اليمن.. حزبية بلا أحزاب!
الإثنين 18 أُغسطس ,2025 الساعة: 03:53 مساءً

أنشئت الحزبية والتعددية في اليمن على أساس التنافس في بناء الوطن، واحترام الحريات وتعدد الأفكار، وكان قيام هذه الأحزاب أهم شروط الدخول للوحدة بين الشطرين، لكنها كانت جنايات على اليمن واليمنيين؛ فقد مزقت الشعب إلى كنتونات وشعوب حزبية، وسحق الوطن تحت وطأتها وشتاتها، وفي أهم المنعطفات اليمنية عجزت وتراجعت الأحزاب عن إيجاد حلول خلاقة للخروج باليمن من أزمتها.
هي ضمن أفكار كثيرة وضعها واضعوها كأفكار خيالية إيجابية للوطن، لكن عند التطبيق فشل الكل فيها؛ فقدم الولاء لها على حساب الولاء الأساس للوطن، وما كل فكرة جميلة طبقت على أرض الواقع وهو المحك الأساس.

وصلت الحزبية إلى نهايتها في اليمن، ولم تعد تقدم أفكاراً خلاقة ولا مفيدة للشعب، ووصلت إلى طريق مسدود وعجز منقطع النظير، ومتكلة على ما يمكن أن يقدمه الخارج لليمن.
صحيح أن الحزبية كانت تمارس من تحت الطاولة قبل قيام الوحدة اليمنية، لكنها لم تختلف عنها في العلن إلا أنها فضحت لبقية الجماهير، وراح كل حزب يقتطع قطعة من الجسد اليمني الكبير، ويبيع ويشتري للخارج للحصول على التمويل، وأصبحت الحزبية مشكلة للبلاد أكثر منها حلولاً عملية لها.
الحزبية الإيجابية تكون تحت سلطة دولة قوية ذات دستور وقانون حاكمين قاطعين نافذين، ودولة تضرب بيد من حديد كل من يخرج عن الدستور والقانون ومصالح اليمن العليا، وكل حزب يتماهى مع الحكومة ويكون سنداً لها في تطبيق الدستور والقوانين دون عرقلة أو تحدٍ، أما في وضع كوضع بلادنا فهي أهم أدوات التدمير والتشرذم.

وسنعرج هنا على وضع كل حزب على حدة، وما آل إليه كل حزب في اليمن بعد أن أخذ دورته التاريخية، وكل حزب ضرب الحزب الآخر وتكتل عليه.
وأنت تمضي في طرق مختلفة من البحث في وسائل الإعلام، والبيانات، والمواقف السياسية للأحزاب، والمعايشة الواقعية لكثير منها، وتراقب من علو تحركات هذه الأحزاب تدرك يقيناً أنها انتهت في اليمن، وكل حزب أخذ مرحلته ودورته في الحياة السياسية اليمنية.

فالحزب الاشتراكي اليمني تم القضاء عليه من قبل نظام الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح في عام 1994، حتى وإن حاول ترتيب أوراقه بعد ذلك إلى عام 2003؛ عند إجراء الانتخابات النيابية ولم يحصل إلا على سبعة مقاعد فقط، وبمساعدة شركائه في تحالف اللقاء المشترك، ولم يستطع النهوض بعدها.
جاءت الانتخابات الرئاسية عام 2006 وكان الحزب يتفكك، وأعضاؤه يلحقون بالحزب الحاكم حيث المغريات المادية، ودخل عضو اللجنة المركزية فيه محمد عبدالله المجيدي سباقاً رئاسياً ممولاً من صالح وينضم إليه لاحقاً.

