قوة الانتشار السريع والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج
الجمعة 15 أُغسطس ,2025 الساعة: 06:51 مساءً
تقرير: جيفري ريكورد عرض: بلال الطيب


تقرير أعده: جيفري ريكورد
عرض: بلال الطيب
صحيفة الثقافية 2007



كيف تفكر الولايات المتحدة الأمريكية؟ وكيف تخطط؟ وما الذي تدبّره لفرض سيطرتها على الوطن العربي وثرواته النفطية؟ وما هي نقاط القوة والضعف في تدبيرها؟ وماذا عن ادعاءاتها بشأن الدفاع عن نفط الخليج العربي؟ وما حقيقة نواياها في احتلال حقول هذا النفط ومنشآته، سواء عبر القبول العربي – إن أمكن – أو التسلل إليها بدعوى حمايتها (وهو ما تعيشه دول الخليج الآن)، أو بالهجوم السافر عليها إذا ما توفرت الوسائل التي تضمن نجاح هذا الهجوم في الاستيلاء عليها سليمة أو شبه سليمة؟

تلك الأسئلة وغيرها أجاب عنها جيفري ريكورد، الذي يُعد واحدًا من أبرز الخبراء الأمريكيين في الشؤون الاستراتيجية، وذلك في تقريره الخاص المعنون بـ (قوة الانتشار السريع والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج)، الصادر عن معهد تحليل السياسة الخارجية بواشنطن في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وقد قام بترجمته إلى العربية الأستاذ عبد الهادي ناصف، وصدر في القاهرة عن "المستقبل العربي للنشر والتوزيع" عام 1983م.

تكمن الأهمية العلمية لهذا التقرير في تقديمه رؤية استشرافية مبكرة، كشفت عن الدوافع الحقيقية للاستراتيجية الأمريكية، التي تتجاوز الخطاب الرسمي المرتكز على مفاهيم الأمن الإقليمي وحماية المصالح الحيوية.

ونظرًا للأهمية البالغة لهذا التقرير، باعتباره يوضح مطامع الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة العسكرية على منابع النفط، ومن باب الأخذ بمضمون الحكمة الخالدة التي تقول: «اعرف عدوك»، قمنا بهذا العرض التحليلي، لتفكيك الأبعاد الجيوستراتيجية والعقائدية التي حكمت السياسة الأمريكية تجاه منطقة الخليج العربي في تلك الحقبة، والتي أرست الأساس لسياسات التدخل اللاحقة.

اعتمد ريكورد في دراسته على المنهج التحليلي الاستشرافي، حيث سعى إلى استقراء التحولات الجيوسياسية في منطقة الخليج، وتقدير المخاطر المحتملة التي تهدد المصالح الأمريكية، وعلى رأسها تأمين تدفق النفط. كما تبنّى في تقريره مقاربة نقدية تجاه فعالية الحلول العسكرية المطروحة، وعرض بدائل استراتيجية ترتكز على المفاضلة بين الكلفة العسكرية والسياسية لأي تدخل محتمل.

هيمنة دون هيمنة

يكمن المبدأ العقلاني وراء تشكيل قوة الانتشار السريع، التي أنشأتها إدارة كارتر في أعقاب التدخل السوفيتي في أفغانستان، في كونها أداة للحفاظ على حرية وصول الولايات المتحدة دون انقطاع إلى نفط الخليج.

وتتكوّن قوة الانتشار السريع بشكل رئيسي من وحدات من الجيش وسلاح الطيران الأمريكيين، وستعتمد عملياتها في الخليج العربي على حرية الوصول المسبق إلى قواعد ومطارات أرضية، وتتطلب الاستناد إلى بنية تحتية هائلة مقامة على الأرض. وهذا – كما يراه الكاتب – يُعد سوء حظ قد يواجه تلك القوة، خاصة أن نجاحها أو فشلها في زمن الحرب رهن بالحسابات السياسية الوقتية لاحتمالات استضافتها من قِبل النظم الحاكمة في منطقة الخليج، وقد تم ذلك بالفعل.

