تعز وضريبة الموقف: إطلاله تاريخية..الحلقة (1-4)
الجمعة 15 أُغسطس ,2025 الساعة: 06:45 مساءً


تنويه: 
الكتابة حول الحرمان والحصار، لايعني إغفال ما حصل ولا يزال في بقية المحافظات الممتدة على رقعة وطننا اليمني الحبيب.
بل أقول جازما أن هناك اتفاق بين العقلاء حول المفهوم التالي: 

- تعز الذراع الحامل لثورة 11 فبراير . 

- مأرب الذراع الحامل للجمهورية.

- شبوة الذراع الحامل للوحدة.

مستهل: 
تهتدي إن هي أتعزت
وإن جانبتها تخبط العشوى ! 
 
   أ / عبدالله البردوني. 
من قصيدة رفاق الليلة الأخرى. 

لماذا تعز.. ؟
حرمان.. حصار.. عدم تحرير.. خلايا نائمة.. سلخ وتقطيع لمديرياتها ؟!

     ثالثة الأثافي: 
 هي سلخ وتقطيع مديرياتها -المخاء والحجرية وساحل تعز الغربي، وعزلها عن عاصمة المحافظة، وبطريقة لاتخلو من خسة تستغل أزمة الحرب المنعكسة اقتصادياً على أبناء هذه المديريات، فيتم شراء جوع المعسرين وتوجيههم لزراعة القلاقل والفوضى في مديرياتهم وصولاً إلى قطع شريان حياة مدينة تعز المتمثل في قطع طريق تعز عدن! 

هنا يتساءل العقلاء : 
لماذا هذه الممارسات الخسيسة ضد تعز ؟

لماذا تعز ؟

 الإجابة على هذا السؤال تحتاج عدداً من الوقفات.
الوقفة الأولى:

 إطلالة تاريخية: 

لا شك ولا ريب أن المواقف الواعية والمسؤولة واستخدام المرونة في مكانها، 
والقوة الصلبة الرادعة في مجالها وزمنها المناسبين، يعطينا دليلاً أن هناك مستوى عال من الوعي الثقافي الناضج..
ودلالة أخرى أن هذا الوعي المتقدم والراسخ لم يولد طفرة، وإنما هو وعي له جذوره الممتدة والضاربة في أعماق أعماق الوعي أولاً ومسارب التاريخ ثانياً، وإذنْ: فإن هذه الإطلالة التاريخية ستفتح لنا: 

  1 ـ نافذة على
  الوعي الثقافي التعزّي


2 ـ دلالة لاتقبل الجدل وهي: 
أن الوعي الثقافي المتراكم يمنح الأمم والشعوب شخصية قوية واثقة بذاتها، وإنطلاقها نحو مستقبلها أولاً، 
وأن الوعي الثقافي المتراكم هو محل الرهانات النهضوية والحضارية ثانياً.

3 ـ هذه النافذة ستجعلنا نقترب من الإجابة على السؤال: 

 لماذا تعز..؟
وحرصا على بقاءخيط الفكرة لدى القارئ سنقدم إجابة إجمالية لسؤال لماذا..تعز. 
 والجواب: 
لأن تعز هي عاصمة الوعي الثقافي عبر القرون! 
 
 الجواب التفصيلي على السؤال
( لماذا تعز..)؟
 سنحاول إيجازه في الباقات التاريخية الفكرية والثقافية التالية: 

1ـ مُعلّمٌ فريد في تعز 
  - الجند والسكون: 

الرسول ص. اختار الصحابي الشاب المتألق معاذ بن جبل رضي الله معلماً وموجهاً في 
(تعز - الجند والسكون) ومشرفاً على بقية الأقاليم الشرقية - ذمار ومارب.. شبوه.. حضرموت.. والمهره.!

  مبررات الإختيار :

 إن الاختيار النبوي للشخص والمكان والمهام، لم يكن عفوياً وإنما كان اختياراً صادراً عن معرفة الرسول ص، معرفة تامة بطبيعة الواقع الثقافي في إقليم الجند والسكون.
ومن هنا نجده ص.قدّم مبررات الإختيار قائلاً : 

أعلم أمتي بالحلال والحرام: (معاذ بن جبل)!
 هذا المؤهّل الفكري والفقهي بل والشهادة من المعصوم ص. يعطينا دلالة مفادها أن مدن الجند والسكون والسكاسك فيها إرث ديني، فكري، ثقافي و
حضاري في غاية التعقيد.
هذا التعقيد لن يقوم بتفكيكه وتنقيته بوعي تام شخص عادي، وإذن: 
 فارس هذا الميدان هو الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه. 