في المحطة المفصلية من تاريخ اليمن المعاصر، وبعد أحداث 2011 تم منح الاشتراكي والناصري والبعث مقاعد حكومية بناءً على اتفاق المبادرة الخليجية من الحصة العامة للتحالف الوطني الذي كان اللقاء المشترك أبرز وجوهه، ما لبث أن بدأ الانقلاب على شركائه في اللقاء المشترك، وخاصة الإصلاح، وتشتت سياسييه وقياداته بعد ذلك في 2014 أثناء الانقلاب الحوثي وتشظيه إلى فرق شتى؛ جزء منه لحق بالحوثي مؤيداً الانقلاب مشاركاً في حكومته غير المعترف بها دولياً، وجزء ظل على الترتيب السابق يترقب الوضع الجديد كغيره من الأحزاب في إطار السلطة الجديدة المنبثقة عن الشرعية ما بعد الانقلاب، وجزء ثالث كون المجلس الانتقالي وما ترتب عنه من أجهزة مختلفة تعمل بين الداخل والخارج، وجزء رابع يقف بين هؤلاء وهؤلاء حيارى تائهين، ممسكين العصا من المنتصف ومتمسكين بالحزبية ومبادئ الحزب وليسوا فاعلين فيه إلا من خلال نشاطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، كبقية الأحزاب الأخرى في ما كان يعرف باللقاء المشترك، وهؤلاء الأخيرون أضاعهم الطرفان الأول والثاني.

أما حزب الإصلاح فقد كانت الدائرة عليه من الجميع، وكلهم ينظرون إليه كالثور الأبيض الذي يجب التضحية به ليسلم البقية من افتراس الأسد.
من يريد أن يلتحق بجماعة ما، أو يحظى بدعم جهة خارجية، أو يحصل علة فتات من هنا أو من هناك، ما عليه سوى أن يشن حملة ضد الإصلاح، وضد الشرعية، وضد الجيش الوطني والمقاومة الشعبية حتى تفتح له الأبواب، سواء كان ذلك من قبل مفسبكين الذين يسمون (ناشطين)، أو إعلاميين، أو سياسيين حزبيين وغير وحزبيين ليتم جذب الجميع بالحملات الإعلامية عند الحاجة، أو تمرير بعض الأجندة عند أي منعطف أو تغيير سياسي.

اجتمع على الإصلاح الإرهاب الحوثي وتحالف صالح لينتقم منه شر انتقام باعتباره الفاعل الرئيس في ثورة فبراير 2011، وتم تشريده وقتل كثير من منتسبيه والشخصيات الفاعلة فيه، وبعضهم زج بهم في المعتقلات تحت وطأة التعذيب والتغييب القسري، بينما ذهب بعضهم إلى المنافي الخارجية والداخلية، وبعضهم كون جبهات مقاومة تصدت للانقلابيين الحوثيين وعلي عبدالله صالح، وفقد الكثير من أعضائه في الجبهات.

لحق الإصلاح الكثير من الأذى، ولا زال، من قبل الجميع، وضاع الكثير من أعضائه بين الاستهدافات الخارجية من الحوثي وصالح والانتقالي، ناهيك عن الضياع الداخلي من قبل قياداته التي وجدت نفسها هي الأخرى ضائعة تائهة في الخارج والداخل مزقتها الشللية الخارجية والداخلية، يمضي في ركبها بعض الشلليين من الوسط والقواعد، وغالبية الأعضاء في الجبهات هم أكثر الناس دفعاً لهذه الأثمان ويجدون أنفسهم اليوم تائهين بين الجميع أيضاً.
الإصلاح كقواعد أكثر الناس حباً للوطن وتضحية في سبيله، وبعضهم في العطاء والإيثار وخدمة الوطن والتمسك بالمبادئ كأنهم جيل الصحابة الذي تربى على يد النبي، وهؤلاء جميعاً يتجنى بحقهم الجميع من قياداتهم وبقية المكونات.

على الرغم من الإرهاب الحوثي استهدف الحياة السياسية والحزبية في اليمن وشتت المؤتمر الشعبي العام كما شتت الإصلاح، وكما تشتت الاشتراكي والناصري أيضاً، ما يوجب على الجميع توحيد جهودهم ورؤاهم وأهدافهم للتصدي للانقلاب الحوثي وإعادة الدولة ومؤسساتها والحياة المدنية للبلاد إلا أن الجميع أيضاً لم يتعلموا من الدروس السابقة، ولم يتغير شيء في الخارطة السياسية والحملات الإعلامية الممنهجة والمحرضة ضد بعضهم البعض، غير أن الحملات على الإصلاح من بقية هذه المكونات عادة تكون ممولة ومهدفة ومدعومة، ما جعل الكثير من الجهات تنضم إليها، وفي النهاية سيدفع الجميع الثمن أيضاً كما دفعه الجميع من قبل، وقد كانوا يقولون إنها عملية قيصرية فقط لإزالة الإصلاح، ولم يتغير شيء حتى اللحظة.

إستخدم الرئيس الأسبق صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام الحوثيين وتحالف معهم لضرب الإصلاح وعلي محسن والقشيبي، ليمتد بعد ذلك إلى الرئيس هادي نفسه، وليس ذلك خافياً على أحد؛ فكل التسجيلات معروضة على الشبكة العنكبوتية وواضحة للجميع، بينما كان الحوثي يتحالف مع صالح وعينه على صنعاء، وعينه على الإمامة وإعادة السيطرة على البلاد من جديد.
تم إزاحة الإصلاح من الطريق وخلا الجو للحليفين وحاول صالح أن يمارس هوايته السياسية في التلاعب بالأطراف المختلفة لإزاحة الحوثي والعودة إلى السلطة مجدداً، لكن الحوثي كان مدركاً لمرامي وأهداف صالح فتغدوا به قبل أن يتعشى بهم.

كان صالح يردد في كثير من خطاباته التحذير من أنه سيضطر لهدم المعبد على من فيه، ففعل، وكان خطأه الاستراتيجي الكبير أنه سلم كل مخازن السلاح للحوثي، وقبل ذلك سلم لهم مخازنه الاستراتيجية البشرية من مشايخ القبائل وقيادات عسكرية في مختلف وحدات اليمن التي تدين بالولاء له وتنتسب للمؤتمر الشعبي العام، فضلاً أنه لم يدرك الفارق بين حليف وحليف، وأن من يتحالف معه حية رقطاء لا ثعباناً مرناً كما عهدها من قبل مع بقية الثعابين التي كان يتحدث عنها، فبمجرد أن لاحت لها ثغرة قضت عليه وقضمت رأسه قبل الجميع.

ما زلت أتذكر استكانة عبدالملك الحوثي الشهرين الأخيرين من تحالفهما وهو يتودد تارة لصالح؛ تارة بخطاب لين وآخر غليظاً، فقلت في نفسي إنها والله المكر والخديعة التي ستودي بصالح؛ فقد جاءته الحية من نفس الجحر التي كان صالح يأتي بها خصومه ومنافسيه.
بينما كان الصراع والتنافس على أشده بين صالح والحوثيين كانت الحية الرقطاء تتسلل خلسة وبطريقة ناعمة وهادئة بين القبائل وتشتري ولاءاتها، وتنسج علاقاتها مع كبراء القبائل واللصوص وأبناء الشوارع وخريجي السجون الذين كان يطلقهم الحوثي في كل زحف يصل إليه حتى قصقص أطراف صالح وقلم أظافره البعيدة حتى إذا لم يبق له إلا الرؤوس الكبيرة والقريبة قمعها تهديداً ووعيداً وبذلاً مالياً سخياً؛ فمن يشتريهم صالح بالمال لا يمكن إلا أن يبيعوه لأول مشترٍ في أطراف السوق.
كما فعل الحوثي مع صالح فعل أيضاً مع مشايخ القبائل الذين اشتراهم فهو لا يأمن بيعته منهم، لم يتعامل معهم هذه المرة بالمهادنة والأموال والولاء بل عمد إلى تصفيتهم واحداً تلو آخر، وضرب قوة المؤتمر الشعبي العام القبلية، وكان العامان 2019 و2020 عامي التصفية، وهكذا شرب صالح وحزبه من نفس الكأس الذي أشرب منه الاشتراكي والإصلاح.

تشتت المؤتمر الشعبي العام، وانتهت قوته، ولم تبث فيه الحياة وتحافظ عليه في الرمق إلا مساندة دول التحالف له، وتشظى المؤتمر الشعبي العام بين الولاءات الداخلية والخارجية مثله مثل حزبي الاشتراكي والإصلاح.
ذهب قسم مع طارق، وقسم آخر مع أحمد علي وأحمد الكحلاني، وشطر ثالث مع الشرعية اليمنية بقيادة الرئيس هادي أولاً والرئيس العليمي وبن دغر ثانياً، بينما شطر رابع منه هناك في صنعاء مع المليشيا الحوثية التي تبتزه وتنهشه بين لحظة وأخرى؛ شطر صادق أمين أبو راس ويحيى الراعي.
أما بقية الأحزاب فغابت تماماً عن المشهد فلا تكاد تذكر؛ فبينما يمثل البعث الاشتراكي تسمية حزبية وعدده بعدد الأصابع إلا أنه منقسم أيضاً بين الحوثي والشرعية، ولا يوجد أي ثقل له على الساحة السياسية والعسكرية.

هو ذات الأمر مع الحزب الناصري؛ عدد قليل، لكن صوته مرتفع، وانشطر إلى ثلاثة أشطار أيضاً؛ ذهب شطر منه للتحالف مع طارق، وشطر ثانٍ في إطار تحالف قوى الشرعية، وشطر ثالث مع الحوثي في صنعاء، ولولا ما يجود به عليه طارق وآخرون لما سمع صوته.
المكونات السلفية وإن لم تكن مكونات حزبية إلا أنها ليست أحسن حالاً من بقية الأحزاب فهي تعيش حالات تشظٍ كبيرة، وكثير منها مشتت بين الرؤوس السلفية المشيخية وولاءات الخارج أيضاً، ولمن يستعملها، مثلها مثل كثير من القوى الأخرى التي تقدم مصالح الخارج على مصالح اليمن العامة، ولذلك صار الجميع مهاناً دونما قيمة في نظر الخارج أيضاً.

كل القوى تقريباً، ولا يستثنى منها جهة، تعمل بولاءات الخارج للحصوص على فتات يعتق رمقها السياسي، وبقاءها الوجودي، بينما الوطن آخر ما يتم التفكير فيه.
انتهت هذه الأحزاب فعلاً، وبقيت الحزبية كأجندة وأفكار وولاءات للبعض المتمسك بها، إلا أن لها بعضاً من جماهير في تعز هي الأعلى صوتاً والأكثر صراعاً، وهم فيها جميعاً كقُرْعٍ يتقاتلون على مشط. لم تفهم الأحزاب وقياداتها ومنتسبوها من الحزبية إلا المناكفات ضد بعضها، وحملات إعلامية ضد بعضها، ونسيت أن تقدم برامج خلاقة تنفع البلاد وتنتشل اليمن من التيه.
عملياً أصبحت هذه الأحزاب غير ذي جدوى ولا تأثير في الحياة السياسية؛ فلا قدمت حلولاً للوطن، ولا أسلمت الآخرين أذاها، ولم يعد لها من صوت إلا في البيانات ووسائل الإعلام فقط، وفي التكتلات الوهمية التي لا تغير واقعاً على الأرض بقدر ما هي تقاسم مصالح داخل الشرعية ذاتها.

المليشيا الحوثية الإرهابية لا يمكن تصنيفها ضمن الحياة الحزبية المدنية في اليمن؛ فهي أداة فوضوية ومعول هدم وتخريب لا يمكن أن يعد لها فعل إيجابي واحد، قضت على الحياة المدنية العامة في البلاد، وعلى مظاهر الدولة وأعادت اليمن إلى العصر الحجري وإلى شرعة الغاب، وإلى الأفكار الإمامية المتخلفة، وتريد تطبيق العصر الجاهلي على اليمنيين في القرن الحادي والعشرين، وليس ثمة تفكير في ذهنها ببناء اليمن، كما شبهها أحد اليمنيين بأنها مجنون يحمل في يديه قنبلة وسط زحام الأسواق!

تعيش اليمن حالياً مرحلة التيه دون كبير حاكم ولا قائد حازم ولا رأس حكيم، ولا سلطة الدستور والقانون المعطلين، والكل يشتم الكل، والكل يتربص بالكل، والكل ينتظر مخلصاً من السماء؛ فما نعيشه اليوم هو حالة كنتونات متفرقة ومتصارعة يشبه تماماً عيش اليمن بعد سقوط الدولة الأيوبية في اليمن؛ حين تشتت كل القوى والقبائل والمكونات، وذهبت كل قبيلة ومكون يعلن عن قيام دولة مستقلة في صنعاء وتعز وصعدة والبيضاء والجنوب والشرق، إلى أن تم توحيدها التوحيد الأول بقيادة نور الدين عمر بن علي رسول أفضى الصراع بعد ذلك إلى اغتياله، وباغتياله عادت البلاد للتشتت أكثر فأكثر فأعاد بناءها من الصفر ابنه الملك المظفر يوسف بن عمر ليبني بعدها أعظم الدول اليمنية على الإطلاق.


Create Account



Log In Your Account