الجمعة 19 سبتمبر ,2025 الساعة: 03:07 مساءً
في مدينة حالمة تتوق إلى نبض الحياة، التي تُخنَق فيها كل يوم، ومن وسط ركام الحرب وهموم الناس، وقفت امرأة واحدة تحمل مكنسةً وهمّةً أعلى من الجبال؛ إنها الجارة أفتهان المشهري.
لم تكن تحمل مكنسة عادية تجمل قبح المدينة، بل كانت سلاحها في معركة من أصعب المعارك الوطنية ضد الهوامير: إنها معركة النظافة ضد القذارة، والنزاهة ضد الفساد، والإرادة ضد الاستسلام.
كانت الأستاذة "أفتهان المشهري" لا تحمل حلمًا شخصيًا ينتصر للنساء فحسب، بل حملت على عاتقها أحلام مدينة بأكملها. تسلّمت صندوق النظافة والتحسين في تعز وهو أشبه بجسد منهك القوى، بعد أن نَهشَهُ فسادُ "هوامير المال" وسلبوه حيويته. لكنها، بإيمانها القوي بأن المرأة قادرة على قيادة التغيير، أغلقت منافذ التسرب، وحاصرت الفاسدين، وحوّلت الصندوق إلى مشروع طموح يليق بـ"تعز الثقافة"، تلك المدينة التي طالما تنفّست أدبًا وتاريخًا وطنيًا منذ فجر الدولة الرسولية.
بالنسبة لي لم تكن أفتهان مجرد مديرة في قمة النزاهة، بل كانت جارةً في الحارة، تعرفها العائلات بدماثة أخلاقها وابتسامتها الهادئة. كانت تعمل ليلَ نهارِ بإخلاص نادر، كأنها تُصلح ليس فقط شوارع المدينة من عبث العابثين، بل تُصلح ضميرًا تآكل داخل أجهزة السلطة بالصمت عن الفساد والإفساد.
عندما تم تعيينها مديرةً، وقفتُ أبارك لها تعيينها في لقاء عابر جوار منزلها، وقلت محذرًا إياها من "معارك ضارية" ستواجهها. لكني، مثل الجميع، كنت واثقًا من قدرتها على النجاح. وفعلًا أثبتت أنها من أنزه المدراء، وأكثرهم شفافية وإصرارًا على العمل الناجح. لكني لم أتخيّل أن تكون نهاية هذه المعركة هي رصاصة غادرة في وضح النهار.
كم من المرات يجب أن نحزن على أرواح تزهق وهي تحمل راية البناء؟ كم من المرات سنفقد أفتهان، التي اغتيلت لأنها انتصرت للوطن في زمن صار فيه الوطن غريبًا في تعز؟ لقد أبلغت السلطات عن تهديدات بالقتل،ورفعت قضيتها إلى النيابة، لكن أحدًا لم يكن مؤهلاً لا أخلاقيًا ولا قانونيًا ولا حتى سياسيًا لحمايتها. لأن الواجب الوطني، الذي كان حاضرًا على الدوام في قاموسها، كان وسيظل هو الغائب الأكبر في قاموسهم.
اليوم، وعلى المدى الطويل، تسأل تعز: ماذا سنقول للأجيال القادمة؟ كيف سنخبرهم أن امرأة قُتلت لأنها أرادت أن تُنظف مدينتها؟ كيف نبرر هذا العار؟ هذا الجرح الذي لن يندمل؟
في زاوية من زوايا الحزن الذي يخيم على تعز منذ صباح اليوم، وجدت نفسي في زاوية أخرى أحمل حزن المدينة وأنا أتابع الجريمة على جوالي من سرير المرض في مدينة الأمير سلطان، ومن هول الصدمة ارتفعت نسبة السكر في دمي وظهرت جلياً في الفحوصات التي أجريت مساءً، وفعلاً لأول مرة في حياتي يتم حقني بالإنسولين، حقنةٍ ولكنها سوف تُذكّرني دائمًا بأن الألم في هذا اليوم لم يكن مجرد شعور يزول بتناول العقاقير الطبية، بل هو جرحٌ في الجسد والروح معًا.
أفتاهان قد رحلت، لكن دماءها ستظل تُنادي وتسأل: من قتلكِ؟ ولماذا؟ وأين كانت السلطة المحلية والأمنية والوطن حين استُهدفتِ؟
أعزي تعز بفقد رمزٍ من رموز نزاهتها، هي أفتهان المشهري، وأعزي ابنها "قصي" المفجوع باغتيال أمه وهو خارج الوطن.
غدًا، قد تُكنس الشوارع، لكن دماء أفتهان ستظل ناطقة على أعتاب كل ضمير غائب لم يعد يعرف معنى الوطن في تعز الحزينة.