المخا مدينة مسروقة
الإثنين 29 سبتمبر ,2025 الساعة: 11:28 صباحاً

 

المدن لا تُسرق بالأسلحة وحدها؛ قد تُسرق بالمسميات والمصطلحات التي تغيّر حقيقتها وتشرعن السيطرة عليها. تذكرنا تجربة قبرص بعد الاستقلال كيف زرع المستعمر فتنة بين الأتراك واليونانيين فتحول الجار إلى خصم، وكيف تحولت مصطلحات صحفية إلى أزمات طويلة الأمد. ومثل هذا المنطق اللغوي والسياسي ظهر هنا أيضًا: تسريب مصطلح "الساحل الغربي" لم يكن بريئا، فهو مصطلح هجين بلا جذور في ذاكرة الناس، لكنه يهيئ الأرضية لسرقة المدينة، بمحاولة فصل المخا عن تاريخها وارتباطها بتعز، وجعلها عرضة للابتلاع السياسي والجغرافي.

المخا ليست مجرد شاطئ أو ميناء؛ لقد كانت عبر القرون ركيزة أساسية جعلت اليمن مركزًا عالميًا للتجارة والثقافة. من هنا خرجت قهوة "موكا" التي حملت اسم اليمن إلى العالم، وحمل البخور عطر الأرض إلى معابد الأمم. بذلك ارتبطت صورة اليمن بالمخا، فإذا مُحي هذا الاسم أو استبدل بمصطلحات تجرد المدينة من تاريخها، فالأمر ليس فقدان ميناء فحسب، بل فقدان مرآة تاريخية حملت اسم البلاد في ذاكرة العالم.

اليوم أصبحت المخا إحدى أزمات تعز، وبؤرة تزيد الانقسام وتعيق المحافظة عن الانطلاق بمشروعها المحلي. كان يفترض أن تعمل تعز كمحور مدني وتاريخي، لكن أجزاء من ساحلها تحولت إلى ساحات تنازع تغلق الطريق أمام أي مشروع محلي حقيقي. وللأسف، هناك من يتعامل مع هذه الواحة التاريخية كأنها ملكًا لعائلة عفاش أو غنيمة تُستغل وفق مصالح ضيقة، بدل أن تكون ملكًا لأهلها وللتاريخ.

النظام السابق أهمل المخا وحوّلها إلى نقطة ضعف ومعبر للتهريب بدل أن تكون مركزا للتنمية ، وورثة هذا الإهمال تصرفوا وكأنهم يتوارثون تركة لا اهل لها، فسلموها لمشاريع إقليمية تبحث عن الميناء والمضيق لا عن مستقبل الناس. واليوم يظهر طارق بجيش ممول من الخارج ليكمل ما بدأه عمه من قمع لتصغير تعز وخنق مشروعها المحلي. لم يعد الميناء والمطار وساحل المخا مشاريع تخدم أبناء المحافظة، بل أدوات لتحويل المكان إلى ورقة تستخدم لصالح قوى خارجية.

تدار ملفات متعلقة ب "الأمن" و "التجسس" الإماراتية من مكاتب غير معلنة وقريبة من جبل النار، عبر ضباط يراقبون الممرات ويعدّون الأنفاس، بينما لا يرى سكان تعز في ذلك أي مصلحة وطنية ، وبطريقة تشكل انتهاك صريح لسيادة الدولة اليمنية ، وخرق للميثاق الاممي ، والمؤلم أكثر أن بعض الرموز الاجتماعية والدينية والصحفية عادوا ليبرروا ما يجري، مكررين نمط الخضوع الذي شاهدناه سابقا ، وكأن العبودية السياسية أصبحت سلوكا متكررا يضرب كرامة المحافظة وتاريخها.

قد يقول قائل إن هذا حديث مناطقي يتعارض مع دعوات توحيد الصف، لكننا لم نكن يومًا مناطقيين. ما نقوله صرخة ضد غياب الدولة والقانون، وضد تحويل القوة والدعم الخارجي إلى وسيلة للاستيلاء على المدن والموانئ. حين يغيب العدل والمساواة، يصبح من السذاجة أن يُطلب منا الصمت بحجة الخوف من المناطقية.

أما "توحيد الصف" فهو كذبة ترددت لعقود. السياسيون الذين رفعوا هذه الشعارات لم يكونوا صادقين، لأنهم أدوات في يد الخارج، والخارج تتحكم به أجندات متضاربة لا ترى في اليمن إلا ساحة نفوذ. ولو صدقوا مرة واحدة لرفعنا الراية معهم دون تردد.

ويجب أن يعي الجميع خطورة الأمر: من قتلنا بالأمس لا يمكن ان يكون موثوق علي أمننا ومصالحنا ؛ ومن ضغط على الزناد ليقتلنا تنفيذا لحكماً اصدره عمه حينا اختلفنا " دقوهم بالقناصات كلهم صغيرهم وكبيرهم " لا يمكن أن امين علي دمنا ومصالحنا وحتي تاريخنا . القنص والاغتيال ليسا حادثتين عابرتين، بل حكما بإعدام المدنية وحكم القانون ، وتمجيد للخارجين علي القانون إذا استمر المجرمون بلا مساءلة. والسؤال الصريح: هل سيحاول طارق — بصفته صاحب نفوذ مرتبط بمراكز السلطة — أمام القضاء ليواجه ضحايانا وعائلاتهم؟ وهل هناك إرادة حقيقية لمحاسبة من قتلوا وخلفوا جراحًا لا تشفى إلا بالعدالة؟

واخيرا ، حقائق التاريخ وسننه تقول إن القتل والسطو لا يصنعان شرعية، وإن المدن المسروقة لا تموت بل تبقى حيّة في ذاكرة شعوبها حتى تعود. من يقتل الأطفال والنساء ويستولي على الموانئ بالقوة يظن أنه يفرض واقعا ، لكنه في الحقيقة يزرع بذور سقوطه، لأن الدماء لا تجف قبل أن تتحول إلى لعنة، ولأن الذاكرة الجمعية لا تنسى الجناة مهما طال الزمن. لقد أثبت التاريخ أن كل قوة قامت على الغدر والقمع انتهت إلى زوال، وأن العدالة وإن تأخرت فإنها لا تغيب.


Create Account



Log In Your Account