ولما كان التدفق المستمر لنفط الخليج يمثل مصلحة أمريكية حيوية في المنطقة، ويفتقر إلى الحماية الكافية، فإن هذه حقيقة غير قابلة للجدل، حسب ما ورد في شهادة وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، هارولد براون، أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس، حيث قال: «إن ما نراهن عليه في الخليج العربي هو الرخاء الاقتصادي والعافية السياسية للولايات المتحدة وحلفائها. فلو حُرمت الدول الصناعية في العالم من حرية الوصول إلى مصادر الطاقة في الخليج، فستكون النتيجة على الأرجح هي الانهيار لحلفائنا وللاقتصاد العالمي».

ويرى كاتب التقرير أن قوة الانتشار السريع الحالية تمثل دعوة مفتوحة إلى كارثة عسكرية – كارثة من شأنها أن تزيد من صعوبة استعادة الولايات المتحدة لسمعتها العسكرية التي شُوِّهت بالهزائم أو بالفشل.

إن مجرد التفكير في توجيه قوة بهذا الحجم إلى معارك برية في منطقة الخليج العربي هو في حد ذاته تجاهل لدرس من أهم دروس فيتنام. ويقصد معد التقرير بذلك أن خلق وجود عسكري أمريكي كثيف على أرض أي منطقة في العالم الثالث هو في حد ذاته هزيمة ذاتية؛ لأنه يثير مشاعر وطنية معادية لذلك الوجود.

والواقع أن تفادي الوجود العسكري الكثيف على الأرض ينبغي أن يكون مبدأً مهيمناً على استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط الكبير، باعتباره منطقة ظلت لزمن طويل تغلي بمشاعر وطنية شديدة العداء تجاه الغرب.

إن الهدف الأساسي للتدخل العسكري الأمريكي في الخليج هو الحيلولة دون إكراه المنطقة على الخضوع لقوة بعينها، سواء كانت هذه القوة هي الاتحاد السوفيتي سابقًا، أو العراق سابقًا، أو دولة أخرى من الدول المطلة على الخليج كإيران.

وأهم من ذلك، أن التدخل يجب أن يُدار على نحو لا يُفهم منه أن الولايات المتحدة تسعى إلى الانفراد بالسيطرة؛ بل ينبغي عليها أن تتمثل بالحكمة الصينية التي تقول: «قاوم الهيمنة دون أن تهيمن، أو تبدو كأنك مهيمن».



تهديدات محتملة

في الفصل الثاني من الكتاب، قدّم الكاتب تصنيفًا للتهديدات المحتملة لأمن تدفق النفط، والتي شكّلت الأساس المنطقي لتبرير التدخل العسكري. وقسمها إلى ثلاث فئات:
1. عدوان سوفيتي مباشر – وهي فئة مستبعدة بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي.
2. عدوان من قِبل قوة إقليمية أخرى ضد دولة منتجة للنفط أو ضد حقول النفط، ويُقصد بالقوة الإقليمية هنا إيران أو العراق سابقًا.
3. تهديدات داخلية، وتشمل الاضطرابات والثورات الداخلية أو الأعمال الإرهابية في الدول المنتجة للنفط.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قد أعلن في رسالة "حالة الاتحاد" الموجهة إلى الشعب الأمريكي في يناير 1980م، والتي سُميت لاحقًا بـ (مبدأ كارتر)، عن ضرورة التدخل العسكري في منطقة الخليج، لا سيما بعد أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران التي استمرت فترة طويلة، ووقفت الولايات المتحدة منها موقف العاجز الذليل.

وقال كارتر في خطابه: «إن أية محاولة من جانب أية قوة أجنبية للسيطرة على منطقة الخليج، سوف تُعد بمثابة عدوان على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، ولسوف يُقابل مثل هذا العدوان بكافة الوسائل الضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية».

وقد تحقق للولايات المتحدة ما كانت تخطط له؛ فبعد مرور عقد من الزمن، قامت القوات العراقية باحتلال الكويت، مما دفع واشنطن إلى التدخل، فجاءت بجحافلها وعدتها وعتادها لتعسكر في المنطقة، بحجة تحرير الكويت، وحماية دول الخليج من النظام العراقي، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور النظام العالمي الجديد الذي أعلنه بوش الأب.

وها هي الولايات المتحدة الآن تخوض حربًا شعواء لا هوادة فيها ضد الشعب العراقي الشقيق، تنفيذًا لمخططات أُعدت سابقًا. فالعراق يحتوي على احتياطي كبير من النفط، وهو بحد ذاته يمثل تهديدًا للدول النفطية المجاورة له، وقد برز هذا التهديد بالفعل عام 1980م، عندما أقدم العراق على احتلال إقليم كوزاخستان الإيراني الغني بالنفط.

ومن هذا المنطلق، فإن إمكانية بروز العراق كقوة عسكرية مهيمنة على شبه الجزيرة العربية يشكّل تهديدًا محتملاً وتحديًا عسكريًا واضحًا لمصالح الولايات المتحدة في الخليج. والعراق – على وجه التحديد – لم يكن دمية للاتحاد السوفيتي، إلا أن سياسته الخارجية كانت معادية بشكل واضح للولايات المتحدة.

ولا ينبغي التقليل من أهمية الآثار السلبية لنقص كفاءة الجيوش المحلية، رغم أن التدخل الأمريكي قد يستفيد من هذا في حال وقوع العدوان من إحدى دول المنطقة.

ورغم أن كثيرًا من المعلقين أعلنوا وفاة مبدأ نيكسون عقب سقوط فيتنام الجنوبية 1975م، إلا أن المبدأ – من حيث أسسه المنطقية – ما يزال حيًّا كما كان يوم إعلانه في جوام 1969م، وهو المبدأ الذي نص على أن الاستخدام الكثيف لقوة عسكرية أمريكية كبيرة في العالم الثالث لا يُتوقع له النجاح ما لم يُدعَم من قِبل نظم محلية قابلة للبقاء.

أما جذور قوة الانتشار السريع الحالية، فترجع إلى التوجيه الرئاسي رقم 18، الذي صدر في أغسطس 1977م، بعد فترة وجيزة من تولّي إدارة كارتر المسؤولية.

حلول مقترحة

في الفصل السادس والأخير من الكتاب، قدّم ريكورد مقترحات عملية لتجاوز أوجه القصور في هيكلية قوة الانتشار السريع، من أبرزها:
1. إسناد المهمة إلى سلاح مشاة البحرية (المارينز)؛ نظرًا لما يتمتع به من قدرة عالية على تنفيذ عمليات برمائية مستقلة، دون الحاجة الفورية إلى قواعد برية.
2. تطوير استراتيجية حرب المناورة، وهي استراتيجية ترتكز على تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي والجوي للحلفاء، دون الانغماس في احتلال بري واسع النطاق، مما يقلل من الكلفة السياسية والبشرية.

وخلاصة القول: يُعد تقرير جيفري ريكورد وثيقة تحليلية ذات قيمة تاريخية واستراتيجية، إذ قدّم تشريحًا مبكرًا ونقديًا للاستراتيجية العسكرية الأمريكية في الخليج، وكشف عن التناقض بين الخطاب المعلن القائم على حماية الاستقرار، والأهداف الحقيقية المتمثلة في ضمان الهيمنة على مصادر الطاقة. وتظل تحليلاته حول محددات القوة العسكرية وتكاليف التدخل المباشر ذات أهمية لفهم الديناميكيات المستمرة في علاقة الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط.

التقرير نشر في صحيفة (الثقافية)، بتاريخ 23 يناير 2007م.


Create Account



Log In Your Account