2 - المبرر النبوي يعطينا فكرة ثقافية وحضارية أخرى وهي أن تعز هي عاصمة المركزية الدينية و الثقافية والإدارية وبقية الأقاليم تابعة لها.


3 ـ فقهاء عمالقه : 
نماذج لمدرسة معاذ.

امتاز عصر التابعين بسبعة فقهاء مشهورين إثنان منهما تخرجا من مدرسة الجند هما - طاووس بن كيسان، وعطاءبن أبي رباح، علماً بأنهما كانا رقيقين.
لكن مدينة الوعي الثقافي رفعتهما الى الذروة ليكتمل بهما عددالفقهاء السبعة.!

4 - الشافعي واحمدبن حنبل: 
الفقيه الشافعي والمحدث أحمد ابن حنبل رحمهما الله تخرجا من مدرسة معاذ في الجند.

5 قيادة الفكر الإسلامي: 
ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب أن زبيد وما حولها الى نجران، 
وأيضاً وادي السحول أي
( إب) كلها تتبع تعز إدارياً حتى عام 350 هج.
 
وفي مطلع خمسينيات القرن الرابع (هج) تخرج الفقيه ابوالحسن الأشعري الشافعي من الجند وانطلق عام356هج، الى بغداد وأعلن مذهبه الفكري المخالف للمعتزلة وناظرهم وانتصر مذهبه وأصبح هو مذهب المدرسة السنية عموماً والتي تمثل نسبة97 %من علماء السنة المتبعين للمذهب الأشعري في أقطار العالم الإسلامي حتى اللحظة.. بغض النظر عن أخطاء اعتورت هذا المذهب، لكن هدفنا هو أن مذهب ابن الجند مسيطر حتى اللحظة. 

6- جَباء مدينة العلماء: 

لم يمر القرن الهجري الأول حتى انتشرت المدارس العلمية في كل اتجاه، لكن مدينة جباء حسب المؤرخين كانت فيها جي400 دار وكل دار تمثل مدرسة بدء من المراحل الدنيا وحتى المراحل العلمية العليا! 
موقع هذه المدينة العلمية حسب المؤرخ الجندي، 
تقع في فجوة جبلية في الجنوب الغربي من جبل صبر - تتبع المعافر واشتهر علماء كبار كثير بنسبتهم الي المعافر.. منهم :
- الفقيه ابن العربي المالكي المشهور وله تفسير بلغ 80 مجلدا بعنوان أنوار الفجر، لأنه كان يكتبه بعد صلاة الفحر..!
كما أن له تصانيف أخرى رائعة! 
- الملك المنصور ابن أبي عامر المعافري الذي حكم الاندلس 22 عاماً 

- هناك رسالة ماجستير للباحثة سناء الترب بعنوان المعا فريون في الأندلس، جمعت فيها عدداً مذهلاً من العلماء والأمراء والقضاة وقادة جيش .. الخ- معافريون. 

- في حدود علمي أعلن أسفي إزاء تقاعس الباحثين المعاصرين كونهم لم يتطرقوا لتاريخ هذه المدينة العلمية التي ظلت
400 عام!  

7 - انتشارمراكز العلم: 
المؤرخ الجندي قال: بلغ عدد المراكز العلمية في الجند وحيفان والأغابرة والدمنة وغيرها 500 مركز علمي! 
ذكر أكثرها بالإسم وحدد أماكنها.

 8 - ملوك وعلماء: 

  الرسوليون في تعز: 

 الحِبْشي في كتابه (حكّام مجتهدون) استعرض ملوك الرسوليين في تعز خلال قرنين ونصف تقريباً 
وذكر تفوقهم العلمي في تخصصات مختلفه منها الطب والبيطرة والفلاحة والفلك والرياضيات والزراعة..
وبعض الصناعات..
- أورد إسم كتاب للملك المظفر عنوانه الصناعات العشر وأنه مخطوطة في مكتبة ميونخ المانيا. والصناعات العشر منها :صناعة الصابون، والحبر والورق، وطريقة علاج حوافير الخيل وصناعة الصمغ والشمع وصناعة الاقلام وصناعات أخرى ملفتة النظر.!
- ذكر للملوك الرسوليين مؤلفات صناعية أخرى : تجليد الكتب، صناعة الأقلام، والطب والفقه والأدب والفلاحة والفلك، الأمر الذي يعطينا صورة عن سعة الوعي الثقافي والعلمي والحضاري بتعز.

بالمقابل ذكر حكّاما هادويين مجتهدين غير آن اجتهادهم لم يتعد أصول الدين- اثبات عقيدة الحق الالهي السياسي المنحصر في البطنين، نعم ذكر حاكماً هادوياً واحداً ألّف في الفلك والرياضيات.!

وكذا حاكم زبيد (جيّاش) في القرن الخامس هج. الف كتاب تاريخ زبيد. 
      
مهوى الأفئدة : 


أصبحت تعز في العهد الرسولي مهوى أفئدة علماء مصر والشام والعراق وفارس، بل إن مدرسة حضرموت التواقة للريادة أصبحت ترسل مدرسيها والطلاب الي تعز..!

 وأكثر من ذلك، أن الدولة الرسولية كانت ترسل كسوة البيت الحرام من تعز، ونظراً للانتشار العلمي والرفاه في ظل دولة الرسوليين فقد اتسعت رقعة حكم الرسوليين الى عُمان.. ومكة وبعض السنوات وصل دمشق! 

9 - عنوان الشرف الوافي : 

هذا الكتاب لم ينسج على منواله عبر التاريخ وقد حاول السيوطي تقليده فلم يستطع.
 تضمن الكتاب خمسة علوم للفقيه البارع اسماعيل المقري وقد نسجه بطريقة مذهله، وكان هدفه أن يكون قاضياً والكتاب بمثابة مؤهّل على نبوغ يعكس ذروة عالية من الرسوخ الفكري.

10- كتاب الاستعداد لرتبة الاجتهاد : 
هذا السِّفْر العجيب 
 ظهر في أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العاشر هج.
في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يرسف في ظلام التقليد،
فقدم الفقيه الحنفي ابن الموزعي كتابه هذا ضمّنه اجتهاداً لغوياً وفي علم الحديث والفقه وأصول فقه، والنحو والصرف والبلاغة حيث اجتهد في
أغلب المسائل التي سبق فيها خلاف أو مسائل رأى أنها بُنيت على تقليد الآخر للأول.
نجده قدم فيها مذهبه الإجتهادي الخاص مشيراً من خلال عنوان الكتاب إلى أن كتابه يرشد الباحثين ويمنحهم الاستعداد للإجتهاد.
 
11- التعايش الفكري: 

ذكر المؤرخ الجندي أن مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة كانت مدارسها قائمة في تعز ويتم تدريسها لمن أراد دون أي تعصب. 
وهذا لم يكن حاصلاً في بقية المدن الأخرى، وإن وُجَد فيها مذهب فهو نادر. 

تعز في العصر الحديث: 

المقصود بالعصر الحديث عند المؤرخين يبدأ من القرن العاشر الهجري.

هذه ملامح سريعة ذات دلالة لا فتة للنظر تعزز ما نحن بصدده - مفهوم الوعي في تعز، وهي:  

1- عدم الخضوع للظلم..

السفاح ابن المطهر الهادوي في القرن العاشر سفك دم آلآلاف من اليمنيين الأبرياء في مناطق مختلفه، ولكن عند دخوله تعز فوجئ بجيش الشيخة (زعفران) شيخة قضاء الحجرية حيث خرجت برجالها ووقفت سداً منيعاً في وجه السفاح ومنعته من دخول الحجرية، 
وتكلل نجاحها بوصول الحملة العثمانية الأولى، فاتجه العثمانيون نحو (إب) مطاردين السفاح حتى وصل حجة. 

2- ثورة المقاطرة في وجه الظلمة بيت حميد الدين كانت نقطة إشراق في ليل دامس.!

3 - سعياً خلف الوعي المعرفي والثقافي: 
 ظهر ت أول مدرسة على النمط الحديث في حيفان وأخرى في التربة وكان الدعم من أبناء تعز العاملين في عدن والمدرسون فيها الأستاذ النعمان واخوه علي بل هذ الأخير هو المؤسس للمدرستين، وقد زار المدرستين ابن الامام يحيى وأمر باغلاقهما.. 

4 الجمعية الكبرى: 

في عام 1944 قام المناوئون لظلم وطغيان بيت حميد الدين من أبناء الشمال بتأسيس حزب الأحرار في عدن.  
 
