الخميس 02 أكتوبر ,2025 الساعة: 04:38 مساءً
فِيْ البدءِ كانت حُلماً يلمعُ في عيون الملايين، وشجرةً باسقةً تظللُ شمالَ الأرضِ وجنوبَها. لكن جذورَها لم تُحفرْ بعمقٍ في تربةِ العدلِ والشراكة، فما لبثت أن تحولت إلى غابةٍ من الصبار، كلُ شجرةٍ فيها تطعنُ الأخرى بأشواكِ الغدرِ والإقصاء.
صارَ الجنوبُ جُرحاً نازفاً في جسدِ الوطن، وجمرةً متّقدةً تحت رمادِ الذاكرة. حربُ صيف الرابع والتسعين لم تكن معركةً عابرة، بل كانت "لحظةً تأسيسيةً سالبة" انبثقت منها هويةٌ مكسورة. لم يعد "الجنوبي" يرى نفسه في مرآةِ "اليمني" الجامع، فبدأ يبحثُ عن مرايا أخرى، في متاحفِ الماضي البعيد، بين أطلالِ "الجنوب العربي" و"حضرموت الكبرى". كلُ انكسارٍ يولدُ هوياتٍ جديدة، وكلُ هويةٍ تخلقُ عدواً لها.
وفي ظلِ هذا التشظي، برزت ورشةُ "صناعةِ الأعداء". لم تعد الكراهيةُ شعوراً عفوياً، بل أصبحت صناعةً محكمة. صار (الآخرُ) اليمنيُ مادةً خامَ في معاملِ التشويهِ الإعلامي. يُقطعُ أوصالَه، يُجردُ من إنسانيته، ثم يُعرضُ في متاجرِ السياسةِ كـ "وحشٍ" جاهزٍ للكراهية. حوثي، إرهابي، انفصالي، إخواني.. . أصبحت هذه التهمُ عملاتٍ مزيفةً تتداولها النخبُ لشراءِ الولاءات.
هكذا تتحولُ الهويةُ من نعمةِ التنوع إلى نقمةِ التقاتل. لم نعد نرى في (الآخر) شريكاً في الوطن، بل منافساً على الرزق، خصماً في السلطة، عدواً في العقيدة. صارت الكراهيةُ لغةً مشتركةً نتحدثُ بها جميعاً، بلغةِ الدمِ والنار.
لكن تحتَ رمادِ هذه العاصفة، تبقى جذوةُ الأملِ متقدة. فما زال في عمقِ الوجدانِ اليمني ذاكرةٌ أخرى: ذاكرةُ "حمير" التي جمعتِ الشمالَ والجنوبَ في حضارةٍ واحدة، وروايةُ "بلقيس" التي تمثلُ الحكمةَ الجامعة. وذي يزن وسرديات ثورتي سبتمبر واكتوبر، إنها الذاكرةُ التي تتحدثُ لغةَ الجمالِ لا لغةَ القبح، لغةَ البناءِ لا لغةَ الهدم.
الخلاصُ لن يأتي بانتصارِ طرفٍ على آخر، بل بإعادةِ اكتشافِ فنِ "العيشِ معاً". لن يأتي بقوةِ السلاح، بل بقوةِ الحكمةِ التي تعيدُ خياطةَ الجرحِ بدواءِ الاعترافِ والعدالة. يحتاجُ اليمنُ إلى "دستورٍ للذاكرة" يعترفُ بكلِ الجراح، وإلى "خريطةٍ جديدةٍ للهوية" تتسعُ لكلِ الألوان.
فاليمنُ ليس أرضاً تُقتسمُ بالحديدِ والنار، بل هو فسيفساءُ ثقافاتٍ تلتقي تحت قبةِ سماءٍ واحدة. ولو أدركنا أن "الآخر" الذي نحاربهُ هو في الحقيقةِ صورتنا في المرآة، لَعلمنا أن كلَ طعنةٍ نوجهها له ستثقبُ جسدنا نحن أولاً.
في النهاية، ليست المعركةُ معركةَ وجود، بل هي معركةُ وعي. والانتصارُ الحقيقيُ ليس أن تظفرَ بهويتك على هويةِ غيرك، بل أن تكتشفَ أن الهويةَ الحقيقيةَ هي تلك التي تتسعُ للجميع.