنامى الفقر تراجعت الآمال وحيث يتعثر الإنسان بيومه لا يسعه أن يطمح بسوى الرغيف وكيلو الطماط والبطاط ، تبدو البطن وطناً على هامشها يذوي القلب ويضمر العقل ويذوي الوجود
لا فرص حياة حقيقية في اليمن .. المتاح دائما أقل منك لا يرضيك ولا يحملك .. أنت فيه مستخدم بائس يائس ضاق به الخيار حد الموت في سبيل العمل ، في شبوه خسر الناس أرواحهم في سبيل الحصول على وظيفة لا تستحق تلك التضحية بكل تأكيد لكنه اليأس وانعدام الخيارات ..
عليك دائما أن تبذل مجهودا هائلا في سبيل التكيف والتأقلم مع الممكن مهما كان قبوله مستحيلا بنظرك.. عليك أن ترضى بالقالب المخصص لك ..
كل ما دونك (فورمات) جاهزة ومطلوب منك أن تكون مرنا لينا قابلا للتمدد والانكماش وللطرق والسحب .. اضغط نفسك بكل ما أوتيت من قوة ، وربما احتجت لأن تتخلى عن رأسك ، عن وجهك، عن جبهتك العالية، عن أنفك الحمي كي لا تبقى لك أنفة أو كبرياء .. تخلص عن كل ما يفيض عن حاجة نعشك المعد لاحتوائك ، المصمم بمزاج حفار قبور شحيح.. تخلص من أشواقك الزائدة ، أمالك العريضة، أفكارك المنطلقة بلا عقال.. عش وفق المفروض والمقرر، لا ترفع بصرك إلى ما هو أعلى ، اثن قدميك على طول المشوار .. إنه يمن الزمن الأخير، يمن بلا طموحات، تراجعت فيه حتى الجرأة على الطموح المجاوز، اليوم تطمح فقط أن لا تموت غائصا في بلاعة، تطمح بكشك من (كاك بنك) بكيس دقيق من (مؤسسة الصالح) بحقيبة مدرسية لابنك اليتيم، تطمح في استرداد البسيط من حقوقك المسروقة من قبل الكبار، باسترداد ما استقطع من معاشك قبل روحك.. تطمح للانتماء إلى سارقي طموحك، تطمح لأن يتكرش جسدك ويتعيش على حساب الروح والقيمة ، تطمح أن لا تطمح، تريد أن لا تريد ، ترغب في الموت كملاذ أخير ، كطموح خلاص.
تضيق الخيارات أكثر بالواقفين أمام الأبواب المغلقة، وتزداد الحياة اختناقاً كلما واصل الناس انحشارهم برضى تام في كل ما هو غير عادل من فرص البقاء الكريم.
في مجتمع قعيد محكوم بالأمية السياسية وأمراض التخلف يغدو الطامحون أبطالا، وكلما طاروا على صعيد الواقع بأجنحة من مشاريع عملية واعدة أسهموا في فتح الأفاق لانطلاق الآخرين، يمنحوننا كثيرا على صعيد الروح..
أسوأ ما يصيبك به الجمود شلل الإرادة، تعفن الطموح وافتقاد روح المغامرة، يخوفك منك ومن فوات الفتات.
منطق الجمود يقول لك بفجاجة: "هذا حسبك، لن تأتي بالأحسن، أنت بخير ما دام هذا الخيار، نحن أولى بك منك، نعلم صالحك، لا تحاول فعل شيء، تخلص من ذاتيتك، من أحلامك وآمالك، لا تنظر نحو الأعلى، لا تكن مثالياً، الواقع يقتضي، الأمر يتطلب ويستوجب ويفرض، أطلب السلامة بطول التسليم "وعلى نفسك من نفسك حاذر.."
منطق الجمود لا يعترف بتنوع الخيارات اكتشفت كم كنت جباناً تصفعه الإهانة صبح مساء، يقرأ جبنه في رفّات ظلّه، في خطاه المرتعشة في وجهه المشروخ، في وجه امرأته، في أعين أطفاله، المسكونة برغائب موءودة.
كم كنت جباناً تصفعه المذلة في كل نظرة انكسار في كل كفٍ امتدت إلى الطريق وقد عجزت عن انتزاع الحق.
اكتشفت كيف تصبح "الصورة" بلداً مقبورة وكيف تنسل الجريمة من قبر الصمت صاهلة، كيف يستحيل العجز حكماً غشوماً يفتل قيوده من جلود المقهورين.
اكتشفت كم أنا قادر وكم نحن قادرون ومهانون فقط لأنا نسينا القدرة التي زودنا بها الله لنحمي أنفسنا ولندرأ عن حياتنا الجور ولنحيا كما يجب ونحب. ما أكثركم أيها الرائعون، ما أعظمكم أيها المقاومون، الممانعون في الميدان
االواقفون أطواداً شامخة لا تبالي بمن سقط.
لتاريخُ صنعة أبطال:
"منشورُ اختيارنا لكَ واضحٌ، لكن استخراجك ضعيف" من فوائد ابن القيم رحمه الله.
خلقَ الله الإنسانَ بطلاً مذ كان, اختارَهُ خليفةً, وأمدَّهُ بكل ما يمكنه القيام بمهام الإستخلاف .. خلقه ليخوضَ الحياةَ صراعاً يقتضي الشدةَ وقوة البأس وما التاريخُ إلا رحلة بحث عن الكرامةِ والحريةِ وحياةِ المَنعة والإباء.. لامكان الخوالف الهاربين من تحمُّلِ مسئولياتهم وصناعةِأقدارهم،
القرآنَ الكريمَ ليجسد كفاحَ الانسان في سبيلِ الحياة الحقة على مستوى الفردِوالجماعةِ عبرَ الحقب والعصور. وفيه ترى الإنسانَ في صراعه الوجوديّ الكبيرِ، منتصراً ومنكسراً ثابتَ الخطى ومتأرجحاً، عالي العزمِ وساقطَ الهمةِ، مكابداً كادحاً يبتغي مالا ينال بالأمنياتِ، يبتغي ما يقصر عن بلوغه الضعاف العجزَةَ. مشلولو الإرادة والعزم
تستهوينا البطولةُ والتاريخُ, حكايا ممجدة للأبطالِوالبطولات .. بطولة الأفراد والجماعات, الأمم والشعوب, التحولات الكبرى, صنعة أبطال الوقفات والوثبات, المواقف والتواريخ الفارقة.. ندين للأنبياءِ والرُّسلِ, ندين للفرسان المجاهدين, ندين للعظماء وللأبطالِ والعلماء والرموز الملهمة في كل ميدان,
القيمُ والمبادئُ لا تأتي من فراغ، ولا تعيشُ في الفراغ..تحتاجُ إلى تمثُّلٍ, تحتاجُ إلى نماذجَ مُجسَّدَة، نرى فيهم مَدى قدرةِ الإنسانِ على التحقق و التسامي والارتفاعِ, مدى إمكانيتِه تجاوُزَ ذاتِهِ ومحدوديتِهِ, ومدى الطاقاتِ والقوى الكامنةِ فيه.. يحتاجُ الناسُ إلى وجودِ أبطالٍ منهم, متمايزين، لا لكي يقودونهم كأتباعٍ ضائعين..؛ وإنَّما يقودونهم لاكتشافِ بطولاتهم هُم، باعتبارهم صنَّاع البطولة.
نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك