محاصرة جيش الدولة.. تمكين جيوش الدويلات
الأربعاء 27 أُغسطس ,2025 الساعة: 03:07 مساءً

بالنظر إلى الأهداف التي تحققت منذ إعلان التحالف في مارس 2015، يمكن تقسيم فترة الحرب إلى مرحلتين لا تخلوان من التقاطع أحياناً. 

هاتان المرحلتان والأهداف ستكون ظاهرة أكثر على المؤسسة العسكرية الرسمية اليمنية ممثلة بوزارة الدفاع المعترف بها دولياً قبل أن تتحول الشرعية بكاملها إلى هدف للتحجيم ثم إعادة التشكيل.

في المرحلة الأولى من الحرب، عمد التحالف إلى كبح جماح مليشيا الحوثي وقصقصة أجنحتها، وضغط تمددها ودفعها إلى الانكماش داخل الجزء الأكبر من مساحة الشمال.

لم يكن ذلك هدفاً مرحلياً، بل إستراتيجية أثبتتها سنوات الحرب اللاحقة.

في هذه المرحلة رفع التحالف شعار "استعادة الشرعية وإسقاط الانقلاب واستعادة صنعاء"، وكان النشيد اليومي لمتحدثه الرسمي ووسائل إعلامه وناشطيه وحلفائه المحليين.

امتدت هذه المرحلة بزخم واحد متصاعد لم يكمل العام الأول، حرص فيه التحالف على حشد جميع المكوِّنات والأطراف اليمنية بلا تحفّظ لمواجهة واقع انضمام القسم الأكبر من الجيش الرسمي إلى جانب الحوثي بتأثير الرئيس الأسبق علي صالح.

مع ذلك، فقد تخلل هذه الفترة توجيه التحالف بعض الرسائل والإشارات التي تنبِّئ بحرب ضمنية غير مُعلنة، كقصف معسكر العَبر البعيد عن الجبهات بمئات الكيلو مترات في الأشهر الأولى، وهي تقنية "الأخطاء الصديقة" التي ستستمر طوال فترة الحرب، وتوقف تقدّم القوات القادمة من عدن على الحدود الشطرية بين دولتي الجنوب والشمال سابقاً.

في هذا السياق، كانت محافظة تعز، كواسطة عقد بين الشمال والجنوب ومركز الثقل السياسي والديمغرافي، هي بُؤرة الحسابات المعقّدة للتحالف، لذلك كانت أول اختبار حقيقي لمصداقية شعاره عن التحرير وإنهاء انقلاب الحوثي.

بينما كان أفراد المقاومة الشعبية والجيش الوطني يخوضون ملاحم بطولية نادرة من داخل المدينة المحاصرة ومن محيطها بعتاد لا يكاد يُذكر، كان التحالف يوجّه الأوامر لتعود القوات المتقدّمة نحو تعز أدراجها من الراهدة كأول مديرية في المحافظة بعد الخط الحدودي.

لاحقاً ستبدو تعز شبه منبوذة، لا يصل إليها إلا عتاد متوسط ومحدود للاستنزاف عبر جماعات سلفية متشددة،  وإذا حضرت، بعد سنوات، في أجندة التحالف، ستحضر باعتبارها إطلالة خطيرة على البحر يجب استعادتها وسلخها عن المحافظة!

كانت المرحلة الثانية من الحرب قد أعلنت عن نفسها قبل اكتمال العام الأول من "العاصفة" بالحديث المتصاعد عن حدود شمالية جنوبية، لكنها ستتجلّى أكثر بانخراط التحالف في الدعم والإسناد العسكري الرسمي لهذه المطالب، ثم صناعة حامل سياسي لهذه القوات حتى جرى إسقاط عدن في قبضتها بعد سنوات.

هذه المرحلة الثانية يمكن تسميتها بمرحلة الحرب على الشرعية، وإعادة هندستها على هوى التحالف. 
شيئاً فشيئاً ستجد التشكيلات، التي نشأت على هامش الشرعية أو على الضد منها، وقد أصبحت هي مركز الشرعية وقلبها، بعد تحجيم القوات التابعة للرئيس هادي في الجنوب، ومحاصرة ما تبقى شمالاً بالتشكيلات والحوثي!

ستتأكد الصورة أكثر في تعز، وسيبدو أنها هي المحافظة الوحيدة التي كانت مركزاً لحرب المرحلة الثانية منذ أشهر الحرب الأولى، لكن خطة الاستبدال بصنيعة التحالف، كانت الأقل حظاً.

ربّما ما أثار دهشة هذا الأخير، أن تعز التي ظلت عُرضة لأطول حصار في التاريخ وحرب استنزاف مُمنهجة، كانت الأكثر صموداً، فهي الجبهة الوحيدة شمالاً التي عجز فيها الحوثي عن استرداد متر واحد حرره الجيش والمقاومة.