5 - سخاء نادر ومتميز:

 جُلّ أبناءتعز الذين كانوا يعملون في عدن قدموا المال الكثير و بنسب متفاوتة لدعم الأحرار ولأن الإمام كان يهدم منازل بيوت المتبرعين بالمال، فقد كان النعمان يأخذ الفلوس من الداعمين بصورة سرية دون علم زملائه أعضاءالمعارضة، فاحتدم النزاع بين النعمان والزبيري حول مصدر التمويل الداعم بهذا السخاء؛ خشية أن يكون المال من بريطانيا..
قدّم النعمان مبررات
( سرية الدعم) فلم يقتنع الزبيري فحرر النعمان رسالة بواسطة الزبيري لأحد الداعمين، لكن الداعم رفض وأنكر بقوة فعاد الزبيري وقد تعزز شكه، فانطلق النعمان مع الزبيري الى الداعم وهنا بادر الداعم وأعطى النعمان المبلغ، فالتفت النعمان الى الزبيري وقال له ألم أقل لك أنه الخوف من تهديم الامام لبيوتهم..؟
      
6 - داعم فريد يبرهن على نضوج الوعي: 

التاجر عبدالحق الأغبري قدم دعماً كثيراً، لكن عندما اضطر الاحرار لشراء مطبعة تابع لصحيفة صوت اليمن، قدم هذا الرجل العظيم ثمن المطبعة للنعمان 36000 الف ريال فرانصي، وهذا مبلغ فاق دعم المجموع، 
إنه مبلغ مهول في تلك الحقبة التاريخية.! 
كيف لا، ونحن نعلم أن الزبيري عضو المجلس الجمهوري بعد قيام ثورة 26 سبتمبر كان يتسلم راتباً بالعملة الورقية 130ريال لا غير! 

شوهد هذا الرجل - الأغبري مطلع سبعينيات القرن الماضي وهو أمام دكانه المتواضع الكائن بشارع جمال،صنعاء، فتقدم اليه شخص صنعاني، وكان على علم بتضحيات الرجل وقال له ما الذي استفدته ياعمنا من انفاقك هذا انت ..؟ صادف تلك اللحظة خروج الطلاب من المدرسة فالتفت رجل الوعي مشيراً بإصبعه نحو الطلاب قائلاً للمتسائل: يكفيني هذا.. !
ايّة عظمة يا ابن تعز؟

7 - حاضنة ثورة 14 اكتوبر:
 
إنه لمن المؤسف حقاً أن الذين أرخوا للحركة الوطنية أغفلوا دور تعز في احتضانها ثورة 14 اكتوبر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قيادة وتدريبا وموتمرات وإمداداً ومسيرات..الخ. 

الخلاصة: 
- نستخلص مماسبق أن الوعي الثقاقي في تعز لم يكن طفرة وانما هو وعي تراكم عبر القرون.
- حين نتحدث عن
 (تعز الوعي) مقصودنا هو الغالب الأعم..

 معالم الوعي البارزة: 

1- غياب النظام الابوي.

أعني لا يوجد في تعز ما يسمى داعي القبيلة
والذي يعني أن الكل تبع للشيخ. 
2 سعي تعز دوماً لقيام الدولة: 
الشواهد قبل قيام النظام الجمهوري وبعده تقول ان (مشيخة تعز) مع الدولة بل إن الشيخ يعلن بكل احترام وقوفه أما م القضاء مدعياً أو مجيباً دونما أيّ تلكؤ؟

3- الاختلاف في الرأي:
 
هذه أبرز معالم الوعي: 

 فالكل يختلف ولكنه اختلاف لم يتعد الى التخندق والتعصب والتراشق بالنيران، فما هو حاصل الآن ضد تعز يعتبر شذوذاً بنظر أغلبية أبناءتعز بحثاً عن مشاريع صغيرة. 

4 - ادارة الاختلاف: 

ترسخ الوعي بأهمية الاختلاف - على الرغم من تأخير حسم القضايا لكن الحاضر في الأذهان أن تأخير حسم القضايا أفضل من القرار الفردي. 

       التجليات:  
1- تجلي الوعي الثقافي في تعز في درجة متقدمة من النضج الذي تستحق كل التقدير والاحترام. 

2 ـ تحول الوعي الثقافي في تعز الى كتلة صلبة تحطمت عليه كل المواقف الطائفية والمناطقية والمذهبيه والجهوية.. وفشل أصحاب المشاريع الصغيرة. 

3 - خلَقَ الوعي الثقافي حاضنةً شعبية قدمت ولا زالت تقدم - قديماً وحديثاً كل مايمكن تقديمه للجيش الوطني والمقاومة الشعبيه! 


-القارئ العزيز لا شك أننا قد اقتربنا خطوة نحو الإجابة علي السؤال: لماذا تعز ؟

نلتقي بعونه سبحانه، 
في الحلقة القادمة.


Create Account



Log In Your Account