الجمعة 10 أكتوبر ,2025 الساعة: 06:39 مساءً

الحرف28 - هودج : ياسمين يوسف
في غرفة واحدة، تجلس فاطمة "اسم مستعار" تحت وطأة نارين نار المبتز الإلكتروني الذي يهدد ابنتها، ونار تهديدات الطلاق من زوجها الذي يرمي باللوم عليها، هذه هي المعادلة القاسية التي تدفع ثمنها أمهات كثيرات في صمت، ليصبح "الابتزاز الإلكتروني" سببًا جديدًا يهدد كيان الأسر، حيث انه لم يعد مجرد جريمة إلكترونية تُسجل في محاضر الشرطة، بل تحوّل إلى سبب جديد للطلاق، خاصة تلك التي تعيش في ظروف صعبة.
الأم تواجه العاصفة وحدها
بدأت القصة في إحدى قرى مديرية العدين بمحافظة إب، داخل منزل صغير تعصف فيه صعوبات الفقر بالحياة اليومية. هنا، كانت مريم (اسم مستعار) البالغة من العمر 17 عامًا مضطرة لشحن هاتفها القديم عند جيرانها، بسبب انقطاع الكهرباء الحكومية نتيجة الحرب الأهلية المستمرة منذ عشر سنوات، وعدم كفاية شحن بطارية الطاقة الشمسية الصغيرة التي يمتلكها المنزل لإضاءة البيت فقط. في إحدى هذه المرات، وبظروف غامضة، سُرّبت بعض الصور الخاصة من هاتفها دون علمها، ولم تكن تعرف أن تلك اللحظة العابرة ستتحول إلى كابوس يلاحقها.
بعد تعرضها للابتزاز، لجأت مريم إلى والدتها بثقة. لكن الأب، عند إبلاغه، لم يكن سندًا، بل تحوّل إلى خصم، مهددًا بالطلاق وملقيًا باللوم على كل من الأم وابنتها، ما حول المنزل من مساحة آمنة إلى ساحة صراع. تحوّلت الضغوط النفسية الهائلة التي تعانيها فاطمة، بين خوفها على ابنتها من تبعات الابتزاز وغضبها من رد فعل زوجها غير المتفاهم، إلى شقاق عميق.
وأكدت: "كنت أعاني من كابوس الابتزاز في الخارج، ومن صراع عدم التفاهم داخل بيتي. زوجي يرى أن الحل هو الصمت والتستر خوفًا من 'الفضيحة'، بينما كنت أؤمن بأن مواجهة المشكلة والتحدث إلى عاقل الحارة هو السبيل الوحيد لإنقاذ ابنتنا". هذا الاختلاف في منهجية التعامل مع الأزمة واللوم المستمر أوصل العلاقة الزوجية إلى حافة الانهيار، حتى أصبحت كلمة "طلاق" تتردد في نهاية كل مشادة عنيفة.
أم شجاعة.. تتحدى النارين
رفضت فاطمة الاستسلام لتهديدات زوجها أو ضغوط المجتمع. بكل شجاعة، تحوّلت إلى درع واقٍ لحماية ابنتها، وطلبت تدخل عاقل الحارة لتهدئة الأب وتذكيره بأن العدو الحقيقي هو المبتز وليس الابنة الناجية.
وفي تعليق على تبعات الابتزاز الإلكتروني وما يترتب عليه من تحميل الأم المسؤولية دون الأب، يقول الدكتور محمود البكاري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز: "المجتمع اليمني مجتمع محافظ يقوم على السلطة الأبوية على الأبناء، حيث تتركز سلطة الأب على الأبناء الذكور لغرس القيم والمثل والأعراف الاجتماعية، بينما تتولى الأم تربية البنات وغرس القيم والأخلاق والفضائل التي يقرها المجتمع. وبناءً عليه، يتحمل الأب مسؤولية أي أخطاء أو مخالفات يرتكبها الذكور، بينما تتحمل الأم مسؤولية أي أخطاء من جانب البنات. وعليه، فإن توزيع الأدوار في إطار الأسرة يجعل الأم مسؤولة مباشرة أمام الأب عند وقوع أي مخالفة، وقد تؤدي هذه المسؤولية أحيانًا إلى الطلاق، حسب نوع الأخطاء أو القصور في عملية التنشئة الاجتماعية".
الأم الحارس الأول
تؤكد الناشطة الحقوقية تهاني الصراري أن البنية الاجتماعية الذكورية تجعل الأم وحدها تتحمل تبعات جريمة الابتزاز، مع إعفاء الأب من المسؤولية. وترى الصراري أن ثقافة الشرف تختزل شرف الأسرة في سلوك الفتاة، ما يجعل الأم الحارس الأول لهذا الشرف، وعند تعرض ابنتها للابتزاز تُوجَّه إليها تهمة الفشل في الحماية.
وتضيف الصراري: "هذا يخلق ضغوطًا مضاعفة على الأم، بينما يُهمش دور الأب. ومن آثار الابتزاز على الفتاة القلق والاكتئاب وفقدان الثقة، ما قد يؤدي إلى انعزالها أو حتى زواجها القسري. وتمتد الآثار لتشمل الأسرة، فتسبب تفككًا وضغوطًا اجتماعية، مما يدفع بعض الأسر إلى التستر أو دفع المال بدلاً من اللجوء إلى القانون".
وأكدت الصراري أن "الابتزاز الإلكتروني ليس مجرد اعتداء فردي، بل قضية مجتمعية تتطلب حماية قانونية فعالة، ودعمًا نفسيًا واجتماعيًا شاملاً للضحايا وأسرهن، مع ضرورة إنهاء ممارسات اللوم غير العادل على الأمهات وإعادة توزيع المسؤولية بشكل متوازن داخل الأسرة والمجتمع".
ومع ذلك، ما زالت معركة "فاطمة" مستمرة، لكنها بشجاعتها انتصرت على الجزء الأصعب: الخوف من الوصمة الاجتماعية والتحدي. لقد حولت مسار القصة من "فضيحة" يجب إخفاؤها إلى "جريمة" يجب مواجهة مرتكبها، وأثبتت أن أقوى سلاح في مواجهة مشكلات العالم الرقمي هو التضامن الأسري والشجاعة، التي تبدأ أحيانًا بأم واحدة تقف كالجبال. قصتها تظل شهادة صارخة على "التكلفة الخفية" للابتزاز الإلكتروني، التي لا تُقاس بالمال، بل بسلامة الأسر وتماسكها، وتذكيرًا بأهمية التضامن الأسري في مواجهة تحديات العصر الرقمي، وأن المجتمع بحاجة إلى المزيد من أمهات مثل "فاطمة"، اللواتي يرفضن أن تُكسَر بناتهن مرتين: مرة بالابتزاز ومرة باللوم.
تم إنتاج هذه المادة بالاتفاق مع منصة هودج