المفارقة أن حرب التحالف لإعادة تشكيل الشرعية جرت باستخدام الشرعية نفسها، وبتأييد وابتهاج القوى السياسية نفسها، فالذين انتابتهم نشوة الانقلاب في صنعاء، داهمتهم ذات النشوة في عدن أيضاً بأحداث أغسطس 2019، وطالبوا بنسخة مشابهة لاتفاق الرياض في تعز!

أما هادي فهو الرئيس نفسه الذي أراد ربّما أن ينهي حياته وعهده بالطريقة ذاتها التي بدأها في صنعاء، فاتحاً الأبواب للمؤامرة التي كانت تكبر معه كل يوم قبل أن تجبره على إعفاء نفسه!

في الواقع، لم تكن المرحلتان منفصلتين كلياً زمنياً، فقد كان هناك ما يتسرّب من كل مرحلة إلى الأخرى، بصورة محدودة. 

في المرحلة الثانية -مثلاً- تخللت المعركة بعض التحرّكات هنا وهناك على حساب الحوثي، بينما ظلت معركة إعادة تشكيل الشرعية هي الهدف الأكثر ديناميكية في قلب الحرب بعد مرور أقل من عام على العاصفة!

في أي حرب، وحدة القيادة والهدف ألف باء المعركة والعمود الفقري للنصر. 

وبالنسبة لدول تعرف معنى ذلك جيداً، فالنصر الحاسم لم يكن يوماً هدفاً، والحق أنها لم تفعل ذلك بدون مساعدة بعض القوى المحلية الممسوسة بالحقد والنكاية.

لقد وظف التحالف قدراته على النقيض تماماً لما جاء من أجله علناً: بدلاً من إعادة الشرعية إلى صنعاء، أسقطها في عدن، وفي مقابل ما يفترض مساعدته لبناء قوات حكومية، عمد إلى بناء تشكيلات خارج المؤسسة الرسمية وخارج هيكل الأجور الحكومي، ثم كانت المحصلة هذا الذي تشاهدونه الآن.

الجندي، الذي قاتل بأقدام حافية في تعز تابعاً لوزارة الدفاع، يقف جائعاً وقد تُرك وحيداً في مترس لم يتوقف يوماً عن النزيف والاستهداف منذ عشر سنوات، أو يقتل وقد خلّف عائلة فقيرة وكشفاً مليئاً بالدِّيون.

الأمر نفسه يحدث بصورة أخف للجيش نفسه في مأرب.

في المقابل، يعيش الجندي، الذي يتبع تشكيلات صنعها التحالف، في بحبوحة: يتقاضى راتباً أضعافاً مضاعفة بالعملة "الشقيقة"، بانتظام، ثم إن جل أيامه ينعم بالهدوء في جبهات تقضي أوقاتاً سعيدة!

قبل سنوات، في ندوة سياسية بالرياض، قال ضابط خليجي متبجحاً كمن يمسك بالفرمانات في قبضته: إن جيش وزارة الدفاع اليمنية سيتم تسريحه.

لكي لا يبدو تصريحه مبهماً، أكد أن التسريح سيطال الجميع: من أصغر جندي حتى أكبر ضابط!

ليس بالضرورة أن يَصْدُر قرار رسمي بذلك حرفياً. يكفي فقط أن تنشئ دول الجوار الغنية، التي وجدت نفسها في مساحات فارغة، تشكيلات لا تتبع وزارة دفاع البلد الذي تتصرف فيه على هواها. 

هي تريد لهذه التشكيلات أن تحمي حدودها ومصالحها، تأتمر بأمرها لتنفيذ ما تريد في الأوقات الحاسمة، مقابل مرتبات عالية مقارنة بالجيش الرّسمي.

يمكن لهذا وحده أن يكون بمثابة مغناطيس، أو حتى قرار تسريح ضمني، حتى يتسرّب إليها جيش وزارة الدفاع التي يقاتل وزيرها ضده!

يخدم هذه الأهداف وضع عام، يبدو فيه الجميع في حالة عجز أو تواطؤ: حرب اقتصادية منهكة وأوضاع قاسية، مجلس قيادة من تصميم التحالف، حكومة مواردها تُسرق ومسلوبة القرار، نُخب مشلولة تتوزَّع على القوائم، وقوى سياسية لم تغادر حقبة النكاية والحقد الأيدلوجي.

داخل هذه المعادلة، تستمر جريمة تصفية ما تبقَّى من جيش الدولة لتمكين جيوش الدّويلات!

لقد راهنوا على الوقت وهم يعتقدون أن عبث السنوات الماضية، وتصفية الرؤوس والأرواح من نبل قضيتها الوطنية، وإغراق الناس في امتحان متطلبات الحياة اليومية، يمكن أن يمهّد السبيل لتصفية كل شيء.

---------------
نقلا عن موقع قناة بلقيس


Create Account



Log In Your Account